------------------------------
تعاظمت مياه الطوفان وارتفعت خمس عشرة ذراعا فوق أعلى الجبال ، وكثيرا ما تراءى لأفراد تلك العائلة التي في داخل الفلك أنهم لا بد هالكون ، إذا ظلوا ، كما ظهر لهم ، تحت رحمة الأمواج والعواصف تتقاذفهم خمسة أشهر كاملة . لقد كانت محنة قاسية ، ولكن إيمان نوح لم يتزعزع لأنه كان موقنا من أن يد الرب على الدفة . AA 84.1
فلما بدأت المياه بالتراجع جعل الرب الفلك يسير مع التيار إلى بقعة تحيط بها مجموعة من الجبال التي بقيت راسخة بقوة الله ، وكانت تلك الجبال متقاربة من بعضها البعض ، فدخل الفلك إلى هذا المرفأ الهادئ ، ولم تعد المياه تتقاذفه في ذلك المحيط الذي لا شاطئ له ، وهذا خفف من متاعب أولئك المسافرين المتعبين الذين أضناهم الإعياء وهدهم . AA 84.2
وكان نوح وعائلته ينتظرون تناقص مياه الطوفان بصبر جميل إذ كانوا مشتاقين إلى النزول على اليابسة ، وبعد ظهور أعالي الجبال بأربعين يوما أرسلوا غرابا ، وهو طائر حاسة الشم فيه قوية ، ليستكشف هل كانت الأرض قد جفت أم لا ، فهذا الغراب إذ لم يجد غير الماء ظل يطير من الفلك وإليه . وبعد سبعة أيام أخرى أرسلوا حمامة ، فإذ لم تجد مقرا لرجلها عادت إلى الفلك , وبعد سبعة أيام أخرى عاد نوح فأرسل الحمامة ، فلما عادت في المساء وفي فمها ورقة زيتون فرح نوح وعائلته فرحا عظيما . وبعد ذلك « كشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر ، فإذا وجه الأرض قد نشف » (تكوين 8 : 13) . ومع ذلك فقد لبث منتظرا بصبر في داخل الفلك . فكما دخل إلى الفلك بأمر الله كذلك انتظر أمره له بالخروج . AA 84.3
أخيرا نزل ملاك من السماء وفتح باب الفلك الضخم وأمر ذلك الشيخ الجليل وعائلته بالخروج من الفلك إلى اليابسة ، كما أمرهم بإخراج كل الخلائق الحية ، ومع فرحهم الشديد بالإفراج عنهم لم ينس نوح ذاك الذي حفظهم برعايته الرحيمة ، فكان أول ما عمله بعد مغادرة الفلك أنه بنى مذبحا وقدم ذبيحة من كل الحيوانات والطيور الطاهرة ملعنا بذلك شكره لله وإيمانه بالمسيح الذي هو الذبيحة العظمى . وقد سر الله بهذه الذبيحة ونتجت عن ذلك بركة عظيمة ليس لنوح وعائلته فحسب بل أيضا لكل من سيعيشون على وجه الأرض ، إذ يقول الكتاب : ) فتنسم الرب رائحة الرضا . وقال الرب في قلبه : « لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان ... مدة كل أيام الأرض : زرع وحصاد ، وبرد وحر ، وصيف وشتاء ، ونهار وليل ، لا تزال »( (تكوين 8 : 21 ، 22) . وهنا درس ينبغي أن تتعلمه كل الأجيال المتعاقبة . لقد خرج نوح إلى عالم خرب ، ولكنه قبل أن يعد مسكنا لنفسه بنى مذبحا للرب . ومع أن ما تبقى له من المواشي كان قليلا وكلفه الاحتفاظ بها الشيء الكثير فإنه بكل سرور قدم بعضا منها للرب اعترافا منه بأن الكل للرب . وكذلك يجب أن يكون اهتمامنا الأول أن نقدم عطايانا الطوعية لله . وكل مظهر من مظاهر محبته ورحمته لنا ينبغي أن نعترف به شاكرين بالعبادة وبتقديم عطايانا لخدمة الملكوت . AA 84.4
