Loading...
Larger font
Smaller font
Copy
Print
Contents
الاباء والانبياء - Contents
  • Results
  • Related
  • Featured
No results found for: "".
  • Weighted Relevancy
  • Content Sequence
  • Relevancy
  • Earliest First
  • Latest First
    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents

    الفصل الثالث والأربعون—موت موسى

    في كل معاملات الله لشعبه يمتزج مع محبته ورحمته ، أعجب برهان على عدالته الدقيقة التي لا محاباة فيها . وهذا ما نراه مثلا في تاريخ الشعب العبراني . لقد منح الله إسرائيل بركات غنية ، كما أن رأفته نحوهم مصورة في صورة جد مؤثرة بهذه الكلمات ( كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ، ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه ، هكذا الرب وحده اقتاده ) (تثنية 32 : 11 ، 12) ومع ذلك فما كان أسرع وأقسى العقاب الذي افتقد به الرب معصيتهم فيهم !AA 417.1

    لقد أظهرت محبة الله غير المحدودة في بذله ابنه الوحيد ليفتدي جنسنا الساقط ، فأتى المسيح إلى العالم ليعلن للناس صفات أبيه ، وكانت حياته مفعمة بالكثير من أعمال الرحمة والمحبة الإلهية . وقد أعلن هو بنفسه قائلا : ( إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ) (متى 5 : 18) . ولكن نفس الصوت الذي بكل صبر ومحبة يتوسل إلى الخطاة داعيا اإياهم أن يأتوا إليه ليجدوا الغفران والسلام ، هذا الصوت نفسه سيرعد على من قد رفضوا رحمته قائلا لهم : ( اذهبوا عني يا ملاعين ) (متى 25 : 41) . وفي الكتاب كله لا يصور الله على أنه الآب الرقيق المحب وحسب ، بل أيضا على أنه الديان العادل . ومع أنه يسر بالرحمة ، وكونه ( غافر الإثم والمعصية والخطية ، ولكنه لن يبرئ إبراء ) (خروج 34 : 7) .AA 417.2

    إن سيد الأمم الأعظم كان قد أعلن لموسى أنه (موسى) لن يقود شعب إسرائيل إلى الأرض الجيدة ، ولم تفلح التوسلات الحارة التي قدمها خادم الرب ذاك في إبدال حكم الرب ، بل عرف أنه لا بد من موته . ومع ذلك فهو لم يتردد لحظة واحدة في رعاية إسرائيل . وبكل أمانة اجتهد في إعداد الشعب لدخول الميراث الموعود به . فامتثالا لأمر الله توجه موسى ويشوع إلى خيمة الاجتماع حيث نزل عمود السحاب ووقف فوق الباب . وهنا أسند أمر قيادة الشعب ورعياته بكل وقار إلى يشوع ، وانتهى عمل موسى كقائد لبني إسرائيل ، ومع هذا فقد نسي نفسه في غمرة اهتمامة بشعبه . ففي محضر جموع الشعب المجتمعين خاطب موسى خليفته باسم الرب هذه الأقوال المقدسة المجشعة قائلا : ( تشدد وتشجع ، لأنك أنت تدخل ببني إسرائيل الأرض التي أقسمت لهم عنها ، وأنا أكون معك ) (تثنية 31 : 23) ثم التفت بعد ذلك إلى شيوخ الشعب ورؤسائه وأوصاهم بكل وقار أن يطيعوا بأمانة تامة كل التعاليم التي كان قد أعطاهم إياه من الله .AA 417.3

    وإذ شخص الشعب إلى ذلك الشيخ الذي كان موشكا أن يرحل عنهم ، بدأوا يذكرون بتقدير جديد ، عميق شفقته الأبوية عليهم ونصائحه الحكيمة وجهوده التي لم تكل . فكم من مرة عندما كانت خطاياهم تستوجب قصاص الله العادل انتصرت صلوات موسى وجهاده لأجلهم أمام الرب فأبقى عليهم ! ولقد زاد حزنهم بسبب تبكيت ضمائرهم . وبكل مرارة ذكروا أن عنادهم وزيغانهم قد أسخطا موسى فارتكب الخطية التي كان لا بد أن يموت بسببها .AA 418.1

