-----------------------
إن يعقوب وعيسو ابني إسحاق التوأمين يقدمان لنا في أخلاقهما وحياتهما تباينا يستثير الدهشة ، وقد أنبأ ملاك الله بهذا الاختلاف قبل ولادتهما ، فحين أعلن لرفقة ، إجابة لصلاتها المضطربة التي قدمتها أنه سيُعطى لها ابنان كشف لها عن مستقبلهما أن كلا منهما سيكون على رأس أمة قوية ، وإن أحدهما سيكون أعظم من أخيه ، وأن الأفضلية ستكون للأصغر . AA 151.1
كبر عيسو محبّا لإرضاء نفسه . ومركّزا كل اهتمامه في الزمن الحاضر . وإذ كان لا يحتمل أي رادع كان يفرح بحرية الانطلاق في البر للصيد ، ومنذ صباه اختار حرفة الصيد ، ومع ذلك فقد كان المفضل عند أبيه ، فذلك الراعي الهادئ محب السلام استهوته جسارة ابنه الأكبر ونشاطه ، ذاك الذي كان يتسلق الجبال ويجوب القفار بلا خوف ويعود بصيده إلى أبيه ويقص عليه القصص المثيرة عن حياة المخاطرة التي كان يحياها . أما يعقوب الذي كان إنسانا مفكرا ومجتهدا وحريصا ، والذي كان دائم التفكير في الحياة العتيدة لا في الحياة الحاضرة فقد كان قانعا بالسكنى في البيت ، مشغولا في رعاية القطعان و فلاحة الأرض ، وأعجبت أمه بصبره ومواظبته وحسن تدبيره وبعد نظره ، فكانت عواطفه عميقة وقوية ، وإن اهتمامه بأمه ، ذلك الاهتمام الرقيق الذي لا يفتر ، زاد في سعادتها أكثر من أعمال الشفقة الصاخبة التي كانت تأتيها من عيسو في فترات متباعدة ، فكان يعقوب أعز على أمه من عيسو . AA 151.2
إن المواعيد التي أعطيت لإبراهيم وتثبتت لابنه تمسك بها إسحاق ورفقة كالغرض الأسمى لأشواقهما وآمالهما ، وكان يعقوب وعيسو عالمين بهذه المواعيد ، وقد تعلما أن يعتبرا البكورية أمرا في غاية الأهمية ، إذ أنها لم تكن تشمل امتلاك الثروة الأرضية فحسب ، بل أيضا السمو والتفوق الروحي ، فالذي يحصل عليها يكون كاهن عائلته ، ومن نسله يأتي فادي العالم . ومن الناحية الأخرى كانت هناك التزامات يلتزم بها من يحصل على البكورية ، فالذي يرث بركاتها عليه أن يوقف حياته لخدمة الله ، وكإبراهيم ، عليه أن يكون مطيعا لكل مطاليب الله . وكان عليه أن يطلب مشورة الله سواء في الزواج أو في الحياة العائلية أو في الحياة العامة . AA 151.3
أفضى إسحاق لابنيه بأمر هذه الامتيازات وشروطها ، وأعلن بكل جلاء أن عيسو ابنه الأكبر هو صاحب الحق في البكورية . إلا أن عيسو لم يكن يحب التعبد لله ، ولا يميل إلى الحياة الدينية . والمطاليب التي كانت تلازم البكورية الروحية كانت أمورا لا يرغبها ، بل كانت رادعا مكروها لديه . وشريعة الله التي كانت من شروطـ عهده الذي عاهد به إبراهيم كانت في نظر عيسو نير عبودية . وإذ كان عيسو منغمسا في الملذات لم يكن يرغب في غير الحرية ليفعل ما يشاء ، وكان يعتبر القوة والغنى والولائم والعربدة سعادة ، وكان يفخر بالحرية الهمجية الجامحة ، وذكرت رفقة كلام الملاك ، ودرست أخلاق ابنيها بإدراك أعمق من إدراك رجلها ، واقتنعت بأن ابنها يعقوب هو الذي سيرث الوعد السماوي ، ورددت ما قاله لها الملاك على مسمع إسحاق ، ولكنه قد ركز محبته في ابنه الأكبر ، وكان عزمه ثابتا لا يتزعزع . AA 152.1
