(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في تكوين 3).
ان الشيطان إذ لم يجد لنفسه مجالا لإثارة التمرد في السماء وجدت عداوته لله مجالا للتآمر على إهلاك الجنس البشري ، فلقد رأى في السعادة والسلام اللذين كان ينعم بهما ذانك الزوجان القديسان لمحة من الغبطة التي خسرها إلى الأبد ، فبدافع الحسد عول على تحريضهما على العصيان ، وحاول أن يجلب عليهما جرم الخطية وقصاصها . إنه سيحول محبتهما إلى شك ، وأغاني الحمد إلى الطعن في حق جابلهما ، وبهذه الطريقة لا يوقع هذين المخلوقين البريئين في نفس شقائه الذي يعانيه هو فحسب ، بل يلقي على الله الهوان والعار ، ويسبب حزنا لساكني السماء . AA 33.1
ولم يترك أبوانا الأولان بدون إنذار بالخطر الذي يهددهما ، فلقد أوضحت لهما رسل السماء تاريخ سقوط الشيطان ومؤامراته التي يحيكها لإسقاطهما ، كما أوضحوا لهما بكل إسهاب طبيعة حكم الله الذي كان سلطان الشر يحاول أن يقلبه . إن سبب سقوط الشيطان وجنوده هو عصيانهم لوصية الله العادلة ، فكم إذا هو ضروري أن يكرم آدم وحواء الشريعة ، إذ بذلك وحده يمكن أن يستتب النظام والمساواة . AA 33.2
إن شريعة الله مقدسة كالله نفسه ، هي إعلان إرادته ، وصورة طبق الأصل من صفاته ، وهي التعبير عن محبة الله وحكمته . إن الوفاق في الخليقة يتوقف على امتثال كل الخلائق وكل الكائنات العاقلة وغير العاقلة لشريعة الخالق . لقد رسم الله القوانين ليس فقط لتدبير شؤون الخلائق الحية ، بل أيضا لكل ما يجري في الطبيعة من أحداث ، فكل شيء يخضع لقوانين ثابتة لا يمكن تعديها ، ولكن في حين أن كل شيء في الطبيعة تسيطر عليه قوانين طبيعية ، فالإنسان وحده ، دون كل سكان الارض ، مسؤول أمام الناموس الأدبي . فللإنسان الذي هو تاج الخلائق كلها أعطى الله قوة ليفهم مطاليبه ويدرس العدل والإحسان المتضمنين في شريعته وحقوقها المقدسة عليه . فالمطلوب من الإنسان هو الطاعة التي لا أثر فيها للانحراف . AA 33.3
كانا أبوانا يسكنان جنة عدن في حالة امتحان كالملائكة . فيمكن أن تدوم لهما السعادة على شرط الولاء والطاعة لشريعة الخالق ، فإن أطاعا نعما بالحياة ، أما إذا عصيا فمصيرهما الهلاك . لقد أغدق الله عليهما من بركاته الغنية ، فإذا احتقرا إرادته فذاك الذي لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا لا يمكن أن يبقي عليهما . فالتحدي يسقط حقهما في هباته ويجلب عليهما الشقاء والهلاك . AA 34.1
لقد حذرهما الملائكة بأن يسهرا على نفسيهما ضد مكايد إبليس ، لأنه لا يكل من محاولة إيقاعهما في أشراكه . لم يكن الشرير بمستطيع أن يمسهما ما بقيا مطيعين لله ، ولو دعت الحاجة لكان كل ملائكة السماء يخفون إلى نجدتهما . فلو أنهما بكل ثبات صدا أولى محاولاته لكانا يصبحان في أمان كرسل السماء أنفسهم . أما إذا خضعا للتجربة مرة واحدة فلا بد أن تفسد طبيعتهما بحيث لن تعود لهما قوة أو ميل في نفسيهما لمقاومة الشيطان. AA 34.2
