فإذ أوقف الشيطانُ المسيح فوق جبل عال جعل جميع ممالك العالم ومجدها تمر أمامه كما في مشهد متحرك. أشرق نور الشمس على مدن العالم وهياكلها العظيمة ، وعلى القصور المرمرية ، والحقول الغنية بالخيرات ، والكروم المحملة بالثمار . وقد اختفت عن الأنظار آثار الشر . إن عيني يسوع اللتين أبصرتا قبيل ذلك مناظر الخراب المحزنة تريان الآن منظر الجمال والنجاح الذي لا يبَارى . وحينئذ سمع صوت المجرب يقول: “لَك أُعطي هَذا السلْطانَ كُلَّه وَمجدهن ، لأَنَّه إِلي قَد دُفع ، وَأَنا أُعطيه لِمن أُرِيد . فَإِنْ سجدتَ أَمامي يكُونُ لَك اْلجميع” (لوقا 4 : 6، 7). ML 109.1
إن مهمة المسيح لم تكن لتتم بغير الألم ، فكانت الحياة أمامه حياة آلام ومشقات ومصارعات ، كما كان كل ذلك سينتهي بموت مشين. كان عليه أن يحمل خطايا العالم كله ، وكان ينبغي له أن يتحمل ألام الانفصال عن محبة أبيه . وها هو المجرب يظهر الآن استعداده للتخلي عن السلطان الذي كان قد اغتصبه ، والمسيح يستطيع أن ينجي نفسه من المصير المخيف الذي ينتظره متى اعترف بسيادة الشيطان . ولكن إذا فعل ذلك فلابد أن يتنازل عن النصرة في ذلك الصراع العظيم . إن الشيطان عندما حاول أن يرفع مقامه فوق مقام ابن الله أخطأ في السماء ، فإذا انتصر الآن فسيكون ذلك انتصارا للعصيان. ML 109.2
وعندما أعلن الشيطان قائلا للمسيح إن ممالك العالم ومجدها قد دفعت إلي وأنا أعطي هذا السلطان كله لمن أريد ، كان يقرر بعض الحق وليس الحق كله. لقد قال ما قاله ليخدم أغراض الخداع الذي كان يضمره في نفسه . إن سلطان الشيطان الذي كان يتشدق به كان هو السلطان الذي قد اغتصبه من آدم . ولكن آدم كان وكيلا للخالق ونائبا عنه ، فلم يكن ليستقل بسلطانه . إن الأرض لله ، وقد وضع كل شيء في يدي ابنه ، وكان على آدم أن يملك خاضعا لله . وعندما سلم آدم سلطانه بين يدي الشيطان ظل المسيح الملك الشرعي . وهكذا قال الرب للملك نبوخدنصر: “أَنَّ اْلعلي متسلِّطٌ في ممَلكة النَّاسِ ، فَيعطيها من يشاءُ” (دانيال 1 : 17). والشيطان يستطيع أن يمارس سلطانه الذي قد اغتصبه على قدر ما يسمح له الله ML 109.3
عندما قدم المجرب للمسيح ممالك العالم ومجدها كان يقصد أن يتخلَّى المسيح عن ملك العالم الحقيقي ويحكم تحت سلطان الشيطان. لقد كان هذا الملك هو الذي قد ركز اليهود آمالهم فيه . كانوا يرغبون في ملكة عالمية فلو رضي المسيح بأن يمنحهم هذا الملكوت لكانوا فد قبلوه بكل سرور . ولما كانت لعنة الخطية وكل ويلاتها قد استقرت على تلك المملكة . فقال المسيح للمجرب. “اذْهب يا شَيطانُ! لأَنَّه مكتُوبٌ: لِلربِّ إِلهِك تَسجد وَإِياهُ وَحدهُ تَعبد” (متى 4 : 10). ML 110.1
إن ذاك الذي كان قد عصى في السماء هو الذي قدم ممالك العالم للمسيح ليشتري ولاءه لمبادئ الشر ، ولكن المسيح لم يمكن إرشاؤه ، فلقد أتى ليقيم ملكوت البر ، ولذك لم يرد التخلي عن غرضه. إن الشيطان يقترب من الناس بنفس تلك التجارب ، وهو يفلح في خداعهم أكثر مما أفلح مع المسيح . فهو يقدم لهم ملك هذا العالم على شرط أن يعترفوا له بالسيادة ، كما يطلب منهم أن يضحوا بالاستقامة ويستخفوا بالضمير وينغمسوا في الأنانية. بينما المسيح يأمرهم بأن يطلبوا أولا ملكوت الله وبره ، غير أن الشيطان يسير إلى جانبهم ويوسوس في صدورهم قائلا: مهما تكن الحياة الأبدية حقيقية وثمينة فلكي تشقوا طريقكم في هذه الحياة وتنجحوا ينبغي لكم أن تخدموني . إن سعادتكم هي بين يدي فأنا أستطيع أن أُغدق عليكم الثروة والمسرات والكرامة والسعادة . فأصغوا إلى مشورتي ، ولا تحملوا مع تيار المبادئ الغريبة كالأمانة وإنكار الذات والتضحية . إني سأمهد لكم الطريق . وهكذا ينخدع كثيرون ، حيث يرضون بأن يعيشوا لخدمة الذات والشيطان يقنع بذلك . وإذ يغويهم برجاء الملك العالمي فإنه يملك على نفوسهم . ولكنه يقدم لهم ما لا حق له في تقديمه لأحد وما لابد أن يؤخذ منه وشيكا . وفي مقابل ذلك يحتال عليهم ويحرمهم من نصيبهم في ميراث أبناء الله. ML 110.2