علم يعقوب من أمه نبأ الإشارة الإلهية بأن البكورية ستكون من نصيبه ، فامتلأ قلبه رغبة عظيمة لا يمكن التعبير عنها في امتلاك المزايا التي تمنحها البكورية لمن يحصل عليها . لم يشته ثروة أبيه ، ولكنه كان يصبو إلى البكورية الروحية ، فدخوله في شركة مع الله كما فعل إبراهيم البار ، وتقديمه ذبيحة الكفارة عن عائلته ، وصيرورته أبا للشعب المختار ولمسيا الموعود به ، وإحرازه الميراث الأبدي المتضمن في بركات العهد - تلك كانت الميزات والأمجاد التي ألهبت أشواقه الحارة . كان عقله يفكر دائما في المستقبل ، وكان يرغب في أن يستحوذ على بركاته غير المنظورة . AA 152.2
وبشوق خفي عظيم أصغي إلى كل ما قاله أبوه عن البكورية الروحية ، وبكل حرص اختزن في ذهنه ما كان قد تعلمه من أمه ، وشغل هذا الموضوع فكره نهارا وليلا ، حتى صار الاهتمام الوحيد الشاغل لحياته كلها . ولكنه في حين كان يفضل البركات الأبدية على البركات الزمنية إلى هذا الحد ، لم تكن لديه معرفة اختبارية عن الله الذي كان يوقره ويكرمه ، ولم يكن قلبه قد تجدد بنعمة الله ، وكان يعتقد أن الوعد الخاص به لم يكن ليتم ما بقي عيسو محتفظا بحقوقه في البكورية ، ولذلك كان دائم التفكير في ابتكار وسيلة يستطيع بواسطتها الحصول على البركة التي كان أخوه يستخف بها ، والتي كان هو يعتز بها ويعتبرها ثمينة جدا . AA 152.3
وإذ عاد عيسو يوما من صيده متعبا جدا وفي إعياء شديد ، طلب من يعقوب أن يقدم له من طعامه الذي كان يعده ، فيعقوب الذي كان يسيطر على فكره أمر واحد اغتنم الفرصة وعرض على عيسو أن يقدم له طعاما يشبع به جوعه في مقابل التنازل له عن بكوريته ، فصاح ذلك الصياد الطائش الشهواني قائلا : ( ها أنا ماضٍ إلى الموت ، فلماذا لي بكوريّة ؟ ) في مقابل طبق واحد من العدس تخلى عن البكورية وثبّت الصفقة بقسم ، ومع ذلك فلو أنه صبر قليلا لوجد طعاما كثيرا في خيام أبيه ، ولكن لكي يشبع شهوته الطارئة أبدل ذلك الميراث المجيد الذي وعد الله نفسه به آباءه . كان كل اهتمامه منحصرا في الزمن الحاضر ، وكان مستعدا للتضحية بالبركات السماوية في سبيل الأمور الأرضية ، وإبدال الخير الأبدي بالتمتعات الوقتية . AA 153.1
( فاحتقر عيسو البكوريّة ) (تكوين 25 : 32 ، 34) وفي تنازله عنها أحس بالانفراج ، ولم يبق أمامه الآن أي مانع ، ويمكنه أن يفعل ما يريد . ففي سبيل هذه اللذة الجامحة التي يسميها الناس ، خطأ ، حرية ما أكثر الذين يبيعون بكوريتهم التي تؤهلهم لميراث نقي لا يتدنس وأبدي في السماء ! AA 153.2
وإذ كان عيسو خاضعا دائما للجواذب الأرضية الخارجية تزوج بامرأتين من بنات حث ، كانتا تعبدان آلهة كاذبة ، وكانت وثنيتهما مرارة نفس إسحاق ورفقة . لقد نقض عيسو أحد شروط العهد الذي حرم على الشعب المختار التزوج بالوثنيات ، ومع ذلك كان إسحاق عازما على أن يمنحه البكورية ، فكل منطق رفقة معه ، ورغبة يعقوب وشوقه الشديد للحصول على البركة ، وعدم مبالاة عيسو بمطاليب تلك البركة - كل ذلك لم يزحزح إسحاق عن عزمه . AA 153.3