    إن أخذ قائدهم المحبوب من بينهم سيكون توبيخا أقسى جدا لإسرائيل من أي توبيخ آخر يوجه إليهم فيما لو طالت أيامه وخدمته . ولقد أراد الله أن يشعرهم ويقنعهم بأنهم لن يجعلوا حياة قائدهم العتيد شاقة ومتعبة كما جعلوا حياة موسى . إن الله يكلم شعبه بواسطة البركات التي يمنحها لهم ، فإذا لم يقدروها فهو يحدثهم بواسطة أخذ تلك البركات منهم حتى يروا خطاياهم ويرجعوا إليه بكل قلوبهم .AA 418.2

    وفي نفس ذلك اليوم أمر الرب موسى قائلا : ( اصعد إلى ... جبل نبو الذي في أرض موآب الذي قبالة أريحا ، وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لنبي إسرائيل ملكا ، ومت في الجبل الذي تصعد إليه ، وانضم إلى قومك ) (تثنية 32 : 49 ، 50) . كان موسى يترك المحلة قبلا مرار كثيرة إطاعة لدعوات الله حتى يتحدث معه . أما في هذه المرة فكان عليه أن يحرل في مأمورية جديدة غامضة . كان عليه أن يذهب ليسلم حياته بين يدي جابله . عرف موسى بأنه سيموت وحيدا ، فلم يكن يسمح لأي صديق بشري أن يخدمه في ساعاته الأخيرة . إن المنظر الذي كان أمامه ، كان منظرا يحوطه الغموض والمهابة ، فارتجف قلبه من ذلك المنظر . إن أقسى تجربة كان عليه أن يواجهها هي تجربة انفصاله عن الشعب الذي كان يحبه ويرعاه — الشعب الذي اتحد به . في حياته ومصالحه لأمد طويل . ولكنه كان قد تعلم أن يثق بالله . فبإيمان لا يتطرق إليه الشك سلم نفسه وشعبه بين يدي الله المحب الرحيم .AA 418.3

    فمرة أخيرة وقف موسى في محفل شعبه ومرة أخرى حل عليه روح الله ، وفي أسمى وأروع لغة مؤثرة نطق ببركة على كل سبط وبعد ذلك ختم بهذه البركة على الشعب كله ، ( ليس مثل الله يا يشورون . يركب السماء في معونتك ، والغمام في عظمته ، الإله القديم ملجـأ ، والأذرع الأبدية من تحت . فطرد من قدامك العدو ، وقال : أهلك . فيسكن إسرائيل آمنا وحده . تكون عين يعقوب إلى أرض حنطة وخمر ، وسماؤه تقطر ندى . طوباك يا إسرائيل ! من مثلك يا شعبا منصورا بالرب ؟ ترس عونك ) (تثنية 33 : 26 — 29) .AA 419.1

    حول موسى وجهه عن الشعب ثم بدأ يصعد الجبل وحده في سكون . صعد ( إلى جبل نبو ، إلى رأس الفسجة ) (تثنية 34 : 1) .AA 419.2

    وقف على تلك المرتفعة الموحشة ثم جعل يشخص بعينيه الصافيين إلى ذلك المنظر الممتد أمامه . فعلى مسافة بعيدة نحو الغرب كان البحر الكبير الأزرق ، وفي الشمال كان جبل حرمون يعلوا متشامخا ، وفي الشرق سهل موآب المرتفع ، وخلفه باشان حيث كان مشهد انتصار إسرائيل ، وفي أقصى الجنوب كان يمتد القفر بسني الجولان الطويل فيه .AA 419.3