وكانت شجرة المعرفة قد جعلت امتحانا لطاعتهما ومحبتهما لله . فرأى الرب مناسبا أن ينهاهما عن أمر واحد فيما يختص باستعمال كل ما في الجنة . ولكن إذا عصيا إرادته في هذا الأمر الواحد فلا بد أن يوجبا على نفسيهما جرم العصيان . وما كان على الشيطان أن يلاقحهما بتجاربه ، بل كان يمكنه الوصول إليهما عند الشجرة المنهي عنها ولو أنهما حاولا فحص طبيعة تلك الشجرة فلا بد أن يتعرضا لمكايده . وقد أنذرا بأن يحتاطا ويتحفظا لنفسيهما ، ويلتفتا إلى ذلك الإنذار الذي أرسل الله به إليهما ، ويحرصا على العمل به . AA 34.3
أما الشيطان فلكي يتمم غرضه دون أن يلحظه أحد وقع اختياره على الحية لتكون وسيلته ، وهذا تنكر يتفق مع مقاصده الخادعة ، وكانت الحية حينئذ أحكم وأجمل الخلائق التي على الأرض . كانت ذات أجنحة ، وإذ كانت تطير في الهواء كان يُرى لها منظر يتألق بالنور والضياء في مثل لون الذهب المصفي . وإذ استقرت على أغضان الشجرة المنهي عنها والمحملة بالثمار وهي تمتع نفسها بالفاكهة الشهية ، كان منظرها يسترعي التفات النفس إليها ويشيع فيه البهجة . وهكذا ، ففي جنة السلام كان يربض المهلك متأهبا للوثوب على فريسته . AA 34.4
كان الملائكة قد حذروا حواء من الابتعاد عن زوجها وهما يقومان بعملهما اليومي في الجنة ، إذ في قربها منه تكون في أمان أكثر مما لو كانت في مكان منفرد ، ولكن بينما هي منهمكة في عملها المسر ابتعدت عن رجلها دون أن تشعر ، فلما عرفت أنها وحيدة داخلها الشعور بالخطر ، ولكنها طرحت عنها مخاوفها قائلة لنفسها إن عندها من الحكمة والقوة ما يساعدها على اكتشاف الشر والثبات في وجهه ، وإذ لم تعد تكترث لإنذارات الملائكة وجدت نفسها تشخص إلى الشجرة المحرمة بمزيج من الإعجاب وحب الاستطلاع . كان الثمر جميلا جدا ، فجعلت حواء تسائل نفسها عن السبب الذي لأجله «نهاهما الخالق عن الأكل منها ، وكانت هذه هي فرصة المجرب المرتقبة ، فكأنما كان يعرف أفكار قلبها ، ولذلك خاطبها قائلا: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة ؟ » (أنظر تكوين 3) بهتت حواء وفزعت حين سمعت كلاما هو صدى أفكاراها ، ولكن الحية ظلت تتحدث بصوتها الموسيقي ، وبكل دهاء جعلت تطري جمال حواء . بالطبع لم يكن هذا الكلام مما يكدرها ، وبدلا من أن تلوذ بالفرار من ذلك المكان جعلت تتلكأ وهي مندهشة لسماعها الحية تتكلم . لو أن الذي يحدثها كان شخصا كالملائكة لتملكها الخوف ، ولكنها لم تكن تظن أن تلك الحية الساحرة هي الوسيط بينها وبين العدو الساقط. AA 34.5
وجوابا على سؤال المجرب المضلل أجابت قائلة : « من ثمر شجر الجنة نأكل ، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله : لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا . فقالت الحية للمرأة : ‹ لن تموتا بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر›». AA 35.1
وقد أعلن الشيطان قائلا : إنهما إذا أكلا من هذه الشجرة يصبحان في حياة أفضل ووجود أسمى ويصلان إلى أفق من المعرفة أوسع مما لهما الآن . ثم قالت الحية إنها نفسها قد أكلت من هذه الثمرة المنهي عنها فأعطيت لها القوة على الكلام . ثم أوعزت إلى المرأة بأن الله ، في حسده وغيرته ، قصد بتحريمها عليهما أن يحول بينهما وبين التسامي ، حتى لا يكونا معادلين لله ، وأنه بسبب خاصياتها العجيبة ، إذ أنها تمنح الحكمة والقوة ، حرم عليهما الأكل منها بل حتى مجرد لمسها . وقد أوعز المجرب إلى المرأة بأن القصد من هذا الإنذار الإلهي لا أن يعملا به بل هو لمجرد التهويل عليهما . وكيف يمكن أن يموتا — ألم يأكلا من شجرة الحياة ؟ إن الله أراد بهذه الوصية أن يحول بينهما وبين الوصول إلى نمو أنبل والحصول على سعادة أكمل . AA 35.2