مرت السنون وشاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر ، وكان ينتظر سرعة مجيء الموت ، ولذلك عوّل على أن يمنح البركة لابنه الأكبر بلا إبطاء ولكن لعلمه أن رفقة ويعقوب يعارضان في ذلك عزم على أن يقوم بتلك الشعائر المقدسة سرا ، ولأن العادة المتبعة هي أن تعد وليمة في مثل تلك المناسبة فأمر ذلك الشيخ ابنه عيسو قائلا : ( اخرج إلى البرّيّة وتصيّد لي صيدا ، واصنع لي أطعمة ... حتّى تباركك نفسي قبل أن أموت ) (تكوين 27 : 3 ، 4) . AA 153.4
فهمت رفقة غرضه ، وكانت واثقة من أن ذلك عكس ما قد أعلنه الله على أنه قصده . كان إسحاق في خطر من تعريض نفسه لغضب الله وعرقلة مساعي ابنه الأصغر دون الوصول إلى المركز الذي دعاه إليه الله ، وكان قد سبق لرفقة أن حاولت عبثا التأثير في تفكير إسحاق ، ولذلك عزمت على أن تلجأ إلى الحيلة . AA 154.1
وما إن خرج عيسو ليلتمس صيده حتى بدأت رفقة في تنفيذ غرضها . أخبرت ابنها يعقوب بما حدث ، وألحت عليه في وجوب العمل السريع لمنع إعطاء البركة لعيسو نهائيا وبلا رجوع ، وأكدت لابنها أنه إذا نفذ تعليماتها فسيظفر بالبركة كما قد وعده الله . لم يوافق يعقوب بسرعة على الخطة التي اقترحتها . إن فكرة خداعه لأبيه سببت له آلاما عظيمة ، وأحس أن مثل تلك الخطية تجلب عليه لعنة لا بركة ، ولكن أمه تغلبت على شكوكه ، فبدأ في تنفيذ ما اقترحته عليه . لم يكن يقصد أن ينطق بكذبة صريحة ، ولكن بعدما دخل إلى حضرة أبيه بدا كأنه قد تجاوز حدود التراجع ، فحصل بالخداع على البركة التي كان يشتهيها . AA 154.2
نجح يعقوب ورفقة في قصدهما ، إلا أنهما لم يحصلا بخداعهما إلا على المتاعب والأحزان . كان الله قد أعلن أن يعقوب هو الذي سيحصل على البكورية ، وكان يمكن أن يتم وعده في الوقت الذي عينه هو لو أنهما انتظرا بإيمان أن يعمل الله لأجلهما ، ولكنهما كانا ككثيرين غيرهما من المدعوين أولاد الله ، غير راغبين في ترك الأمر بين يديه . وقد تابت رفقة وندمت أشد الندم بسبب مشورتها الخاطئة التي أشارت بها على ابنها . لقد كانت تلك المشورة سببا في انفصال ابنها عنها . فلم تر وجهه بعد ذلك . ومنذ ذلك اليوم الذي حصل يعقوب فيه على البكورية استذنب نفسه وعاش مثقلا بالأحزان . لقد أخطأ في حق أبيه وأخيه وفي حق نفسه وفي حق الله ، ففي ساعة واحدة قصيرة عمل عملا ندم عليه طول الحياة . وظل هذا المنظر ماثلا في فكره في السنين التالية ، حين انسحقت نفسه من المسلك الشرير الذي سلكه بنوه . AA 154.3
وما إن ترك يعقوب خيمة أبيه حتى دخل عيسو ، فمع أنه كان قد باع بكوريته وثبت انتقالها إلى يعقوب بقسم مقدس ، فقد كان عازما الآن على أن يستحوذ على بركاتها ، غير مبال بادعاء أخيه . وكانت البكورية الزمنية مرتبطة بالبكورية الروحية ، وكانت تخوله حق رئاسة العائلة والحصول على نصيب اثنين من ثروة أبيه . تلك كانت البركات التي قدرها عيسو ، حين قال ( ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه حتّى تباركني نفسك ) . AA 154.4
هنالك استولت الدهشة والغم على ذلك الأب الضرير ، فارتعد ارتعادا عظيما ، وعلم بالمكيدة والحيلة التي جازت عليه . لقد خابت كل آماله العظيمة التي كان قد احتضنها طويلا ، وأحس بحزن عميق لهول الخيبة التي سيصدم بها ابنه الأكبر ، ومع ذلك فقد برق في ذهنه اقتناع بأن عناية الله هي التي هزمت قصده ، وسمحت بوقوع الشيء نفسه الذي حاول هو أن يمنع وقوعه ، عندها ذكر كلام الملاك الذي قاله لرفقة ، وبرغم الخطية التي ارتكبها يعقوب رأى أنه أنسب شخص يتمم أغراض الله ، فإذ كان ينطق بكلمات البركة على يعقوب كان يحس أن إلهاما إلهيا قد حل عليه ، والآن بعدما عرف الأمر على حقيقته أقرّ البركة التي بارك بها يعقوب دون أن يفطن ، فقال : ( باركته ؟ نعم ، ويكون مباركا ) (تكوين 27 : 33) . AA 155.1