    وإذ انفرد موسى بنفسه جعل يراجع تاريخ حياته الذي كان تاريخ تقلبات ومتاعب متعددة ، منذ طرح عن نفسه الأمجاد الملكية وعرش مصر الذي كان سيجلس عليه ، ليلقي قرعته مع شعب الله المختار ، وعاد بالذاكرة إلى تلك السنين الطويلة التي كان في خلالها يرعى قطعان يثرون في البرية ، وإلى ظهور الملاك له في العليقة المشتعلة بالنار ، ودعوة الرب الموجهة إليه ليخلص إسرائيل . ثم نظر أيضا الآيات والعجائب العظيمة التي أجريت بقدرة الله لأجل الشعب المختار ، ورحمته المتأنية التي احتملتهم طوال سني اغترابهم وتمردهم في البرية ، وبالرغم من كل ما عمله الله لأجلهم ، وبالرغم من كل صلوات موسى وأعماله لم يبقى أمينا من بين كل ذلك الجيش الذي خرج من مصر غير اثنين من بالغي السن استحقا أن يدخلا أرض الموعد. فإذ رأى موسى نتيجة جهوده ترائى له أن حياة التجارب والتضحيات التي عاشها قد ذهبت هباء .AA 419.4

    ومع ذلك فهو لم يندم لكونه قد تحمل كل تلك الأحمال . لقد عرف أن رسالته وعلمه كانا بتعيين من الله . فحين دعي أولا ليكون قائد للشعب وليخرجهم من تحت أثقال العبودية تراجع وتمنع عن قبول تلك المسؤولية . ولكنه منذ أخذ ذلك العمل على عاتقه لم يلقه عن كاهله ، و حتى حين اقترح عليه الرب أن يعتقه ويهلك بني إسرائييل العصاة لم يرضى موسى بذلك . ومع أن تجاربه كانت عظيمة فقد كان يتمتع بدلائل خاصة على رضىى الله عنه ، وقد حصل على اختبار عظيم في سني الغربة في البرية بمشاهدة مظاهر قدرة الله ومجده ، وفي شركة محبته . لقد اقتنع بأنه أحسن الاختيار . مفضلا بالأحرى أن يذل مع الشعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية .AA 420.1

    وإذ ألقى نظرة إلى الخلف ، إلى اختباره كقائد لشعب الله ، رأى أن عملا واحدا خاطئا أفسد ذلك التايخ وشوهه . فلو محيت تلك المعصية الواحدة لأحس أنه لا يرهب الموت . ثم تحقق أن التوبة والإيمان بالذبيحة الموعود بها كانا كل ما يطلبه منه الله . ومرة أخرى اعترف موسى بخطيته وطلب الغفران باسم يسوع .AA 420.2

    والآن سمح له أن يلقي نظرة شاملة على أرض الموعد . فانبسط أمام ناظريه كل قسم من تلك البلاد ، ليس في صورة غير واضحة المعالم على مسافة بعيدة بل كان كل شيء واضحا وجليا وجميلا أمامه . وقد ظهرت أمامه تلك الأرض لا كما كانت حينئذ بل حسب الصورة التي ستصير إليها ببركة الله في ملك إسرائيل ، فبدا وكأنه ينظر إلى جنة عدن الثانية . كانت هنالك جبال كلها أرز لبنان ، وتلال نمت عند سفوحها أشجار الزيتون ، وعطرتها رائحة أشجار الكرم ، كما رأى سهولا فسيحة ازدانت بالأزهار وكثر فيها الثمار الغنية المشبعة . وهنا كانت أشجار النخل التي تنمو في الأقاليم الحارة ، وهناك حقول الحنطة والشعير المثقلة بالثمار ، ووديان تلمع تحت أشعة الشمس حيث تختلط موسيقى خرير الجداول بأغاريد أطيار السماء . رأى المدن العظيمة والحدائق الغناء . رأى ( فيض البحار ) والماشية ترعى على جوانب التلال ، وحتى عسل النحل البري كان يفيض من جوانب الصخور . لقد كانت أرضا جميلة جدا وغنية بثمارها ، الأمر الذي جعل موسى يصفها بوحي من روح الله فيقول : ( مباركة من الرب أرضه ... بنفائس السماء بالندى ، وباللجة الرابضة تحت ، ونفائس مغلات الشمس ... ومن مفاخر الجبال القديمة . ومن نفائس الإكام الأبدية ، ومن نفائس الأرض وملئها ) (تثنية 33 : 13 — 16) .AA 420.3