هذا هو عين ما يفعله الشيطان منذ أيام آدم إلى يومنا هذا ، وقد أحرز فيه نجاحا عظيما . إنه يجرب الناس ليشكوا في محبة الله وفي حكمته ، وهو على الدوام يحاول أن يثير في النفس روح الفضول الوقح والرغبة الفضولية المتبرمة لتنفذ إلى أسرار حكمة الله وقوته . إن جماهير من الناس ، في محاولتهم اكتشاف ما قد سر الله أن يبقيه في طي الخفاء يغفلون الحقائق التي قد أعلنها والتي هي جوهرية للخلاص . و الشيطان يجرب الناس حتى يسيروا في طريق العصيان بإقناعه إياهم بأنهم بذلك يدخلون في نطاق المعرفة العجيبة. ولكن هذا كله خداع . وإذ يزهون ويتفاخرون بأفكارهم عن التدرج والسمو فإنهم إذ يدوسون بأقدامهم مطاليب الله يسيرون في الطريق المؤدي إلى الانحطاط والموت . AA 36.1
صور الشطيان لذينك الزوجين القديسين أنهما إذا تعديا شريعة الله فسيكونان من الرابحين . ألا نسمع في هذه الأيام مثل هذه الأفكار ؟ كثيرون يتحدثون عن ضيق تفكير من يطيعون وصايا الله ، بينما يدعون هم لأنفسهم أن عندهم أفكارا سامية واسعة الأفق ويتمتعون بحرية أعظم . أليس هذا إلا صدى لذلك الصوت الذي سُمع في عدن القائل : في ذلك اليوم ، « يوم تأكلان منه» — أي يوم تتعديان مطاليب الله « تكونان كالله» ؟ ادعى الشيطان أنه بالأكل من الشجرة المحرمة قد حصل على خير جزيل ، ولكنه لم يشأ أن يكشف عن حقيقة كون تعديه تسبب في طرده من السماء ، ومع أنه وجد بالاختبار أن الخطية تنتهي إلى خسارة لا تقدر ولا تعوض فقد أخفى شقاءه كي يستطيع أن يجر غيره إلى مصيره هو عينا ، وهكذا نرى الآن المتعدي الأثيم يحاول إخفاء خلقه الحقيقي وراء قناع . قد يدعي لنفسه القداسة ، ولكن اعترافه المتفاخر المتعالي يجعله أشد خطرا وأقدر على التضليل . إنه يقف إلى جانب الشيطان ، يطأ شريعة الله ويقود الآخرين إلى التشبه به ، فيؤول ذلك إلى هلاكهم الأبدي . AA 36.2
صدقت حواء كلام الشيطان ، ولكن هذا التصديق لم ينقذها من قصاص الخطية . لقد كذبت كلام الله ، وهذا قادها إلى السقوط . وفي يوم الدينونة لن يدان الناس لكونهم بسلامة طوية صدقوا الكذب ، بل لكونهم لم يصدقوا الحق ، ولأنهم أهملوا فرصة تعلم ما هو حق . وبالرغم من أن سفسطة الشيطان هي على عكس الحق فإن عصيان الإنسان لله لما يجلب الويلات والنكبات . ينبغي لنا أن نوجه كل قلوبنا لمعرفة ما هو حق . إن كل الدروس التي أمر الرب بتدوينها في كتابه إنما هي لأجل إنذارنا وتعليمنا ، وقد دونت لكي تقينا من الخداع ، ففي إهمالنا إياها هلاك لنفوسنا . فلنتأكد أن كل ما يناقض كلمة الله يجيء من الشيطان . AA 36.3