ولكي لا تمتلئ قلوب الناس رعبا من حدوث طوفان آخر وهم يرون السحب تملأ السماء والأمطار تتساقط ، طمأن الرب عائلة نوح بوعد قال فيه : «أقيم ميثاقي معكم .. لا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض .. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض . فيكون متى انشر سحابا على الأرض ، وتظهر القوس في السحاب أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية » ( تكوين 9 : 11 — 15) . AA 85.1
كم كان الله عظيما في تنازله وشفقته على خلائقه الخاطئة في وضع قوسه الجميلة في السحاب علامة ميثاق مع الناس ! فالرب يعلن أنه حين ينظر القوس سيذكر ميثاقه ، ولكن هذا لا يعني أنه يمكن أن ينسى ، إنما يخاطبنا بلغتنا لنفهمه فهما أفضل . وكان قصد الله أنه عندما يسأل أبناء الأجيال اللاحقة عن معنى وجود تلك القوس المجيدة الظاهرة في السماء فإن آبائهم سيرددون على أسماعهم قصة الطوفان ، ويقولون لهم إن الله العلي قد وضع هذه القوس في السحاب كضمان على أن المياه لن تعود لتغمر الأرض ، وهكذا من جيل إلى جيل تشهد هذه القوس لمحبة الله للإنسان وتقوي ثقته بالرب . AA 85.2
وفي السماء يحيط بالعرش شبه قوس تحيط برأس المسيح . والنبي يقول : « كمنظر القوس التي في السحاب يوم مطر ، هكذا منظر اللمعان من حوله ( حوال العرش ) . هذا منظر شبه مجد الرب» (حزيقال 1 : 28). والرائي يعلن قائلا : « وإذا عرش موضوع في السماء ، وعلى العرش جالس .. وقوس قزح حول العرش في المنظر شبه الزمرد » (رؤيا 4 : 2 ، 3 ) فحين يستمطر الإنسان بشروره العظيمة الدينونة الإلهية على نفسه فالمخلص يتشفع فيه لدى الآب ، مشيرا إلى القوس التي في السحاب ، وإلى القوس التي حول العرش وحول رأسه ، كعلامة لرحمة الله نحو الخطاة التائبين . AA 86.1
ومع اليقين الذي أعطاه الله لنوح بشأن الطوفان فالرب نفسه قدم وعدا من أجمل وعود نعمته إذ يقول : «كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض ، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك . فإن الجبال تزول ، والآكام تتزعزع ، أما إحساني فلا يزول عنك ، وعهد سلامي لا يتزعزع ، قال راحمك الرب » (إشيعاء 54 : 9 ، 10 ) . AA 86.2
إذ نظر نوح إلى الوحوش القوية التي خرجت معه من الفلك خاف منها لئلا تفترس أفراد عائلته التي لم يتجاوز عدد أفرادها ثماني أنفس ، ولكن الرب أرسل إلى عبده ملاكا يحمل إليه هذه الرسالة المطمئنة : « لتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء ، مع كل ما يدب على الأرض ، وكل أسماك البحر . قد دفعت إلى أيديكم . كل دابة حية تكون لكم طعاما . كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع » (تكوين 9 : 2 ، 3 ) . قبل ذلك لم يكن الله قد سمح للإنسان بأكل لحوم الحيوانات ، وكان يقصد أن يعيش الناس على منتجات الأرض وحدها ، أما الآن فبعدما تلاشى كل عشب أخضر سمح لهم بأكل لحوم الحيوانات الطاهرة التي حفظت في الفلك . AA 86.3
