ظل بنو إسرائيل يضربون في مجاهل الصحراء غير منظورين لمده أربعين سنة تقريبا . يقول موسى : ( والأيام التي سرنا فيها من قادش برنيع حتى عبرنا وادي زارد ، كانت ثماني وثلاثين سنة ، حتى فني كل الجيل ، رجال الحرب من وسط المحلة ، كمـــأ أقسم الرب لهم . ويد الرب أيضا كانت عليهم لإبادتهم من وسط المحلة حتى فنوا ) (تثنية 2 : 14 ، 15) . AA 359.1
وطوال هذه السنين كان الشعب يذكرون باستمرار أنهم واقعون تحت طائلة توبيخ الرب وانتهاره . وفي العصيان الذي حدث في قادش رفضوا الرب كما قد رفضهم الرب إلى حين . و حيث أنهم قد برهنوا على عدم أمانتهم لعهده فما كان لهم أن يأخذوا منه علامة العهد ، أي فريضة الختان . إن اشتياقهم للعودة إلى أرض العبودية برهن على عدم استحقاقهم للحرية ، ولذلك ففريضة الفصح التي كانت قد رسمت تذكارا لتحريرهـم من العبودية لم تعد تمارس . AA 359.2
ومع ذلك فإن الخدمة في خيمة الاجتماع كان شاهدا على أن الله لم يترك شعبه نهائيا . وهو في عنايته سد أعوازهم . وإذ كان موسى يراجع تاريخ تيهانهم في رحلاتهم قال : ( لأن الرب إلهك قد باركك في كل عمل يدك ، عارفا مسيرك في هذا القفر العظيم . الآن أربعون سنة للرب إلهك معك ، لم ينقص عنك شيء ) (تثنية 2 : 7) هذا وإن تسبيحة اللاويين التي قد سجلها نحميا تصور بكل جلاء رعاية الرب لإسرائيل حتى في تلك السنين سني الرفض والنهي . يقول نحميا : ( أنت برحمتك الكثيرة لم تتركهم في البرية ، ولم ينزل عنهم عمود السحاب نهارا لهدايتهم في الطريق ، ولا عمود النار ليلا ليضيء لهم في الطريق التي يسيرون فيها . وأعطيتهم روحك الصالح لتعليمهم ، ولم تمنع منك عن أفواههم ، أعطيتهم ماء لعطشهم . وعلتهم أربعين سنة في البرية فلم يحتاجوا . لم تبل ثيابهم ، ولم تتورم أرجلهم ) (نحميا 9 : 19 — 21) . AA 359.3
إن التيهان في البرية لم يقصد به أن يكون دينونة وقضاء على العصاة والمتذمرين فحسب ، بل كان المقصود به أن يكون تدريبا للجيل الجديد لإعدادهم للدخول إلى أرض الموعد ، وقد أعلن لهم موسى قائلا : )أانه كما يؤدب الإنسان ابنه قد أدبك الرب إلهك . وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر ، لكي يذلك ويجربك ليعرف ما في قلبك : أتحفظ وصاياه أم لا ؟ فأذلك وأجاعك وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك ، لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان ) (تثنية 8 : 5 ، 2 ، 3) . AA 360.1
( وجده في أرض قفر ، وفي خلاء مستوحش خرب . أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه (، ( في كل ضيقهم تضايق ، وملاك حضرته خلصهم . بمحبته ورأفته هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة ) (تثنية 32 : 10 ، إشعياء 63 : 9) . AA 360.2
ومع ذلك فإن البيانات الوحيدة عن حياتهم في البرية تكشف عن تمردهم على الله ، وقد نجم عن الفتنة التي تسبب فيها قورح هلاك أربعة عشر ألفا من إسرائيل ، وكانت هناك حالات منفصلة برهنت على نفس روح الاحتقار لسلطان الله . AA 360.3