قطفت الحية إحدى ثمار الشجرة المنهي عنها ووضعتها بين يدي حواء التي ترددت بعض التردد . ومن ثم ذكرها العدو بنفس كلامه من أن الله قد حرم عليهما أن يمسا تلك الثمرة لئلا يموتا ، وقال لها إنه لن يصيبها أي أذى لو أكلت من تلك الشجرة كما لم يصبها أذى بعدما لمستها . فلما لم تر حواء بأسا بلمس الثمرة زادت جرأتها ، فلما «رأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل ، وأنها بهجة للعيون ، وأن الشجرة شهية للنظر ( تجعل الإنسان حكيما ) . فأخذت من ثمرها وأكلت ». كانت الثمرة حلوة المذاق . فلما أكلت منها أحست بانتعاش وقوة ، وتخيلت أنها قد دخلت إلى حالة وجود أسمى . وبدون خوف قطفت وأكلت ، أما وقد تعدت بنفسها فقد أمست آلة في يد الشيطان للعمل على إهلاك زوجها . وفي حالة اهتياج غريب وغير طبيعي ذهبت تبحث عن رجلها ويداها مملوءتان بالثمرة المحرمة ، وأخبرته بكل ما حدث . AA 37.1
علت وجه آدم سحابة من الحزن ، وبدا عليه الذهول والذعر ، ثم أجاب على كلام حواء قائلا : لا بد أن يكون هذا هو العدو الذي قد حذرنا الرب منه ، وبموجب حكم الله لا بد من موتها . وردا على كلام آدم ألحت عليه أن يأكل ، مرددة كلام الحية من أنهما لن يموتا . وجعلت تحاجّه قائلة : لا بد أن يكون كلام الحية صادقا لأنها لا تحس بأي دليل على غضب الله ، بل على عكس ذلك هي متحققة من أن تأثيرا مسرا مبهجا يملأ قواها بحياة جديدة كالذي ألهم رسل السماء — هكذا تخيلت . AA 37.2
ادرك آدم أن شريكته قد تعدت أمر الله ، واستخفت بالنهي الوحيد الذي قدم لهما كامتحان لولائهما ومحبتهما ، ونشب في ذهنه صراع رهيب ، وحزن أشد الحزن لكونه سمح لها بالاتبعاد عنه . ولكن ها قد وقع المحظور ، ولا بد من أن ينفصل عن تلك التي وجد في صحبتها فرحه وسعادته ، فكيف يكون له هذا ؟ لقد سعد آدم بعشرة الله والملائكة القديسين ، وشاهد مجد خالقه ، وكان يدرس االحالة السامية التي يصير إليها الجنس البشري لو أنهما ثبتا على أمانتهما لله . على أن كل هذه البركات كانت قد توارت عن عينيه لخوفه من أن يفقد تلك الهبة التي فاقت في نظره كل الهبات الأخرى . فالمحبة والشكران والولاء للخالق — كل هذه فاقت عليها وغلبتها محبته لحواء . لقد كانت جزءا منه ، ولم يكن يحتمل فكرة الانفصال عنها . لم يكن يدرك أن تلك القوة غير المحدودة التي قد جبلته من التراب وصيرته كائنا حيا جميلا ، وفي محبتها له أعطته شريكة ، تستطيع أن تأتيه بمن تحل مكانها ، ولذلك عزم على مشاطرة حواء مصيرها ، فإن ماتت مات معها . وتساءل في نفسه قائلا : ألا يمكن أن يكون كلام الحية الحكيمة صادقا ؟ وها هي ذي حواء واقفة أمامه ، جميلة وحسب الظاهر بريئة كما كانت قبلما ارتكبت تلك المعصية . وقد عبرت عن محبتها له أكثر مما فعلت من قبل ، ولم تبد عليها أية ظاهرة من ظواهر الموت ، فعول على تحمل كل نتائج العصيان ، فأمسك بالثمرة المنهي عنها وجعل يأكل في إسراع . AA 37.3
بعدما تعدى آدم الوصية تخيل ، بادئ ذي بدء ، أنه قد دخل إلى حالة أسمى في الوجود ، ولكن سرعان ما ملأه تفكيره في الخطية رعبا . فالهواء الذي كان إلى تلك الساعة لطيفا ثابت الحرارة بدا يملأ جسمي الزوجين المذنبين قشعريرة ، وتكرتهما المحبة والسلام اللذان كانا يتمتعان بهما ، وحل عوضا عنهما الشعور الخطية ، والخوف من المستقبل ، وعري النفس . وإن رادء النور الذي كانا متسربلين به اختفى الآن ، فلكي يسدا ذلك النقص حاولا أن يجدا شيئا يستتران به ، إذ لم يكونا يستطيعان مواجهة الله وملائكته القديسيين وهما عريانان . AA 38.1