    وقد رأى موسى الشعب المختار مستوطنا كنعان كل سبط في ملكه ، رأى لمحة من تاريخهم بعدما استقروا في أرض الموعد ، تلك القصة الطويلة المحزنة عن ارتدادهم المتكرر وقصاص الله الأكيد . كل ذلك انكشف أمامه . ثم رآهم مشتتين بين الأممم بسبب خطاياهم ورأى المجد يزول عن إسرائيل ، ورأى المدينة العظيمة وقد أمست خرابا يبابا ، ورأى شعبها مسبيين في أرض غريبة ، ورآهم يعودون بعد ذلك إلى أرض آبائهم ، وأخيرا يخضعون لسلطان الرومان .AA 421.1

    وقد سمح له أن يسير مع تيار الزمن يرى المخلص في مجيئه الأول ، فرأى يسوع طفلا في بيت لحم وسمع صوت ترنيم أجناد الملائكة السماويين وهم يترنمون بأناشيد الفرح والشكر لله والسلام على الأرض . ورأى النجم الذي ظهر في السماء ليهدي المجوس القادمين من المشرق إلى يسوع . كذلك أشرق على ذهنه نور عظيم حين تذكر تلك الكلمات النبوية القائلة : ( يبرز كوكب من يعقوب ، ويقوم قضيب من إسرائيل ) (عدد 24 : 17) . رأى حياة الاتضاع التي عاشها المسيح في الناصرة ، وخدمة المحبة والعطف والشفاء التي قام بها . ورأى تلك الأمة المتكبرة العديمة الإيمان ترفضه . وقد أذهله أن سمعهم يتفاخرون بشريعة الله ويعظمونها في حين يحتقرون واضعها ويرفضونه . رأى يسوع على جبل الزيتون وهو يودع المدينة التي أحبها باكيا . وإذ رأى موسى الرفض النهائي الذي كان من نصيب ذلك الشعب الذي قد باركته السماء ببركاتها الغنية ، ذلك الشعب الذي لأجله قد تعب وصلى وضحى ، ذلك الشعب الذي في سبيله كان موسى راضيا بأن يمحى اسمه من سفر الحياة ، وإذ سمع المسيح ينطق بتلك الكلمات المخيفة قائلا : ( هوذا بيتكم يترك لكم خرابا ) (متى 23 : 38) اعتصر قلبه وسكبت عيناه دموع العطف على ابن الله في أحزانه .AA 421.2

    وقد تبع المخلص إلى جثسيماني ورأى آلامه في البستان ، والتسليم والسخرية والجلد والصلب . ورأى موسى أنه كما رفعت الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الانسان ( لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ) (يوحنا 3 : 15) . فامتلأ قلب موسى حزنا وغضبا ورعبا وهو يرى الأمة اليهودية تظهر الرياء والعداوة الشيطانية لفاديها السرمدي المدعو الملاك القدير الذي سار أمامه آبائهم . وقد سمع صرخة المسيح وهو يقول : ( إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ؟ ( كما رآه مضجعا في قبر يوسف الجديد ، وقد بدا وكأن ظلمة اليأس الداجية القاتلة قد لفت العالم في أكفانها ، ولكنه تطلع ثانية فرأى السيد يخرج من القبر ظافرا ويصعد إلى السماء يحف به ملائكته ويسحبونه ويتعبدون له . ثم رأى الأبواب المتألقة بالنور تفتح لاستقباله ورأى أجناد السماء يرحبون برئيسهم وينشدون أناشيد الانتصار . وهناك أعلن له أنه هو نفسه سيكون واحدا ممن سيخفون لاستقبال المخلص ويفتحون له الأبواب الدهرية . وإذ تأمل في هذا المنظر أضاء وجهه بنور مقدس . وكم بدت تجاربه وتضحياته تافهة وزهيدة عند مقارنتها بما احتمله ابن الله وكم تبدو خفيفة بالمقارنة مع ثقل المجد الأبدي ! (2 كورنثوس 4 : 17) . وسره أنه قد سمح له بأن يكون شريك آلام المسيح ولو بقدر ضئيل .AA 421.3