ومن أمثلة تلك الحالات أنه كان هنالك ابن امرأة إسرائيلية وأب مصري من اللفيف الذي صعد مع إسرائيل من مصر ، هذا الابن ترك المكان المحدد لإقامته في المحلة ، وإذ دخل محلة الإسرائيليين ادعي أن له الحق في أن ينصب خيمة هناك . ولكن الشريعة الإلهية كانت تنهاه عن ذلك ، إذ أن أولاد المصريين كانوا لا يحسبون من بين الجماعة إلى الجيل الثالث ، فنشب نزاع بين ذلك الشاب وأحد الإسرائيليين . فلما رفعت هذه القضية إلى القاضي ليحكم فيها حكم حكما في غير صالح ذلك الشاب المذنب . AA 360.4
وإذ احتدم غضبه على هذا الحكم لعن القاضي ، وفي ثورة غضبه جدف على اسم الله ، فأخذ في الحال إلى موسى ، وكان الله قد أمر من قبل قائلا : ( ن شتم أباه أو أمه يقتل قتلا ) (خروج 21 : 17) ولكن لم يكن هنالك نص خاص بهذه القضية ، وكانت الجريمة هائلة جدا بحيث أحس الجميع بضرورة عرضها أمام الله في طلب إرشاد خاص منه . فوضع ذلك الشاب في الحبس حتى تعلن إرادة الله . وقد حكم الله نفسه ذلك الرجل ، وبموجب تعليماته أخرج ذلك المجدف إلى خارج المحلة ورجم حتى مات ، فأولئك الذين رأوا ذلك الرجل يرتكب تلك الخطية وضعوا أيديهم على رأسه وبهذه الطريقة شهدوا بصدق التهمة الموجهة إليه . وحينئذ كانوا هم أول من رجموه بالحجارة ، وبعد ذلك اشترك الواقفون في تنفيذ الحكم . AA 360.5
وقد تبع هذا إعلان شريعة تختص ببعض الذنوب المماثلة لهذا الذنب ، وهي : ( كلم بني إسرائيل قائلا : كل من سب إلهه يحمل خطيته ، ومن جدف على اسم الرب فإنه يقتل . يرجمه كل الجماعة رجما . الغريب كالوطني عندما يجدف على الاسم (اسم الرب) يقتل ) (لاويين 24 : 15 ، 16) هنالك من يشكون في محبة الله وعدالته حين يفتقد بتلك العقوبات الصارمة أولئك الذين نطقوا بهذه الأقوال في حدة غضبهم ؟ إن محبة الله وعدالته تستوجبان هذه الصرامة . ليعلم الجميع أن الألفاظ النابية التي ينطق بها الإنسان ضد الله مدفوعا بالحقد والضغينة هي خطية عظيمة . والقصاص الذي يحل بأول مذنب يمكن أن يكون رادعا للآخرين ليتعلم الناس أن يوقروا اسم الله. ولكن لو تركت خطية هذا الرجل فإن هذا سيكون مفسدة لغيره وتكون النتيجة هلاك نفوس كثيرة . AA 361.1
إن اللفيف الذي صعد مع الإسرائيليين من مصر كانوا مبعث التجارب والمتاعب باستمرار . لقد اعترفوا بأنهم هجروا عبادة الأوثان وأنهم يعبدون الإله الحقيقي إلا أن تربيتهم وتهذيبهم السابقين قد شكلا عاداتهم وأخلاقهم وقد أفسدتهم ، كثيرا أو قليلا ، وثنيتهم وعدم توقيرهم لله . كانوا في غالب الأحيان يثيرون الخصومات والمنازعات ، وكانوا أول المشتكين ، وقد بثوا تأثيرهم المفسد مع ممارساتهم الوثنية ضد الله . AA 361.2
وعقب عودة الشعب إلى البرية حالا حدثت حادثة فيها انتهكت كرامة يوم السبت في ظروف جعلت تلك الخطية تبدو شاذة . إن إعلان الرب لإسرائيل بأنه سيحرمهم من دخول أرض الموعد أثارت فيهم روح التمرد ، وأن أحد أفراد الشعب كان غاضبا لأنه قد حرم من كنعان ، فعزم على أن يعلن تحديه لشريعة الله ، فتعدى الوصية الرابعة إذ خرج في يوم السبت واحتطب حطبا . إن بني إسرائيل في أثناء تغربهم في البرية كانوا ممنوعين منعا باتا من إشعال نار في يوم السبت ، إلا أن النهي لم يمتد إلى أرض كنعان حيث تلزم قسوة المناخ الشعب بإضرام النار ، أما في البرية فلم تكن ثمة حاجة إلى النار لأجل التدفئة . إن عمل ذلك الرجل كان انتهاكا متعمدا للوصية الرابعة ، وهي خطية لم يكن الدافع إليها عدم التفكير أو الجهل بل التصلف . AA 361.3
