الفصل الثالث عشر — الاراضي الوطيئة و اسكنديناوه

استوجب طغيان البابا في الاراضي الوطيئة الاحتجاج منذ عهد مبكر جدا. فقبل عهد لوثر بسبع مئة سنة اتُّهِم البابا بالخيانة بلا خوف، وذلك على لسان اثنين من الاساقفة اللذين اذ كَانا قد أُرسلا الى روما في سفارة عرف ا الصفة الحقيقة ”للبابوية المقدسة“. فقالا: ان الله ”قد جعل ملكته وعروسه، الكنيسة، مؤونة فخمة ابدية لاسرتها ببائنة (مهَر) لا تفنى ولا تتدنس وأعطاها اكليلا وصولجانا ابديين ... وكل ما يعود بالربح تصديتُ له كاللص . لقد أقمت نفسك في هيكل الله، وبدلا من كونك ر اعيا فقد صرت ذئبا يفترس الغنم ... أنت تريد أن تقنعنا بانك رئيس الاساقفة، لكنك تتصرف كما لو كنت طاغية ... ومع انه ينبغي لك أن تكون عبد العبيد، كما تسمي نفسك، فانت تسعى الى ان تكون رب الارباب ... انك تجعل أوامر الله محتقرة ... الروح القدس هو باني كل الكنائس في كل انحاء الارض ... ومدينة الهنا التي نحن رعاياها تصل الى كل أقاليم السماء، وهي أعظم من تلك المدينة التي يسميها الانبياء القديسون بابل والتي تتظاهر انها الهية وتعد نفسها للسماء وتتشدق بان حكمتها خالدة، وأخيرا تدعي من دون سبب انها لم ولن تخطئ“ (٢١٣).GC 264.1

ومن قرن الى قرن قام آخرون ليرددوا صدى هذا الاحتجاج . ثم ان أولئك المعلمين الاولين فيما كانوا يجوبون البلدان المختلفة باسماء متعددة وكانت لهم صفات المبشرين الولدنسيين وكانوا ينشرون في كل مكان معرفة الانجيل، تغلغلوا في داخل الاراضي الوطيئة حيث انتشرت تعالي مهم بسرعة . وقد ترجموا التوراة الولدنسية شعرا الى اللغة الهولندية . وأعلنوا ”ان فيها ميزة عظيمة، لا نكات وفكاهات وخرافات وأشياء تافهة ومخاتلات، بل كلام الحق، وانه بالطبع كانت توجد هنا وهناك لقمة يابسة، ولكن كان يمكن بعد ذلك ان تكتشف بسهولة زبدة وحلاوة كل م ا هو صالح ومقدس في الكتاب“ (٢١٤). هذا ما كتبه معتنقو الحق القديم في القرن الثاني عشر.GC 265.1

وهنا بدأت الاضطهادات البابوية، ولكن في وسط وقود النار والعذابات ظل المؤمنون يتكاثرون معلنين بكل ثبات ان الكتاب المقدس هو المرجع الوحيد الذي لا يخطئ في الدين، وانه ”ينبغي الا يُكره أحد على الايمان بل يجب ربحه بالتبشير“ (٢١٥).GC 265.2

ولقد وجدت تعاليم لوثر تربة ملائمة في الاراضي الوطيئة، فقام رجال غيورون أمناء ليبشروا بالانجيل . وقد أتى مينو سيمونز من إحدى مقاطعات هولنده. فاذ تلقى تعليما رومانيا كاثوليكيا وسيم كاهنا كان يج هل الكتاب جهلا تاما، ولم يكن يريد أن يقرأه خشية أن يُغوى ويعتنق الهرطقة . وعندما اقتحمت عقلَه الشكوكُ الخاصة بعقيدة استحالة القربان والخمر الى جسد المسيح ودمه فعلي اً. اعتبر ذلك تجربة شيطانية، فحاول بالصلاة والاعتراف ان يتحرر من ها، ولكن عبثاً حاول . فانغمس في الملذات محاولا اسكات ضميره الذي كان يبكّته ولكن من دون جدوى . وبعد وقت عكف على دراسة العهد الجديد، وهذا مع مؤلفات لوثر جعله يقبل الايمان المصلَح . وفي اثر ذلك رأى في قرية مجاورة رجلا يُحكم عليه بالاعدام ويقطع رأسه لانه قبل المعمودية مرتين . وهذا قاده الى أن يدرس ما ورد في الكتاب عن معمودية الاطفال. فلم يستطع ان يجد برهانا عليها في كلام الله، ولكنه رأى انه في كل مكان كان يُطلب التوبة كشرط لقبول المعمودية.GC 265.3