    رأى موسى تلاميذ يسوع حين خرجوا حاملين إنجليه إلى العالم . ورأى أنه مع كون شعب إسرائيل ( حسب الجسد ) قد أخفقوا في الحصول على النصيب الذي دعاهم الله إليه ، وفي عدم إيمانهم أخفقوا في أن يكونوا نور العالم ومع كونهم قد ازدروا رحمة الله فضاع حقهم في امتلاك بركاتهم كشعب الله المختار ، فالله لم يرفض نسل إبراهيم ، ومقاصده المجيدة التي شرع في إتمامها بواسطة إسرائيل لا بد من أن تتم . إن كل من سيصيرون أبناء الإيمان في المسيح سيحسبون نسل إبراهيم وورثة مواعيد العهد ، وكإبراهيم قد دعوا ليكونوا حراسا على شريعة الله وإنجيل ابنه ، ويعلموهما للعالم . وقد رأى موسى نور الإنجيل يشرق بواسطة تلاميذ يسوع على ( الشعب الجالس في ظلمة ) (متى 4 : 16) ، ورأى آلافا من الناس ممن يعيشون في أراضي الأمم يتزاحمون حول لمعان إشراقه . فإذ رأى موسى ذلك تهلل وفرح بنمو إسرائيل ونجاحه .AA 422.1

    ثم إن منظرا آخر مر أمام عيني موسى . فلقد أظهر له عمل الشطيان في تحريض اليهود على رفض المسيح ، بينما كانوا يعترفون بأنهم يكرمون شريعة أبيه . وقد رأى الآن العالم المسيحي واقعا تحت سلطان خدعة مشابهة ، إذ يعترفون بقبولهم المسيح بينما هم يرفضون شريعة الله . ولقد سمع من أفواه الكهنة والشيوخ تلك الصرخة الحانقة المجنونة وهم يقولون : ( خذه ! خذه ! اصلبه ! ) والآن ها هو يسمع من أفواه المدعوين معلمي المسيحية هذه الصرخة ( خذوا الشريعة ) رأى السبت مدوسا تحت الأقدام و رأى في مكانه دستورا زائفا . ومرى أخرى امتلأ موسى دهشة وحيرة ورعبا ، إذ كيف يمكن أولئك الذين آمنوا بالمسيح أن يرفضوا الشريعة التي نطق بها بفمه على الجبل المقدس ؟ وكيف يمكن لأي إنسان يخاف الله أن يطرح جانبا تلك الشريعة التي هي أساس حكمه في السماء على الأرض ؟ وقد رأى موسى بفرح أن شريعة الله لا تزال مكرمة وممجدة بواسطة أقلية أمينة ، ورأى الصراع الأخير العظيم الذي تثيره قوات الأرض لإهلاك من يحفظون شريعة الله ، وتطلع إلى الأمام إلى الوقت الذي فيه سيقوم الله ليعاقب سكان الأرض على إثمهم ، وأولئك الذين اتقوا اسم الرب سيخبأون ويسترون في يوم غضبه . كذلك سمع عهد سلام الله مع أولئك الذين حفظوا شريعته حين ينطق بصوته من مقدسه وتتزعزع السماوات والأرض . وقد رأى مجيء المسيح الثاني في مجده والأموات الأبرار يقامون إلى حياة الخلود ، و رأى الأبرار الأحياء يتغيرون دون أن يذوقوا الموت ، وكلا الفريقين يصعدان معا بأغاني الفرح إلى مدينة الله .AA 422.2

    انكشف لعيني موسى منظر آخر — فرأى الأرض وقد تحررت من اللعنة وإذ بها تبدو أجمل من أرض الموعد التي رآها ممتدة أمامه قبيل ذلك ، حيث لا خطية والموت لا يمكن أن يدخل إلى هناك . وهناك سيكون موطن شعوب المخلصين . شاهد موسى هذا المنظر بفرح لا ينطق به ، كما شاهد إتمام خلاص أمجد مما كان يمكن أن تصوره أسمى انتظاراته . فبعدما انتهت إلى الأبد فترة اغترابهم على الأرض سيدخل إسرائيل الله أخيرا إلى الأرض الجيدة .AA 423.1