أدركا الآن حقيقة خطيتهما فوبخ آدم شريكته على جهالتها في الابتعاد عنه والسماح لنفسها بالانخداع بأكاذيب الحية ، ولكنهما كانا يتملقان نفسيهما بأن ذاك الذي أعطاهما براهين كثيرة على محبته سيغفر لهما زلتهما هذه الوحيدة ، أو ربما لن يلحقهما قصاص رهيب كالذي يخافانه . AA 38.2
طرب الشيطان وفرح جدا بنجاحه ، فها قد جرب المرأة لتشك في محبة الله وحكمته ، وجعلها تتعدى شريعته ، وعن طريقها أسقط آدم . AA 38.3
لكن المشترع العظيم كان موشكا أن يعرف آدم وحواء نتائج معصيتهما . كان الله في الجنة ، وعندما كانا في حالة البر والقداسة كانا ، بكل سرور ، يرحبان بقدوم خالقهما ، أما الآن فها هما يهربان مرتعبين ويبحثان عن أبعد مكان في الجنة يختبئان فيه ، ولكن الرب الإله « نادى .. آدم وقال له‹ أين انت ؟ › . فقال : ‹ سمعت صوتك في الجنة فخشيت ، لأني عريان فاختبأت › فقال: ‹ من أعلمك أنك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها ؟».› AA 38.4
لم يستطع آدم أن ينكر خطيته ، ولا أن يقدم عذارا مقبولا ، ولكن بدلا من إعلان ندامته وتوبته حاول أن يلقي التبعة على امرأته ، وبالتالي على الله نفسه ، إذ قال : « المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت»(تكوين 3 : 12) فذاك الذي بسبب محبته لحواء اختار ، وهو متعمد ، أن يخسر رضى الله وبيته في الجنة والحياة الأبدية السعيدة نراه الآن بعد السقوط يحاول أن يجعل شريكته وحتى الله نفسه مسؤولين عن ذلك العصيان . ما أرهب سلطان الخطية ! AA 38.5
وعندما استجوب الله المرأة قائلا : « ما هذا الذي فعلت ؟ » قالت : « الحية غرتني فأكلت » (أنظر تكوين 3 : 13 - 19) . وكأنما تقول : لماذا خلقت الحية ، ولماذا سمحت للشيطان بدخول الجنة ؟ مثل هذه الأسئلة كانت متضمنة في عذرها الذي قدمته عن خطيتها . فكآدم عادت باللائمة على الله في هذا السقوط . لقد بدأت روح تبرير النفس والتنصل من المسؤولية بأبي الأكاذيب ، فانغمس أبوانا الأولان في هذه الخطية حالما خضعا لسلطان الشيطان ، وهي الخطية نفسها التي يرتكبها كل نسل آدم . فبدلا من الاعتراف بالخطية بروح الانسحاق حاولا أن يحتميا وراء الأعذار بإلقاء اللوم على غيرهما ، أو على الظروف ، أو على الله ، إذ جعلا حتى البركات التي كانا يتمتعان بها ذريعتة للتذمر عليه تعالى . AA 39.1
حينئذ أصدر الرب حكمه على الحية قائلا : « لأنك فعلت هذا ، ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية . على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك ». وحيث قد جعلت من نفسها مطية للشيطان فلا بد من أن تشاطر الحية الشيطان في تحمل دينونة الله . وبعدما كانت أبدع وأجمل كل حيوانات الحقل صارت من أحط الحيوانات الزاحفة ، يزدريها ويخافها ويبغضها جميع الناس والبهائم . والكلام الذي خاطب به الرب الحية بعد ذلك كان موجها إلى الشيطان نفسه مشيرا إلى هزيمته الكاملة وهلاكه في المستقبل إذ قال : «وأضع عداوة بينك وبين المرأة ، وبين نسلك ونسلها . هو يسحق رأسك ، وأنت تسحقين عقبة » . AA 39.2
