وفي سن مبكرة جدا بدأ يسوع يستقل بنفسه في تكوين أخلاقه ، ولم يستطع حتى احترامه ومحبته أبويه أن يحولا بينه وبين الطاعة لكلمة الله. وقد كان جوابه على كل عمل خالف فيه عادات العائلة: “مكتُوبٌ” ولكن نفوذ المعلمين وسلطانهم جعل حياته مريرة . حتى في مستهل شبابه كان عليه أن يتعلم الدروس القاسية دروس السكوت على الضيم والصبر والاحتمال. ML 71.2
ثم إن إخوته ، كما كان أبناء يوسف يدعون ، انحازوا إلى جانب معلمي إسرائيل ، وأصروا على وجوب حفظ التقاليد كما لو كانت أوامر إلهية ، لا بل حفظوا وصايا الناس واعتبروها أعظم من كلمة الله ، فاغتاظوا وتضايقوا بسبب ذكاء يسوع وفطنته في التمييز بين الزائف والحقيقي ، وحكموا عليه بأنه معاند وصلب الرأي لتدقيقه في إطاعة شريعة الله. ولقد أدهشتهم معرفته وحكمته اللتان أبداهما في إجابته على أسئلة المعلمين . لقد كانوا يعلمون أنه لم يتلق العلم على أيدي أولئك الأحبار الحكماء ، ومع ذلك فلم يسعهم إلاّ التسليم بأنه معلم لهم .ولهذا اعتبروا تعليمه أسمى من تعاليمهم . ولكنهم لم يكونوا يفطنون إلى أن شجرة الحياة كانت في متناوله ، نبع معرفة لم يكونوا يعرفون عنه شيئا ML 71.3
لم يكن يسوع ممن يميلون إلى العزلة ، وقد أغضب الفريسيين بشكل خاص إذ جنح في هذه الناحية عن قوانينهم الصارمة وأغفلها. لقد رأى المجال الديني محاطا بأسوار عالية من العزلة ، وكأنه أقدس من أن يراعيه الإنسان في شؤون الحياة اليومية . لقد هدم هو أسوار العزلة تلك ، وفي مخالطته للناس لم يسألهم عن عقائدهم ولا الكنائس التي ينتمون إليها ، ولكنه سخر قوته في خدمة كل من كانوا بحاجة إلى العون . وبدلا من الاعتزال بنفسه في صومعة كالرهبان ليبرهن على أن أخلاقه سماوية ، فقد جعل يعمل جاهدا لخير الإنسانية . ولقد قرر في ذهنه أن ديانة الكتاب لا تنطوي على إماتة الجسد ، وعلم الناس أن الديانة الطاهرة النقية ليس المقصود بها أن يمارسها الإنسان في أوقات معينة أو مناسبات خاصة . ففي كل الأوقات وكل الأماكن أبدى اهتماما حبيا بالناس وأراق من حوله نور القداسة الفرحة المبتهجة ، فكان كل ذلك توبيخا للفريسيين . وقد برهن على أن الديانة لا تنحصر في الأثرة أو الأنانية ، وأن تقواهم المريضة التي ترمي إلى منافع شخصية كانت بعيدة كل البعد عن التقوى الحقيقية الصادقة . وهذا أثار عداوتهم ليسوع حتى لقد حاولوا إرغامه على الامتثال لقوانينهم. ML 72.1
اجتهد يسوع في تخفيف آلام كل المتألمين الذين عرفهم ، ولم يكن لديه غير القليل من المال لمساعدة المحتاجين ، ومع ذلك فإنه مرارا كثيرة حرم على نفسه الطعام ليسد به رمق أولئك الذين بدا أنهم أحوج منه إلى الطعام. لقد أحس إخوته بأن تأثيره قد امتد وانتشر بحيث أبطل تأثيرهم ، إذ كان يملك لباقة لم تكن لأي منهم ولا رغب أحدهم في الحصول عليها . وبينما كانوا يكلمون الناس المساكين المنحطين بخشونة كان يسوع يبحث عن نفس أولئك المنبوذين ويكلمهم بكلام التشجيع . كان يقدم لكل ظامئ أو رازح كأس ماء بارد وبكل رقة وهدوء كان يقدم للجياع طعامه . وإذ كان يخفف من آلامهم كانت أعمال الرحمة التي كان يقدمها لهم تصحب تعاليمه التي كانت ترسخ في أذهانهم بسبب ذلك. ML 72.2