    ثم تلاشت الرؤيا واستقرت عيناه على أرض كنعان ممتدة أمامه على مسافة بعيدة . وكمحارب متعب اضطجع ليستريح ( فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب . ودفنه في الجواء في أرض موآب ، مقابل بيت فغور . ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم ) (تثنية 34 : 5 ، 6) . إن كثيرين ممن لم يكونوا يرغبون في الإصغاء إلى إرشادات موسى أو الالتفات إليها حين كان معهم ، هؤلاء كان يمكن أن يتعرضوا لخطر عبادة الأوثان ويقدموا عبادتهم وسجودهم لجسده العديم الحياة لو عرفوا مكان قبره . فلهذا السبب أخفي قبره عن عيون الناس . ولكن ملائكة الله دفنوا جثمان خادمه الأمين ووقفوا يحرسون قبره في ذلك المكان الموحش .AA 423.2

    ( ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه ، في جميع الآيات والعجائب التي أرسله الرب ليعملها ... وفي كل اليد الشديدة وكل المخاوف العظيمة التي صنعها موسى أمام أعين جميع إسرائيل ) (تثنية 34 : 10 — 12) .AA 424.1

    ولولا تلك الخطية الواحدة التي شوهت حياة موسى ، حين لم يعد المجد لله عند إخراج الماء من الصخرة في قادش لدخل أرض الموعد وأصعد إلى إله السماء بدون أن يرى الموت . ولكنه لم يكن ليلبث في قبره طويلا ، فإن المسيح نفسه مع الملائكة الذي قد دفنوه نزل من السماء ليدعوا ذلك القديس الراقد ليقوم . لقد سر الشطيان سرورا عظيما لأنه قد أفلح في جعل موسى يخطئ إلى الله فصار تحت سلطان الموت . ثم أعلن ذلك الخصم العظيم أن حكم الله القائل : ( أنك تراب ، وإلى تراب تعود ) (تكوين 3 : 19) قد أعطاه السلطان على كل الأموات . إن سلطان الهاوية لم يكن قد نقض بعد ، فادعى الشيطان أن كل الراقدين في قبورهم هم أسراه ولن يطلق سراحهم من سجنه المظلم .AA 424.2

    ولأول مرة كان المسيح مزمعا أن يهب الحياة للموتى ، وإذ اقترب رئيس الحياة وملائكته المتلألئون بالضياء من القبر ارتعب الشيطان من عظمة جلال وبهاء تلك الشخصية الفريدة . فحشر ملائكته الأشرار ووقف يتحدى السيد الذي أغار على ذلك الإقليم الذي ادعى هو ملكيته ، وجعل يفتخر قائلا إن خادم الله (موسى ) قد صار أسيره . وأعلن قائلا إنه حتى موسى نفسه لم يستطيع أن يحفظ شريعة الله إذ أخذ لنفسه المجد الذي هو من حق الرب - وهذه هي نفس الخطية التي طردت الشيطان من السماء . ولكون موسى قد تعدى الشريعة فقد صار تحت سلطان الشيطان . ثم ردد ذلك الخائن الأعظم التهم الأصلية التي كان قد قدمها ضد حكم الله وكرر شكواه من ظلم الله له .AA 424.3