لقد غير الطوفان معالم وجه الأرض كلها ، إذ استقرت على الأرض لعنة ثالثة نتيجة للخطية . لما بدأت المياه تتناقص كان يحيط بالجبال والتلال بحر كدر مترامي الأطراف وفي كل مكان ملأت جثث الموتى من الناس والحيوانات كل البقاع ، ولم يرد الرب أن تبقى تلك الجثث لتفسد الهواء وتنجسه ، ولذلك جعل من الأرض مقبرة واسعة ، فأرسل الرب ريحا عاتية لتجفف المياه فساقت الريح الجثث بقوة هائلة حتى أنها في بعض الحالات أطاحت بقمم الجبال واقتلعت الأشجار والصخور وذرت التراب وألقت بكل هذه فوق جثث القتلى ، وبهذه الوسيلة نفسها اختفت الفضة والذهب والأخشاب النادرة والحجارة الكريمة التي أغنت الناس قبل الطوفان وازدانت بها الأرض ، والتي جعل الناس منها أصناما — كل هذه اختفت عن أنظار الناس وعن تقصيهم ، إذ أن المياه في قوتها كومت التراب والصخور فوق تلك الكنوز . وفي بعض الأماكن تكونت فوقها جبال ، فلقد رأى أنه كلما أغنى الناس الخطاة وأنجحهم أوغلوا في إفسادهم طرقهم أمامه . لقد عبدوا الكنوز التي كان ينبغي أن تقودهم إلى تمجيد المعطي الكريم ، بينما هم أهانوه واحتقروه . AA 86.4
استحالت الأرض إلى خراب وعدم انسجام يستحيل وصفهما ، فالجبال التي كانت تبدو قبلا جميلة ومتناسقة تشققت الآن وتكسرت ، والأحجار وشعب الصخور ، والصخور المسننة كانت مبعثرة هنا وهناك على سطح الأرض ، وفي أماكن كثرة اختفت التلال والجبال ولم يبق لها أثر ، وفي مكان بعض السهول ارتفعت سلاسل الجبال ، وهذه التغيرات ظهرت واضحة جلية في أماكن دون أخرى ، فحيث كانت توجد أغنى كنوز الأرض من الفضة والذهب والحجارة الكريمة كانت تشاهد أقسى آثار اللعنة ، أما البلاد التي لم تكن مسكونة والتي كانت الجرائم فيها أخف وطأة فكانت اللعنة أخف وطأة عليها . AA 87.1
في هذا الوقت دفنت غابات عظيمة في جوف الأرض ، فتحولت بعد ذلك إلى فحم ، مكونة مناجم الفحم العظيمة الموجودة اليوم ، ومنتجة كميات كبيرة من الزيت ( البترول) إذ غالبا ما يشتغل الفحم والزيت تحت سطح الأرض ، فتسخن الصخور ويحترق الحجر الجيري ويذوب الحديد الخام ، ثم أن تفاعل الماء مع الحجر يجعل الحرارة هائلة جدا ، فتنشأ عن ذلك الزلازل والبراكين ، وتخرج ألسنة من النار من جوف الأرض ، فمتى اتصلت النار والماء بشعب الصخور والمعادن تحدث انفجارات هائلة في جوف الأرض يشبه صوتها صوت الرعود المكبوتة فيصير الهواء حارا وخانقا ويتبع ذلك انفجار البراكين . وإذ لا تستيطع هذه ، في الغالب ، أن تجعل مخرجا كافيا للعناصر الساخنة ، فالأرض نفسها تهتز ، وتعلو وتهبط كأمواج البحر ، ثم تظهر أحيانا شقوق هائلة تبتلع القرى والمدن والجبال المضطرمة بالنار . هذه الظواهر العجيبة سترى في فترات أكثر تقاربا ورعبا مما كانت قبلا ، وذلك قبيل مجيء المسيح ثانية ، عند انقضاء العالم ، كعلائم على سرعة هلاك العالم . AA 87.2
