إنّ قلب الإنسان هو بالطبيعة باردٌ ومظلمٌ وخالٍ من المحبة، فكلما أظهر الإنسان روحَ الرحمة والغفران فهو لا يفعل ذلك من ذاته بل بواسطة تأثير الروح الإلهي الذي يرفّ على قلبه. « نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً » (1يوحنا 4: 19). ArMB 12.2
والله نفسه هو نبع كل رحمة. واسمه « رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ » (خروج 34: 6). فهو لا يعاملنا بحسب استحقاقنا. وهو لا يسأل ما إذا كنا مستحقين لمحبته ولكنه يسكب علينا غنى محبته ليجعلنا مستحقين.. إنّه ليس حقودا. وهو لا يحاول أن يعاقب بل يحاول بالحري أن يفتدي. وحتى القساوة التي يظهرها في أعمال عنايته إنّما تظهر لأجل خلاص العصاة المتمردين. إنّه يشتاق شوقاً عظيما لأن يخفّف من هموم الناس وويلاتهم ويضع البلسان على جروحهم. نعم إنّ الله « لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً » ولكنه يزيل الإثم (خروج 34: 7). ArMB 12.3
إنّ الرحماء هم « شركاء الطبيعة الإلهية » وفيهم تجد محبة الله الرحيمة تعبيرا. فكل الذين قلوبهم متوافقة مع قلب المحبة السرمدية يحاولون أن يصلحوا لا أن يدينوا. وإذ يسكن المسيح في النفس يصير نبعا لا تنضب مياهه. وإذ يمكث هناك يوجد نبع فائض بالإحسان. ArMB 12.4
وأمام استغاثة المخطئين والمجربين والبؤساء من ضحايا العوز والخطية لا يسال المسيحي قائلا: هل هم مستحقون؟ بل بالحري: كيف يمكنني أن أفيدهم؟ فهو يرى في أشد الناس تعاسة وانحطاطا نفوساً مات المسيح ليخلصها ولأجلهم أعطى الله لأولاده خدمة المصالحة. ArMB 12.5
إنّ الرحماء هم الذين يظهرون الرحمة للفقراء والمتألمين والمظلومين. وها هو أيوب يعلن قائلا: « لأَنِّي أَنْقَذْتُ الْمِسْكِينَ الْمُسْتَغِيثَ وَالْيَتِيمَ وَلاَ مُعِينَ لَهُ. بَرَكَةُ الْهَالِكِ حَلَّتْ عَلَيَّ، وَجَعَلْتُ قَلْبَ الأَرْمَلَةِ يُسَرُّ. لَبِسْتُ الْبِرَّ فَكَسَانِي. كَجُبَّةٍ وَعَمَامَةٍ كَانَ عَدْلِي. كُنْتُ عُيُونًا لِلْعُمْيِ، وَأَرْجُلاً لِلْعُرْجِ. أَبٌ أَنَا لِلْفُقَرَاءِ، وَدَعْوَى لَمْ أَعْرِفْهَا فَحَصْتُ عَنْهَا » (أيوب 29: 12-16). ArMB 12.6
يوجد كثيرون ممن تعتبر الحياة بالنسبة إليهم كفاحاً مؤلما مريرا. إنهّم يحسّون بنقائصهم وهم بؤساء وغير مؤمنين، ويظنّون أنّه لا يوجد لديهم ما يشكرون لأجله. فكلام الرفق والشفقة ونظرات العطف وألفاظ التقدير يمكن أن تكون لكثيرين من المكافحين والمستوحشين كمياه باردة لنفس عطشانة. وكلمة العطف وعمل الشفقة والرحمة قد تزجُّ الأثقال التي تضغط بثقلها على المناكب المتعبة. وكل كلمة أو عمل صادر عن الرحمة غير المُحبّة لنفسها هو تعبير عن محبة المسيح للبشرية الهالكة. ArMB 12.7
والرحماء « يُرْحَمُون » « النفس السخية تُسمّن والمروي هو أيضا يُروى » (أمثال 11: 25). يوجد سلامٌ عذبٌ تتمتع به الروح الرحيمة، وشبعٌ مباركٌ في الحياة التي تنسى نفسها في خدمة الآخرين لخيرهم. والرُّوح الْقُدُس الذي يمكث في النفس ويظهر في الحياة يليّن القلوب القاسية ويوقظ العطف والحنوّ. إنّك لابدّ حاصد ما تزرعه: « طُوبَى لِلَّذِي يَنْظُرُ إِلَى الْمِسْكِينِ ... الرَّبُّ يَحْفَظُهُ وَيُحْيِيهِ. يَغْتَبِطُ فِي الأَرْضِ، وَلاَ يُسَلِّمُهُ إِلَى مَرَامِ أَعْدَائِهِ. الرَّبُّ يَعْضُدُهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ الضُّعْفِ. مَهَّدْتَ مَضْجَعَهُ كُلَّهُ فِي مَرَضِهِ » (مزمور 41: 1-3). ArMB 12.8
إنّ من يسلّم حياته لله في خدمة أولاده هو مرتبط بذاك الذي كل موارد الكون تحت يده وطوع أمره. وحياته محزومة مع حياة الله بسلسلة ذهبيـة من المـواعيد الثـابتـة. والـرب لن يخـذله في ســاعة الألـم والحــاجة: « فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ » (فيلبي 4: 19). وفي الساعة الأخيرة ساعة الحاجة سيجد الرحماء في رحمة المُخَلِّص الرحيم وسيقبلون في المظال الأبدية. ArMB 13.1