    ولم يتنازل المسيح لمجادلة الشيطان . كان يمكنه أن يجابهه بالأعمال القاسية التي قد أحدثتها مخاتلاته وأكاذيبه في السماء والتي قد تسببت في هلاك عدد غفير من سكانها ، وكان يستطيع أن يشير إلى أكاذيبه التي فاه بها في جنة عدن والتي نتجت عنها خطية آدم وجلبت الموت على الجنس البشري . وكان بإمكانه أن يذكر الشطيان أنه بسبب تجربته لإسرائيل ليتذمروا ويتمردوا ضاقت نفس قائدهم ونفد صبره المجهد فباغته ذلك العدو على غير استعداد فسقط في الخطية التي أوقعته تحت سلطان الموت . ولكن المسيح أثار في كل ذلك إلى أبيه قائلا: ( لينتهرك الرب ! ) (يهوذا 9) . إن المخلص لم يشتبك في جدال مع خصمه ولكنه في تلك الساعة وفي ذلك المكان بدأ عمله في سحق سلطان عدوه الساقط وفي إخراج الميت إلى الحياة . وهكذا ظهر برهان لم يستطع الشطيان أن يجادل فيه ، وهو برهان تفوق ابن الله ، فتحققت القيامة إلى الأبد ، حيث سلبت من الشطيان غنيمته ، وسيحيا الأموت الأبرار ثانية .AA 424.4

    كان من نتائج الخطية أن وقع موسى تحت سلطان الشيطان . وحسب استحقاقه الشخصي كان أسير الموت شرعا ولكنه أقيم لحياة الخلود محتفظا بلقبه مركزه باسم الفادي . لقد خرج موسى من القبر ممجدا وصعد في صحبة محرره إلى مدينة الله .AA 425.1

    إن عدالة الله ومحبته لم تظهرا بكيفية هكذا مدهشة كما ظهرت في معاملاته لموسى ، إذا استثنينا ذبيحة المسيح . لقد حرم الله موسى من دخول كنعان ليعلم الناس درسا لا ينسى — وهو أنه يطلب طاعة كاملة ، وليحذر الناس من أن ينسبوا لأنفسهم المجد الذي لا يليق بغير الله خالقهم . إنه لم يجب موسى إلى طلبه حين توسل إليه حتى يسمح له أن يأخذ نصيبا في ميراث إسرائيل ولكنه لم ينس عبده ولا هجره . لقد عرف إله السماء الآلام التي تحملها موسى ، كما لاحظ كل الخدمات الأمينة التي قام بها مدى السنين الطوال ، سني المصارعات والتجارب ، وعلى رأس الفجسة دعا الله موسى إلى ميراث أمجد بما لا يقاس من كنعان الأرضية .AA 425.2

    كان موسى حاضرا على جبل التجلي مع إيليا الذي كان قد أصعد السماء حيا . وكانا قد أرسلا حاملين للنور والمجد من الآب لابنه . وهكذا أجيبت صلاة موسى التي كان قد قدمها منذ مئات السنين ، فوقف على ( الجبل المقدس ( في داخل ميراث شعب الله ، شاهدا لذلك الذي تركزت فيه كل المواعيد المعطاة لإسرائيل . هذا كان آخر منظر انكشف للعين البشرية من تاريخ ذلك الرجل الذي أكرمته السماء ذلك الإكرام العظيم .AA 425.3

    كان موسى رمزا للمسيح ، وهو نفسه أعلن لإسرائيل قائلا : ( يقيم لك الرب إلهلك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي . له تسمعون ) (تثنية 18 : 15) . فرأى الله أنه من المناسب أن يتهذب موسى في مدرسة التجارب والآلام والفقر قبلما يصير أهلا لأن يقود جموع إسرائيل إلى كنعان الأرضية ، كما أن إسرائيل الله السائحين في طريقهم إلى كنعان السماوية لهم قائد لم تكن به حاجة إلى أي تعليم بشري لإعداده لرسالته كقائد إلهي ، ومع ذلك فقد كمل بالآلام ، ( لأنه في ما هو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين ) (عبرانيين 2 : 10 ، 18) . لم يظهر في حياة فادينا أي ضعف أو نقص بشري ومع ذلك فقد مات ليضمن دخولنا إلى أرض الموعد .AA 425.4

    ( وموسى كان أمينا في كل بيته كخادم ، شهادة للعتيد أن يتكلم به . وأما المسيح فكابن على بيته . وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية ) (عبرانيين 3 : 5 ، 6) .AA 426.1

    * * * * *

    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents