فلما خفت شدة الاهتياج في براغ بعد وقت عاد هس الى كنيسته المسماة بيت لحم ليواصل الكرازة بكلمة الله بغيرة وشجاعة عظيمتين . كان اعداؤه نشيطين وأقوياء، لكنّ الملكة وكثيرين من النبلاء وقفوا الى جانبه . وكثيرون اذ قارنوا بين تعاليمه النقية المثقفة المنعشة وحياته المقدسة من جهة،والمبادئ ا لمنحطة الحقيرة التي كان ينشرها البابويون، والجشع والدعارة والفجور التي كانوا يرتكبونها من جهة اخرى، اعتبروا الانحياز اليه شرفا عظيما. GC 113.2
كان هس قد وقف وحده في عمله وكفاحه حتى ذلك الحين، غير أن جيروم، الذي كان قد اعتنق تعاليم ويكلف وهو في انجلترا، انضم اليه في عمل الاصلاح. واتحد الاثنان بعد ذلك في حياتهما، ولم يفترقا في موتهم ا. كان جيروم متألق الذكاء ذا فصاحة وعلم غزير، وقد احرز نصيبا كبيرا في تلك المواهب التي تظفر برضى الشعب واستحسانه، لكن هس كان متفوقا عليه في الصفات التي تحدد قوة الخلق الحقيقية، فكانت افكاره الهادئة ورأيه الصائب رادعا لروح جيروم المتحفزة الوثابة، وهذا الاخير عرف بتواضع حقيقي قدر هس وخضع لمشوراته، وبفضل جهودهما المتحدة انتشر الاصلاح بسرعة عظيمة. GC 114.1
لقد جعل الله نوراً عظيماً يشرق على عقلي هذين الرجلين المختارين، فكشف لهما الشيء الكثير من ضلا لات روما، ولكنهما لم يحصلا على كل النور الذي كان مزمعا أن يعطى للعالم . كان الله عن طريق خادميه هذين يخرج الشعب من ظلمات البابوية، ولكن كان لا بد لهما من مواجهة عقبات ومعطلات كثيرة وعظيمة، وقد قادهما الله خطوة فخطوة على ق در احتمالهما. انهما لم يكونا مستعدين لقبول كل النور دفعة واحدة . فلو قدم اليهما النور في ملء قوته مثل نور الشمس في وقت الظهيرة الى قوم عاشوا طويلا في الظلام، فلربما كانا يرتدان راجعين . ولذلك كشف الله النور لهذين القائدين ق ليلا قليلا بمقدار ما يستطيع الشعب تقبله . ومن جيل الى جيل كان على العاملين الآخرين أن يسيروا متتبعين هذا الطريق وأن يقودوا الشعب الى الأمام في طريق الاصلاح. GC 114.2
ظل الانشقاق متفشيا في الكنيسة . فكان هنالك ثلاثة باباوات يتنازعون السيادة، وامتلأت ربوع العالم المسيحي بالجرائم والشغب تبعا لتلك المشاغبات والمنازعات . واذ لم يكتف كل منهم بقذف الحرم في وجه الآخرين لجأ الى الأسلحة المادية، فبُذل المال لشراء الأسلحة وحشد الجيوش . وكان الثلاثة يحتاجون الى المال بطبيعة الحال، فلكي يحصلوا عليه عُرضت هبات الكنيسة ووظائفها وبركاتها للبيع (انظر التذييل ). وتمثل الكهنة برؤسائهم فلجأوا الى السيمونية والحرب لاذلال منافسيهم وتقوية سلطانهم هم . أما هس فكان كل يوم يزيد بسالة ويرعد بكلامه ضد الرجاسات التي كانت الكنيسة تغضي عنها وتتساهل معها باسم الدين، وكان الناس يتهمون قادة كنيسة روم ا جهارا بأنهم علة كل الشقاء الذي غمر العالم المسيحي. GC 114.3
ومرة أخرى بدا كأن مدينة براغ على وشك الاشتباك في حرب دامية . وكما كانت الحال في العصور القديمة أتهم خادم الرب بأنه ”مكدر اسرائيل“ (١ ملوك ١٨ : ١٧). ومرة أخرى وقعت المدينة تحت ا لحرم البابوي فانسحب هس راجعا الى قريته . وانتهت شهادته الأمينة التي كان يؤديها في كنيسته المسماة بيت لحم، وكان عليه أن يتكلم في مجال أوسع لكل العالم المسيحي قبل أن يبذل حياته كشاهد للحق. GC 115.1
ولأجل معالجة المساوئ والشرور التي أذهلت أوروبا وأربكتها استدعي مجمع عام للانعقاد في كونستانس . وقد دُعي المجلس بناء على رغبة الامبراطور سجسموند بواسطة أحد الباباوات الثلاثة المتنافسين هو يوحنا الثالث والعشرون. لكنّ هذا البابا المدعو يوحنا لم يكن في الحقيقة يرحِّب باستدعاء المجلس لأن أخلاقه وسياسته لم تكن تحتمل الفحص والامتحان حتى على أيدي الأساقفة الذين كانوا متهاونين في تصرفاتهم الأخلاقية كأعضاء الكنائس في تلك الايام . ومع ذلك فهو لم يكن يجرؤ على مقاومة ارادة سجسموند (انظر التذييل). GC 115.2
وكان من أهم الأغراض التي كان على المجمع انجازها معالجة الانشقاق الحادث في الكنيسة واستئصال الهرطقة. ولأجل هذا دعي البابوان الآخران المتنازعان للمثول أمام المجمع، وكذلك المروّج الأكبر للآراء الجديدة أي جون هس. أما ذانك البابوان فاذ كانا يحرصان على سلامتهما لم يذهبا بنفسهما بل أنابا عنهما ممثلين موفدين من قبلهم ا. وأما البابا يوحنا الذي كان حسب الظ اهر هو الداعي الي ذلك الاجتماع فقد حضر لكنّ الهواجس كانت تساوره اذ كان يشك في نيات الامبراطور ويخشى ان يخلعه ويحاسبه على الرذائل التي جلبت العار على تاجه البابوي وعلى كل الجرائم التي ارتكبها للوصول الى ذلك المركز. ومع ذلك فقد دخل مدينة كونستانس بأبهة عظيمة يحف به رجال الإكليروس من أعلى الرتب ويتبعه جمع كبير من الندماء . وخرج كل رجال الاكليروس في المدينة ورؤساؤها وجمع غفير من المواطنين للترحيب به . وكانت فوق رأسه مظلة من ذهب يحملها أربعة من عظماء الحكام. وقد ح مل القربان المقدس أمامه، كما حضر الكرادلة والنبلاء في حللهم البهية في عرض مهيب. GC 115.3
وفي أثناء ذلك كان هنالك مسافر آخر يقترب من مدينة كونستانس . كان هس يحس بالمخاطر التي تتهدده وقد ودع اصدقاءه كما لو أنه لن يلتقيهم مرة أخرى، وسار في رحلته وهو شاعر بأن نهايته ستكون الموت حرقا بالنار . وعلى الرغم من أنه كان قد حصل على صك الأمان من ملك بوهيميا كما حصل على صك آخر من الامبراطور سجسموند فقد عمل ترتيبه على أنه قد يموت. GC 116.1