وقد أنبأ الرب حواء بالأحزان والأوجاع التي ستكون من نصيبها منذ ذلك اليوم ، وقال لها « إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك» وكأن الله ، في الخلق ، قد جعل المرأة مساوية للرجل ، فلو أنهما داوما على طاعتهما لله وكانا في حالة وفاق مع شريعته العظيمة ، شريعة المحبة ، لظلا في حالة وفاق أحدهما مع الآخر . ولكن الخطية هي التي جلبت الخلاف والنزاع . والآن يمكن الإبقاء على وحدتهما وحفظ الوفاق بينهما بخضوع أحدهما للآخر . لقد كانت حواء هي الأولى في العصيان ، فسقطت في الخطية نتيجة لانفصالها عن رجلها ، وكان هذا مناقضا لإرشادات الرب . وبسبب إغراءاتها أخطأ آدم ، فها هي الآن تحت التزام أن تخضع لرجلها . لو أن الجنس البشري الضال راعى الفرائض المتضمنة في شريعة الله ، فهذا الحكم ، مع كونه صدر نتيجة للخطية ، كان يصير بركة لهم . إلا أن سوء استخدام الإنسان للسيادة الممنوحة له يجعل ، في أغلب الأحيان ، كأس المرأة مرة المذاق ، ويجعل حياتها عبئا ثقيلا . AA 39.3
لقد كانت حواء في منتهى السعادة إلى جانب رجلها في بيتهما في الجنة ، غير أنها كغيرها من الزوجات المتبرمات في عصرنا الحديث قدمت لها وعود خلابة بأنها ستحصل على مركز أرقى مما عينه لها الله ، ففي محاولتها أن ترتفع فوق مركزها الأصلي سقطت إلى مكان أحط منه جدا ، وهكذا سيكون مصير كل من لا يردن أن يقبلن بسرور وشكر واجباتهن في الحياة بما يطابق تدبير الله . وفي محاولتهن الوصول إلى مراكز لم يؤهلهن الله لها يتركن المكان الذي كان يمكن أن يكن بركة فيه ، شاغرا . إن كثيرات في سبيل محاولتهن الوصول إلى مراكز أرقي قد ضحين بعظمة المرأة الحقة ونبل أخلاقها ، وأهملن القيام بالعمل الذي عينته لهن السماء . AA 40.1
أما آدم فقال له الله : «لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا : لا تأكل منها ، ملعونة الأرض بسببك . بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك . وشوكا وحسكا تنبت لك ، وتأكل عشب الحقل . بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الارض التي أخذت منها لأنك تراب ، وإلى تراب تعود » . AA 40.2
لم تكن إرادة الله أن ذينك الزوجين المقدسين يعرفان من الشر أي شيء . لقد منحهما الخير مجانا وبكل سخاء ومنع عنهما الشر ، ولكنهما خالفا أمره وأكلا من الشجرة المنهي عنها ، والآن أصبح في مقدروهما أن يداوما على الأكل منها ، وأن يحصلا على معرفة الشر مدى أيام حياتهما . ومنذ ذلك اليوم كان على الجنس البشري أن يقاسي من تجارب الشيطان ، وبدلا من العمل المفرح السعيد ، الذي كانا يزاولانه إلى ذلك اليوم ، صار نصيبهما القلق والتعب ، وأمسيا عرضة للخيبة والحزن والألم وأخيرا الموت . AA 40.3
وتحت لعنة الخطية كان لا بد للطبيعة كلها أن تشهد للإنسان عن طبيعة العصيان على الله ونتائجه . إن الله حين خلق الإنسان سلطه على الأرض وكل الخلائق الحية ، وظلت الطبيعة خاضعة له ما ظل هو في حالة الولاء للسماء ، ولكن حين عصى شريعة الله فكل الخلائق الدنيا تمردت على سلطانه ، وهكذا الرب ، في رحمته العظيمة ، أراد أن يُري الناس قدسية شريعته ، ويقودهم عن طريق اختبارهم الشخصي لأن يروا خطر طرح شريعة الرب جانبا ولو بقدر ضئيل جدا . AA 40.4
إن حياة الكدح والهموم التي صارت من نصيب الإنسان منذ ذلك الحين فرضت عليه في محبة . لقد كانت تدريبا فرضته عليه الخطية لكبح جماح أهوائه وشهواته ولأجل تنمية عادة ضبط النفس فيه ، وكانت جزءا من تدبير الله العظيم لأجل إرجاع الإنسان إلى الله من هلاك الخطية وانحطاطها . AA 41.1
وإن الإنذار المقدم لأبوينا الأولين القائل : « يوم تأكل منها موتا تموت » (تكوين 2 : 17) . لا يفهم منه أنهما سيموتان في اليوم نفسه الذي يأكلان فيه من الثمرة المحرمة ، بل في ذلك اليوم ينطق عليهما بالحكم الذي لا يرد . لقد كان الله قد وعدهما بالخلود على شرط الطاعة ، فلما تعديا الوصية سقط حقهما في الحياة الأبدية ، وفي ذلك اليوم نفسه حكم عليهما بالموت . AA 41.2
ولكي يحصل الإنسان على حياة الخلود كان لا بد له أن يداوم على الأكل من شجرة الحياة . فإذا حرم عليه الأكل منها كان لا بد أن تضعف حيويته تدريجيا إلى أن تنقضي الحياة . ولقد كانت خطة الشيطان أن آدم وحواء بعصيانهما يستوجبان على نفسيهما سخط الله ، فإذا لم يحصلا على الغفران كان يرجو أنهما سيأكلان من شجرة الحياة ، وبذلك تخلد حياة الخطية والشقاء . ولكن عقب السقوط أرسل الملائكة في الحال لحراسة شجرة الحياة ، وفوق أولئك الملائكة لمع نور باهر اتخذ هيئة السيف االلامع ، فمل يسمح لأي واحد من بني آدم أن يعبر ذلك السياج ليأكل من تلك الثمرة المعطية الحياة ، ولهذا السبب فلا يمكن أن إنسانا خاطئا يخلد في هذا العالم . AA 41.3
إن سيول الشقاء التي نتجت عن خطية أبوينا الأولين اعتبرها كثيرون نتيجة أرهب من أن يستحقها ذلك الذنب الطفيف ، وهم بذلك يطعنون في حكمة الله وعدالته في معاملته للإنسان . ولكن لو أنهم أمعنوا النظر في الأمر جيدا لأدركوا خطأهم . لقد خلق الله الإنسان على صورته ، بلا خطية ، ورسم أن يسكن العالم خلائق لا تقل عن الملائكة إلا قليلا ، ولكن لا بد من اختبار طاعتهم ، لأن الله لم يشأ أن يمتلئ العالم بالذين يحتقرون شريعته . ومع ذلك فإنه تعالى ، في رحمته ، لم يقدم لآدم امتحانا قاسيا ، إن خفة ذلك الامتحان وذلك النهي هي نفسها زادت من هول الخطية . فإذا لم يكن آدم قادرا على احتمال أصغر امتحان ، فهو لا يستطيع أن يتحمل امتحانا أعظم لو أسندت إليه مسؤوليات أعظم . AA 41.4
ولو أعطي لآدم امتحان أعظم لكان الذين يميلون إلى الشر يعتذرون لأنفسهم عن أخطائهم قائلين : هذه مسألة تافهة والله لا يدقق في الأمور الصغيرة ، ويحصل التعدي باستمرار في الأشياء التي تعتبر تافهة والتي يرتكبها الناس دون أن يوبخوا عليها . ولكن الله جعل هذا الأمر واضحا ، وهو أن الخطية مكروهة لديه مهما كانت صغيرة . AA 42.1
وقد بدا هينا على حواء أن تعصى الله بالأكل من الشجرة المنهي عنها وتجرب رجلها ليأثم . ولكن خطيتهما فتحت أبواب سيول الويل والشقاء على العالم . من ذا الذي يدرك في ساعة التجربة النتائج المخيفة التي تنجم عن خطية واحدة ؟ AA 42.2