وقد أمسك الرجل في ذات الفعل وأتي به إلى موسى . كان الله قد أعلن من قبل أن تعدي وصية السبت جزاؤه الموت ، ولكن لم يكن قد أعلن بعد عن نوع العقوبة ، فقدم موسى هذه القضية أمام الله فجاءه أمر الرب قائلا : ( قتلا يقتل الرجل . يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة ) (عدد 15 : 35) إن كلا من خطيتي التجديف وكسر يوم الرب بإصرار كان الجزاء فيهما متشابها ، لأن الدوافع لارتكابها كانت متشابهة ، وهي احتقار سلطان الله . AA 362.1
في أيامنا هذه كثيرون يرفضون حفظ وصية السبت المعطاة لإنسان عند الخلق على اعتبار أنها وصية يهودية . ويصرون على القول بأنه إذا كان لا بد من حفظها فلا بد من إيقاع حكم الموت على من يتعدونها . ولكننا نرى أن التجديف قد نال نفس الجزاء الذي ناله من قد كسر السبت . فهل نستنتج من هذا أن الوصية الثالثة يجب طرحها لكونها لا تنطبق على غير اليهود ؟ ومع ذلك فالحجة التي نستنتجها من عقوبة الموت تنطبق على الوصية الثالثة والخامسة وباقي الوصايا العشر تقريبا سواء بسواء . ومع أن الله لا يعاقب من يتعدون شريعته بعقوبات زمنية فإن كلمته تعلن أن أجرة الخطية هي موت ، وعندما ينفذ حكم الدينونة في النهاية سيرى الناس أن الموت هو نصيب من يتعدون وصاياه المقدسة . AA 362.2
وفي أثناء الأربعين سنة كلها التي قضاها الشعب في البرية كان كل أسبوع يذكرهم بالتزامهم المقدس بحفظ السبت بواسطة أعجوبة المن ، ومع ذلك فحتى هذا لم يكن وازعا يدفعهم إلى الطاعة . ومع إنهم لم يكونوا يتجرأون على ارتكاب تحد سافر كالذي نال قصاصا علينا فقد كانوا متراخين جدا في حفظ الوصية الرابعة . وقد أعلن الله على لسان نبيه قائلا : نجسوا سبوتي) (حزيال 20 : 13 — 24) وحسب هذا ضمن الأسباب التي لأجلها حرم الجيل الأول من أرض الموعد ، ومع ذلك فاإن أولادهم لم يتعلموا الدرس ، فلقد كان إهمالهم في حفظ السبت عظيما في أثناء سني التيهان الاربعين في البرية حيث أن الله مع كونه لم يحرمهم دخول كنعان ، قد أعلن أنه سيبددهم بين الأمم الوثنين بعد استقرارهم في أرض الموعد . AA 362.3
ومن قادش ارتد بنو إسرائيل إلى البرية ، فلما انتهت مدة اغترابهم في البرية ( أتى بنو إسرائيل ، الجماعة كلها ، إلى برية صين في الشهر الأول . وأقام الشعب في قادش ) (عدد 20 : 1) وفي ذلك المكان ماتت مريم ودفنت . فمن منظر الفرح والتهليل على شواطئ بحر سوف ، حين خرج بنو إسرائيل ينشدون أغاني الحمد ويرقصون ليحتفلوا بانتصار الرب ، إلى قبر يحفر في البرية تنتهى عنده حياة الاغتراب والمشقة هذا كان المصير الذي صار إليه ملايين ممن كانوا قد خرجوا من مصر تحدوهم آمال كبار . لقد انتزعت الخطية كأس البركة عن أفواههم وحطمتها ، فهل سيتعلم الجيل الجديد هذا الدرس ؟ AA 363.1
في هذا كله أخطأوا بعد ، ولم يؤمنوا بعجائبه.... إذ قتلهم طلبوه ، ورجعوا وبكروا إلى الله ، وذكروا أن الله صخرتهم ، والله العلي وليهم ( ومع ذلك فإنهم لم يرجعوا إلى الله بنية خالصة . فمع أنهم حين أذلهم أعداؤهم طلبوا العون منه هو الذي يستطيع وحده أن يخلص ، فإن قلوبهم ( لم تثبت معه ، ولم يكونوا أمناء في عهده . أما هو فرؤوف ، يغفر الإثم ولا يهلك . وكثيرا ما رد غضبه ، ولم يشعل كل سخطه . ذكر إنهم بشر . ريح تذهب ولا تعود ) . (مزمور 78 : 32 — 35 ، 37 — 39) . AA 363.2
* * * * *