نظر عيسو إلى البركة بكل استخفاف حين كان يبدو أنها في متناول يده ، أما الآن فهو يرغب في امتلاكها بعد ما أفلتت من يده إلى الأبد ، فثارت ثائرته واهتاجت نفسه واحتدم غيظه ، وكان حزنه وثورة نفسه مرعبين هائلين ، فصرخ صرخة عظيمة مرة قائلا : ( باركني أنا أيضا يا أبي ... أما أبقيت لي بركة ؟ ) ولكن الوعد الذي أعطي لم يعد من الممكن استرجاعه وإبطاله ، فالبكورية التي كان قد قايض عليها في عدم مبالاة لم يمكنه استردادها ( لأجل أكلةٍ واحدةٍ ) نعم لأجل إشباع شهوة وقتية لم تكبح إطلاقا ، باع بكوريته ، ولكنه اكتشف جهالته بعد فوات الأوان ، ولم يستطع الحصول على البركة ( لم يجد للتّوبة مكانا ، مع أنّه طلبها بدموعٍ ) (عبرانيين 12 : 16 ، 17) . إن عيسو لم يحرم من امتياز طلب رضى الله بالتوبة ، ولكنه لم يجد وسيلة لاسترجاع البكورية . إن حزنه لم ينشأ عن اقتناعه بخطيته ، فهو لم يرد أن يتصالح مع الله ، ولكن حزنه كان بسبب عواقب خطيته ، لا على خطيته نفسها . AA 155.2
إن عيسو بسبب عدم اكتراثه للبركات الروحية ومطاليبها سماه الكتاب ( مستبيحا ) (عبرانيين 12 : 16) وهو يمثل الذين يستخفون بالفداء الذي اشتراه لهم المسيح ، الذين هم مستعدون أن يضحوا بالميراث السماوي في مقابل الأشياء الأرضية الزائلة . إن ألوفا من الناس يعيشون للعالم الحاضر ، ولا يفكرون أو يهتمون بالأبدية ، بل يصرخون مع عيسو قائلين : ( فلنأكل ونشرب لأنّنا غدا نموت ! ) (1 كورنثوس 15 : 32) فأميالهم تتحكم فيهم ، وبدلا من ممارسة إنكار النفس ينسون أثمن الاعتبارات . إذا كان لا بد من التخلي عن أحد أمرين - إشباع الشهوات الفاسدة ، أو التمتع بالبركات السماوية الموعود بها فقط لمن ينكرون نفوسهم ويخافون الله ، فإن مطاليب الشهوات تغلب ، ويحتقر الناس الله والسماء احتقارا فعليا . ما أكثر الذين ينغمسون في الشهوات حتى بين المدعوين مسيحيين ، الشهوات الضارة بالصحة والتي تخدر حساسية النفس ! فحين يطلب منهم أن يطهروا نفوسهم من كل دنس الجسد والروح ، مكملين قداستهم في خوف الله فإنهم يغتاظون . يعلمون أنهم لا يستطيعون الإبقاء على تلك المسرات الخاطئة ويمكنهم ، في الوقت نفسه ، دخول السماء ، ولذلك يستنتجون أنه حيث أن الطريق إلى السماء مكرب إلى هذا الحد فلن يسيروا فيه بعد . AA 155.3
إن كثيرين من الناس يبيعون بكوريتهم في مقابل الانغماس في الشهوات ، فيضحون بصحتهم وتضعف قواهم العقلية ويخسروا السماء ، وكل ذلك في مقابل لذات وقتية . هذا الانغماس يضعف النفس ويفسدها . وكما صحا عيسو ليرى جهالته في الإقدام على تلك المبادلة الطائشة ، عندما كان وقت استرداد البكورية قد مضى ، كذلك ستكون الحال في يوم الرب بالنسبة للذين قد أبدلوا ميراثهم السماوي بإشباع شهواتهم وأنانيتهم . AA 156.1
* * * * *