إن كثيرين ممن يعلمون الناس أن ناموس الله ليس ملزما للإنسان يقولون بأنه يستحيل عليه أن يحفظ وصاياه . ولكن لو كان هذا حقا فلماذا تحمل آدم قصاص معيصته ؟ إن خطية أبوينا الأولين جلبت على العالم الجرائم والأحزان ، ولولا صلاح الله ورحمته لطوح بجنسنا في هاوية يأس لا يرجى منها خلاص . لا يخدعن أحد نفسه ، فإن «أجرة الخطية هي موت» (رومية 6 : 23) . إن شريعة الله لا تنتهك كرامتها بدون عقاب الآن ، بل لم تزل الحال كما كانت حين حكم الله بالقصاص على أبي الجنس البشري . AA 42.3
وبعد ما ارتكب آدم وحواء خطيتهما لم يظلا عائشين في عدن بعد ذلك . وقد توسلا إلى الله ، بكل حرارة ، أن يسمح لهما بالبقاء في بيتهما الذي كان موطن البرارة والفرح . اعترفا بأنهما أسقطا حقهما في البقاء في ذلك المسكن السعيد . ولكنهما تعهدا بأنهما في المستقبل سيقدمان لله طاعة كاملة ، ولكن قيل لهما بأن طبيعتهما قد فسدت بسبب الخطية ، وأنهما ، بعصيانهما ، قد أضعفا من قوتهما في مقاومة الشر ، وفتحا للشيطان الباب على سعته ليصل إليهما . إنهما حين كانا في حالة الطهارة انهزما أمام التجربة ، فالآن وهما يحسان بذنبهما لا بد من أن تضعف قوتهما عن الاحتفاظ باستقامتهما . AA 42.4
ففي تذلل وحزن لا يعبر عنه ودّعا مسكنهما الجميل وخرجا ليعيشا على الأرض التي استقرت عليها لعنة الخطية . فالجو الذي كان قبلا لطيفا صار الآن عرضة لتطورات مختلفة ، وقدم لهما الرب ، في رحمته ، أقمصة من جلد لحمايتهما من شد الحر والبرد . AA 42.5
وإذ شاهد الزهور الذابلة والأوراق المتساقطة التي كانت أول علامات الانحلال والموت ، ناح آدم وامرأته وحزنا أعمق الحزن ، أكثر مما يحزن الناس اليوم على موتاهم . كان موت الأزهار الرقيقة الضعيفة ، مدعاة للحزن ، ولكن عندما تساقطت أوراق الأشجار الجميلة بدت لدى أذهانهما بكل جلاء تلك الحقيقة المحزنة ، وهي أن الموت هو نصيب كل حي . AA 43.1
بقيت جنة عدن على الأرض وقتا طويلا بعدما طرد الإنسان منها* أنظر تكوين 4 : 16>. وقد سمح لبني جنسنا الضال أن يروا ، لمدة طويلة ، موطن الطهارة ، ولكن الطريق إليه كان مسدود إذ كان الملائكة يحرسونه . وعند باب ذلك الفرودس الذي كان يحرسه الكروبيم أعلن مجد الله ، وإلى هناك أتى آدم وبنوه ليقدمو سجودهم لله ، وهناك جددوا عهودهم لإطاعة الشريعة التي تسبب تعديهم إياها في طردهم من جنة عدن . وعندما طغى على العالم طوفان الإثم ، وأوجبت شرور الناس الحكم عليهم بالهلاك بمياه الطوفان ، فاليد التي كانت قد غرست جنة عدن نقلتها من الأرض . ولكن أخيرا عند أزمنة رد كل شيء حين يخلق الله « سماءً جديدة وأرضا جديدة » (رؤيا 21 : 1) ستعود الجنة أجمل مما كانت ، مزينة بأجمل مما ازدانت به في البداءة . AA 43.2
وحينذاك فالذين حفظوا وصايا الله سيتنسمون نسائم النشاط والخلود تحت شجرة الحياة (رؤيا 2 : 7 / 22 : 14 ) . ومدى أجيال الأبد سيرى سكان العوالم التي لم تدخلها خطية ، في جنة المسرات تلك ، نموذجا لعمل الله الكامل في الخليقة التي لم تمسها لعنة الخطية — نموذجا لما كان يمكن أن يصير إليه كله لو كان الإنسان قد تمم تدبير الله المجيد . AA 43.3
* * * * *