إن أعماق الأرض هي مستودع الرب الذي منه جرد الأسلحة التي استخدمها في إهلاك العالم القديم ، فالمياه المتفجرة من أعماق الأرض التقت والمياه الهاطلة من السماء لتخريب الأرض ، ومنذ أيام الطوفان كانت النار والماء أداتين في يد الله لإهلاك المدن الشريرة ، وهذه الأحكام ترسل لكي يرتعب أمام قدرة الله ويعترف بحكمه وسلطانه العادل أولئك الذين يستخفون بشريعته ويدوسون سلطانه . وحين أبصر الناس الجبال المشتعلة بالنار تقذف نارا ولهيبا وسيولا من المعادن الذائبة وتنشف أنهارا وتقلب مدنا عامرة وتنشر الخراب والدمار في كل مكان ملك الرعب والهلع أقوى القلوب . واعترف الملحدون والمجدفون بقدرة الله غير المحدودة . AA 88.1
قال الأنبياء في القديم مشيرين إلى مشاهد مثل هذه : « ليتك تشق السماوات وتنزل ! من حضرتك تتزلزل الجبال . كما تشعل النار الهشيم ، وتجعل النار المياه تغلي ، لتعرف أعدائك اسمك ، لترتعد الأمم من حضرتك . حين صنعت مخاوف لم ننتظرها ، نزلت ، تزلزلت الجبال من حضرتك»(إشعياء 64 : 1- 3) « الرب في الزوبعة ، وفي العاصف طريقه ، والسحاب غبار رجليه . ينتهز البحر فينشفه ويجفف جميع الأنهار » (ناحوم 1 : 3 ، 4) . AA 88.2
هنالك ظواهر أدعى إلى الرعب من كل ما سبق أن رآه العالم سترى في مجيء المسيح ثانية ، « الجبال ترجف منه ، والتلال تذوب ، والأرض ترفع من وجهه ، والعالم وكل الساكنين فيه . من يقف أمام سخطه ؟ ومن يقوم في حمو غضبه ؟ غيظه ينسكب كالنار ، والصخور تنهدم منه » (ناحوم 1 : 5 ، 6) ) يا رب ، طأطئ سماواتك وانزل . المس الجبال فتدخن ، أبرق بروقا وبددهم . أرسل سهامك وأزعجهم » (مزمور 144 : 5 ، 6) . AA 88.3
«وأعطي عجائب في السماء من فوق وآيات على الأرض من أسفل : دما ونارا وبخار دخان » (أعمال 2 : 19) « فحدثت أصوات ورعود وبروق . وحدثت زلزلة عظيمة ، لم يحدث مثلها منذ صار الناس على الأرض ، زلزلة بمقدارها عظيمة هكذا ... وكل جزيرة هربت ، وجبال لم توجد . وبرد عظيم ، نحو ثقل وزنه ، نزل من السماء على الناس » (رؤيا 16 : 18 ، 20 ، 21( . AA 88.4
عندما يتلاقى البرق من السماء والنار على الأرض فالجبال تحترق كالأتون وتسكب سيولا من الحمم أو المقذوفات البركانية فتكتسح الحدائق والحقول والقرى والمدن ، وإذ تقذف الكتل الملتهبة إلى الأنهار فالمياه ستغلي وتقذف بدورها كتل الصخور العظيمة بقوة لا يمكن وصفها ، فتتناثر أجزائها على الأرض ، وستجدف الأنهار والأرض ترتج ، وفي كل مكان ستحدث زلازل وانفجارات مخيفة . AA 88.5
هكذا سيلاشي الله الأشرار من على وجه الأرض ، أما الأبرار فسيحفظون في وسط تلك الاضطرابات كما حفظ نوح في الفلك ، وسيكون الله ملجأهم ، وتحت جناحيه يحتمون . يقول المرنم « لأنك قلت : ”أنت يا رب ملجإي «جعلت العلي مسكنك ، لا يلاقيك شر » (مزمور 91 : 9 ، 10) «لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر . يسترني بستر خيمته » (مزمور 27 : 5) ووعد الله هو هذا «لأنه تعلق بي أنجيه . أرفعه لأنه عرف اسمي » (مزمور 91 : 14) . AA 89.1
* * * * *