فانسحب مينو من الكنيسة البابوية وكرس حياته لتعليم الناس الحقا ئق التي قد قبله ا. وقام في المانيا والاراضي الوطيئة جماعة من المتعصبين ينادون بتعاليم سخيفة مثيرة للفتن تدعو الى انتهاك النظام واللياقة، وتنادي بالالتجاء الى العنف والثورة . وقد رأى مينو العواقب المخيفة التي لا بد أن تؤدي اليها هذه الحركات، فبكل جرأة جعل يقاو م التعاليم الخاطئة والتدبيرات الطائشة التي كان ينادي بها أولئك المتعصبون . ومع ذلك فقد أضل أولئك المتعصبون أناساً كثيرين ولكنهم عادوا فنبذوا تعاليمعم الوبيلة الشريرة . وكان لا يزال باقيا كثيرون من نسل المسيحيين القدامى الذين كانوا من ثمار التعليم الولدنسي . وقد خدم مينو بين هؤلاء الناس بغيرة عظيمة وبنجاح منقطع النظير.GC 266.1

ولمدة خمس وعشرين سنة ظل يسافر ويتنقل مع زوجه وأولاده متحملين المتاعب الجمة والعُسر، وكثيرا ما تعرضت حياته للخطر . وقد قطع الاراضي الوطيئة وشمالي المانيا وهو يعمل بالاكثر بين الطبقات الفقيرة، وكان له تأثير واسع النطاق . ولانه كان بطبيعته فصيحا وان تكن ثقافته محدودة فقد كان رجلا موصوفا بالاستقامة التي لا تلين ولا تتزعزع ووداعة الروح ورقة العادات وخلوص التقوى والغيرة المقدسة، وجاعلا من حياته مثالا للتعاليم والوصايا التي علم بها، وهكذا ظفر بثقة الشعب . وقد تشتت اتباعه واضطُهدوا وقاسوا الشيء الكثير، وارتكبوا بسبب تعاليم المونستريين المتعصبين . ومع ذلك فبفضل جهوده اهتدت جموع كثيرة من الناس الى الله.GC 266.2

لم تُقبل التعاليم المصلحة بالاجماع كما قبلت في الاراضي الوطيئة . وفي قليل من الاقطار احتمل معتنقو تلك التعاليم اضطهادات ارهب مما احتمله اهل الاراضي الوطيئة . وفي المانيا لعن شارل الخامس الاصلاح وحرَّم على الناس اعتناق مبادئه، وكان يريد بكل سرور أن يحرق بالنار كل من ينتمون اليه، لكنّ الامراء حالوا بينه وبين الطغيان. بيد أن نفوذه كان أعظم في الاراضي الوطيئة مما في بلاده، وقد توالت المنشورات الداعية الى الاضطهاد في تتابع وسرعة عظيمين . فكون الانسان يقرأ الكتاب المقدس أو يسمع تعاليمه أو يبشر به أو حتى يتحدث عنه كان كفيلا بان يوقعه تحت خطر الموت احتراقا. وكون الانسان يصلي الى الله في الخفاء أو يمتنع عن السجود أمام الايقونات أو يترنم بمزمور كان يستوجب الموت . بل حتى من كانوا يتركون اخطاءهم كانوا يدانون . فان كانوا رجالا كانوا يموتون قتلا بالسيف، أما النساء فكن يُدفنَّ حيات . وهكذا هلك آلاف من الناس تحت حكم شارل الخامس وفيليب الثاني.GC 266.3

وفي مرة أتي باسرة كاملة أمام محكمة التفتيش، وكانوا متهمين بالتخلف عن حضور القداس وإقامة العبادة في بيتهم . وعند فحص الابن الاصغر اذ سئل عما يفعلونه في الخفاء أجاب قائلا: ”اننا نخر جاثين ونتضرع الى الله ان ين ير عقولنا ويغفر خطايانا، ونحن نصلي لاجل مليكنا حتى يكون حكمه ناجحا وحياته سعيدة، ونصلي لاجل حكامنا حتى يحفظهم الله“ (٢١٦). وقد تأثر بعض القضاة تأثرا عميقا، ومع ذلك فقد حكم على الاب وأحد ابنائه بالموت حرقا بالنار.GC 268.1