ابهتي أيتها السماوات وتحيري واقشعري أيتها الأرض . ها هم الظالمون وها هو المظلوم . هاهم جماعة من المعتوهين المجانين يحيطون بمخلص العالم ، وها هي السخرية والتهكم تتخللها الأقسام السمجة والتجاديف . وها هم الرعاع العديمو الشعور ينتقدون ميلاد المسيح الوضيع وحياة التواضع التي عاشها . وها هم يستهزئون بدعواه بأنه ابن الله ، وهاهي الأفواه تتناقل النكات السمجة والتهكم اللاذع المهين !! ML 696.1
إن الشيطان هو الذي قاد أولئك الرعاع إلى إهانة المخلص . لقد كان غرضه أن يغيظه لينتقم إذا أمكن ، أو يدفعه إلى عمل معجزة ليطلق نفسه حرا ، وهكذا ينهار تدبير الخلاص ويتحطم . فأقل لطخة على حياته البشرية ، وإخفاق بشريته ، ولو مرة واحدة في احتمال المحنة الرهيبة كان ذلك كفيلا بأن يجعل حمل الله ذبيحة ناقصة ، وهكذا يخفق المسيح في فداء بني الإنسان . ولكن ذاك الذي كان يستطيع بأمره أن يجيء بالأجناد السماويين لمعونته ، الذي كان يستطيع أن يطرد أولئك الرعاع فيفرون هاربين مرتعبين من منظره عندما يرهبهم بنور جلال ألوهيته ، استسلم بهدوء كامل للإهانات والاعتداءات السمجة. ML 696.2
لقد طلب أعداء المسيح منه آية لإثبات ألوهيته ، ولكن كان أمامهم برهان أعظم بكثير من كل ما طلبوه . فكما أن القسوة جعلت معذبي يسوع ينحطون إلى أحط من درجة الإنسانية فصاروا كالشياطين ، كذلك وداعة يسوع وصبره رفعا مقامه فوق بني الإنسان ، وبرهنا على صلته بالله . إن اتضاعه كان ضمانا لرفعته وتمجيده . وإن قطرات الدماء التي نزلت من صدغيه إلى وجهه ولحيته كانت ضمانا لتطييبه “بزيت الابتهاج” (عبرانيين 1 : 9) كرئيس كهنتنا العظيم. ML 696.3
اهتاج الشيطان وغضب جدا حين رأى أن كل الإهانات التي انهالت على المخلص لم تستطع أن تجعله ينطق بكلمة تذمر واحد . فمع أنه اتخذ طبيعة الإنسان فقد أسندته قوة الجلد والاحتمال الإلهي ، ولم يمل عن إرادة أبيه في صغيرة أو كبيرة. ML 697.1
إن بيلاطس عندما أسلم يسوع للجلد والسخرية كان يظن إنه بذلك يثير عطف الشعب عليه ، وكان يرجو أنهم سيعتبرون ذلك قصاصا كافيا . وكان يظن أيضا أنه حتى الكهنة الحاقدون سيقنعون بذلك . ولكن أولئك اليهود رأوا بذكائهم الحاد ضعف بيلاطس في تأديبه لإنسان أعلن هو مرارا أنه بريء . وقد رأوا أن بيلاطس يبذل جهوده لإنقاذ حياة الأسير فصمموا على عدم إطلاق يسوع . وقد جعلوا يفكرون قائلين: إن بيلاطس أمر بجلد يسوع لكي يرضينا ، فإذا كنا نمضي بإصرارنا حتى نصل إلى نتيجة حاسمة فسنبلغ مأربنا. ML 697.2
أما بيلاطس فقد أرسل الآن يطلب الإتيان بباراباس إلى دار القضاء . فلما جيء به أوقف ذينك الأسيرين جنبا إلى جنب . وإذ أشار إلى المخلص قال بصوت التوسل المهيب: “هوذا الإنسان! ”، “ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا أني لست أجد فيه علّة واحدة” (يوحنا 18 : 5 و 4). ML 697.3
هناك وقف ابن الله وعليه ثوب السخرية وإكليل الشوك . وإذ كان معرى إلى الحقوين بانت على ظهره آثار الجلدات الطويلة القاسية التي جرى الدم منها غزيرا . وكان وجهه ملطخا بالدم ، وبدت عليه آثار الإرهاق والألم الشديد . ولكنه كان حينئذ أجمل مما كان في أي وقت مضى . لم يكن منظر المخلص مفسدا أمام أعدائه ، وقد عبرت كل تقاسيم وجهه عن الرقة والتسليم وأرق الحنان نحو أعدائه القساة . لم يبد عليه الجبن أو الضعف بل قوة وعظمة الاحتمال وطول الأناة . كان الفرق عظيما بينه وبين الأسير الواقف إلى جواره فكل تقاطيع وجه باراباس دلت على أنه وغد قاس ، وقد ظهر الفرق واضحا لدى كل المشاهدين . كان بعض أولئك الناس يبكون . فإذ نظروا إلى يسوع فاضت قلوبهم بالعطف عليه . وحتى الكهنة والرؤساء اقتنعوا بصدق دعواه. ML 697.4
لم يكن كل الجنود الرومان المحدقين النظر إلى المسيح قساة ، فقد كان بعضهم ينظرون إليه بكل اهتمام ليروا دليلا واحدا ينبئ عن كونه مجدفا أو شخصا خطرا . ومن وقت إلى آخر كانوا ينظرون إلى باراباس نظرات الازدراء . ولم تكن هنالك حاجة إلى فراسة عميقة لمعرفة خبايا أخلاقه . ثم بعد ذلك كانوا يلتفتون إلى ذاك الواقف ليحاكم ، وقد نظروا إلى ذلك المتألم الإلهي بإشفاق عميق . إن استسلام المسيح الصامت طبع على أذهانهم منظرا لن يمحى ، إما إلى أن يعترفوا بأنه هو مسيا ، أو إلى أن يختموا على مصيرهم برفضهم إياه. ML 697.5
امتلأ بيلاطس دهشة من صبر المخلص في غير تذمر أو شكوى . ولم يكن يشك في أن منظر هذا الإنسان الذي يختلف اختلافا بينا عن منظر باراباس سيحرك اليهود بالعطف على يسوع . ولكنه لم يكن يفهم مقدار الكراهية والتعصب المرير الذي كان يضمره الكهنة للمسيح الذي لكونه نور العالم فقد كشف عن ظلمتهم وشرهم . لقد أهاجوا الرعاع ليثوروا عليه ثورة جنونية . ومرة أخرى صرخ الكهنة والرؤساء والشعب تلك الصرخة المخيفة قائلين: “اصلبه! اصلبه! ”. أخيرا إذ نفذ صبر بيلاطس أمام قسوتهم غير المعقولة صاح قائلاً: “خذوا أنتم واصلبوه، لأني لست أحد فيه علّة” (يوحنا 19 : 6). ML 698.1
إن هذا الحاكم الروماني مع إنه كان معتادا رؤية مناظر القسوة فقد تحرك قلبه بالعطف على ذلك الأسير المتألم الذي مع إنه حكم عليه وجلد وكان دامي الجبهة وممزق الظهر ، فقد كانت هيئته لم تزل هيئة ملك على عرشه . ولكن الكهنة أعلنوا قائلين: “لنا ناموس، وحسب ناموسنا يجب أن يموت، لأنه جعل نفسه ابن الله” (يوحنا 19 : 7). ML 698.2