وعندما وصل الموكب إلى حافة التل وكانوا مزمعين أن ينحدروا إلى المدينة توقف يسوع فتوقف كل الجمع معه . لقد انبسطت أمامهم مدينة أورشليم بكل مجدها وقد سطعت عليها أشعة شمس الأصيل ، فاجتذب الهيكل أنظار الجميع . ففي فخامته المنقطعة النظير ارتفع الهيكل متشامخا فوق كل الأبنية كأنما يشير إلى السماء ، وكأنما هو يوجه أنظار الشعب إلى الإله الحي الحقيقي . لقد ظل الهيكل موضوع فخر الأمة اليهودية وعنوان مجدها أحقابا طويلة . بل حتى الرومان أنفسهم كانوا يفخرون لفخامته . إن أحد الملوك الذين قد أقامهم الرومان اشترك مع اليهود في إعادة بناء الهيكل وزخرفته. وقد أغدق عليه إمبراطور روما هداياه . إن متانته وغناه وروعته جعلت منه إحدى عجائب الدنيا. ML 538.2
وإذ كانت أشعة الشمس المائلة إلى الغروب تصبغ السماوات بألوانها الذهبية فقد أضاء مجدها المطلق على جدران الهيكل المرمرية البيضاء فلمعت أعالي أعمدته المذهبة. ومن قمة الجبل الذي كان يسوع وتلاميذه واقفين عليه كان الهيكل يشبه بناء كبيرا في مثل بياض الثلج وأبراجه مموهة بالذهب . وعند مدخل الهيكل كانت توجد كرمة مصنوعة من الذهب والفضة لها أوراقها الخضراء وعناقيد كبيرة من العنب أبدعت في نقشها أنامل أمهر الفناين . وكان هذا الرسم يمثل بني إسرائيل ككرمة نضيرة مثمرة . وقد امتزج الذهب بالفضة في ذوق نادر وصنعة شائقة والكرمة تلتف برشاقة حول الأعمدة البيضاء المتألقة وهي تتعلق بفروعها وبعطفاتها المتلألئة على زخارفها الذهبية . وانعكس عليها نور الشمس في غروبها فتألق ضياؤها ببهاء عظيم كأنما قد استعارته من السماء. ML 539.1
ها هو يسوع يتطلع إلى ذلك المشهد ، وهوذا ذلك الجمع الغفير من الناس يصمتون إذ أذهلهم ذلك المنظر المفاجئ ، منظر الجمال الأخاذ. وهنا تتجه كل الأنظار إلى المخلص وهم ينتظرون أن يروا على محياه لوائح الإعجاب الذي يحسون به . ولكنهم بدلا من ذلك يشاهدون سحابة حزن متجمعة على جبينه ، فأصابتهم الدهشة وخيبة الأمل وهم يرون عينيه وقد امتلأتا بالدموع وجسمه يتمايل ويهتز كشجرة أمام ريح عاتية ، وإذا بشفتيه المرتعشين تنفرجان عن عويل مؤلم ومرثاة حزينة ، وكأن كلامه ينبعث من قلب منسحق جريح . يا له من منظر تطلَّع عليه الملائكة ! ها رئيسهم المحبوب ينتحب ويبكي الدموع !وأي منظر هذا الذي يراه ذلك الجمع الفرح الطروب الذين وهم يهتفون هتافات الانتصار ويلوحون بسعوف النخل كانوا يحفون به ليأتوا به إلى المدينة المجيدة ، والأمل يراودهم بأنه مزمع أن يصير ملكا ! كان يسوع قد بكى أمام قبر لعازر ، ولكن حزنه حينئذ كان حزنا إلهيا عبر به عن عطفه على بني الإنسان المتألمين المحزونين . أما هذا الحزن المفاجئ فكان يشبه نغمة عويل في نشيد انتصار عظيم . ففي وسط مشهد الفرح حيث كان الجميع يقدمون له ولاءهم كان ملك إسرائيل يبكي أمر البكاء . ليس بدموع الفرح الهادئة بل لدموع وأنين لا يمكن أن يكبت . وقد شمل تلك الجموع حزن مفاجئ فكفوا عن الهتاف . وكثيرون بكوا مشاركةً له في حزنه الذي لم يكونوا يدركون كنهه. ML 539.2
إن بكاء يسوع لم يكن بسبب توقعه الآلام التي ستحل به. كان أمامه مباشرة بستان جثسيماني حيث سيكتنفه رعب تلك الليلة الداجية . وكذلك كان بالقرب من ذلك المكان باب الضأن الذي كانت تمر منه قطعان الغنم التي كانت تقدم كذبائح كفارية مدى قرون طويلة .وبعد قليل كان هذا الباب سيفتح له هو السيد العظيم المرموز إليه الذي كانت كل التقدمات تشير إلى ذبيحته لأجل خطايا العالم . وقريبا من ذلك المكان كانت جلجثة التي كان سيمثل فيها مشهد موته القريب . ولكن الفادي لم يبك أو يتأوه في مرارة نفسه وانسحاق روحه بسبت تلك المشاهد التي كانت تذكره بموته القاسي . إن حزنه لم يكن حزنا أنانيا . وتفكيره في موته لم يكن ليفزع تلك الروح النبيلة المضحية بنفسها . ولكن ما طعن قلب يسوع في الصميم كان هو منظر مدينة أورشليم- أورشليم التي قد رفضت ابن الله واحتقرت محبته كما رفضت الاقتناع بعجائبه وآياته العظيمة وكانت مزمعة أن تقضي عليه بالموت . رآها في حالتها الراهنة وقد لطخت يديها بجريمة رفض فاديها ، وما كان يمكن أن تصير إليه لو أنها قبلت ذاك الذي كان يستطيع دون سواه أن يبرئ جروحها . لقد أتى لكي يخلصها فكيف يطاوعه قلبه أن يمضي ويتركها تهلك ؟ ML 540.1