Loading...
Larger font
Smaller font
Copy
Print
Contents
الاباء والانبياء - Contents
  • Results
  • Related
  • Featured
No results found for: "".
  • Weighted Relevancy
  • Content Sequence
  • Relevancy
  • Earliest First
  • Latest First
    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents

    الفصل السابع—الطوفان

    ------------------------------

    في أيام نوح حلت على الأرض لعنة مضاعفة نتيجة لعصيان آدم وجريمة قايين إذ قتل أخاه ، على أن هذا لم يغير وجه الطبيعة إلى حد كبير . لقد كانت هنالك علامات واضحة على الانحلال ، ومع ذلك فقد كانت الأرض لم تزل غنية وجميلة بهبات عناية الله . لقد كانت التلال مكللة بأشجار عظيمة تستند عليها أغصان أشجار الكرم ، كما اكتست السهول الواسعة بالعشب والخضرة اليانعة ، هذا فضلا عن الأزهار العطرة التي نمت بكثرة وعطرت الأرجاء . وكانت ثمار الأرض متعددة الأنواع تكاد لا تقع تحت حصر ، وكانت الأشجار هائلة في حجمها وجمالها وتناسقها الكامل ، أعظم من كل ما نراه اليوم ، وكانت أخشابها متينة دقيقة الذرات جدا شبيهة بالأحجار وتكاد تكون مثل قوة احتمالها ، أما الفضة والذهب والحجارة الكريمة فقد وجدت بكثرة .AA 70.1

    وكان الجنس البشري لا يزال محتفظا بكثير من حيويته السابقة ، ولكن مرت بضعة أجيال منذ كان مسموحا لآدم بأن يأكل من شجرة الحياة التي كان القصد منها إطالة الأعمار ، وكان عمر الإنسان لا يزال يقاس بالقرون ، ولو أن أولئك الناس الطوال الأعمار ، بقوتهم النادرة على الابتكار والتنفيذ ، كرسوا نفوسهم لعبادة الله وخدمته لكانوا قد جعلوا اسم خالقهم تسبيحة في الأرض ، وكانو قد تمموا الفرض الذي لأجله منحهم الحياة ، ولكنهم أخفقوا في هذا . لقد كان بينهم جبابرة كثيرون ، أناس لهم قامات طويلة وقوة هائلة ، اشتهرو بالحكمة ومهروا في القيام بالأعمال الدقيقة العجيبة ، ولكن جريمتهم في إطلاق العنان للإثم كانت متناسبة مع مهارتهم ومقدرتهم العقلية .AA 70.2

    لقد منح الله الناس قبل الطوفان هبات كثيرة وسخية ، ولكنهم استخدموا هباته في تجميد أنفسهم ، فحولوا تلك الهبات إلى لعنات إذ ركزوا عواطف محبتهم على العطايا دون المعطي ، واستخدموا الفضة والذهب والحجارة الكريمة وأفضل الأخشاب في بناء مساكن لهم ، وحاول كل منهم أن يفوق الآخرين في تجميل تلك المساكن بأجمل وأندر ما أخرجته أيدي الصناع . لقد أرادوا فقط إشباع غرورهم ورغبات قلوبهم المتكبرة . وسروا وتهللوا بمناظر الملذات والإثم . وحيث أنهم لم يريدوا أن يبقوا الله في معرفتهم فسرعان ما أنكروا وجوده . لقد مجدوا الطبيعة بدلا من إله الطبيعة ومبدعها ، مجدوا وعظموا العبقرية البشرية ، وعبدوا أعمال أيديهم وعلموا أولادهم أن يتعبدوا للتماثيل المنحوتة.AA 70.3

    وفي الحقول الخضراء وتحت كل شجرة جميلة غبياء أقاموا مذابح لأوثانهم ، وكرسوا الغابات الواسعة التي بها أشجار دائمة الإخضرار على مدار السنة لعبادة الآلهة الكاذبة . وقد اتصلت بهذه الغابات حدائق جميلة بطرقاتها الطويلة المتعرجة تتدلى من فوقها أثمار الأشجار من كل صنف ، وهي مزدانة بالتماثيل وبكل ما يبهج الحواس أو يثير الشهوات . وهكذا إذ انخدعوا تردوا في هاوية العبادة الوثنية .AA 71.1

    لقد أخرج الناس الله من معرفتهم وعبدوا خلائق من تصوراتهم ، فزاد ذلك من انحطاطهم . إن المرنم يصف التأثير الذي يحدث لمن يتعبدون للأوثان فيقول : «مثلها يكون صانعوها ، بل كل من يتكل عليها» (مزمور ١١٥ : ٨) من قوانين العقل البشري أننا نتغير بالنظر ، إن الإنسان لا يرتفع فوق تصوره للحق والنقاوة والقداسة ، فإذا لم يرتفع فوق مستوى البشرية ، إذا لم يرتفع بالإيمان ليتأمل في الحكمة والمحبة غير المحدودتين فسيندحر إلى الأسفل باستمرار . إن عبدة الآلهة الكاذبة قد ألبسوا آلهتهم صفات شهوانية بشرية ، ولذلك انحط مقياسهم إلى شبه البشرية الخاطئة ، فتنجسوا تبعا لذلك ، « ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض ، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم ... وفسدت الأرض أمام الله ، وامتلأت الأرض ظلما » (تكوين 6 : 5 ، 11) لقد أعطى الله الناس وصاياه لتكون قانونا لحياتهم ، ولكنهم تعدوا الشريعة فنتج عن ذلك أنهم ارتكبوا كل أنواع الخطايا التي يمكن تصورها . كان شر الناس علنيا وجريئا ، وديس العدل في التراب وصعد صراخ المظلومين إلى عنان السماء .AA 71.2

    إن بدعة تعدد الزوجات دخلت إلى العالم منذ القديم خلافا للنظام الذي وضعه الله منذ البدء إذ أعطى الله آدم امرأة واحدة ، معلنا بذلك نظامه في هذه المسألة ، ولكن الناس بعد السقوط اختاروا إتباع شهواتهم الخاطئة ، ونجم عن ذلك أن كثرت الجرائم وعم الشقاء بسرعة مذهلة ، ولم يعد الناس يراعون صلات الزواج ولا حقوق الملكية ، فكل من اشتهى امرأة قريبة أو أملاكه اغتصبها منه لنفسه ، واعتز الناس وابتهجوا بالمظالم ، كما وجدوا مسرتهم في قتل الحيوانات . وكونهم استعملوا اللحم طعاما لهم زاد من وحشيتهم وقسوتهم وحبهم لسفك الدماء ، وقادهم ذلك إلى عدم الاكتراث للحياة البشرية ، وكان ذلك أمرا مذهلا .AA 71.3

    ومع أن العالم كان في دور الطفولة فقد تأصلت الآثام في أعماق طبيعة البشر وانتشرت انتشارا ذريعا بحيث لم يعد الله قادرا على الاحتمال ، « فقال الرب : أمحوا عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته» (تكوين 6 : 7) وأعلن أن روحه لا يدين في الإنسان إلى الأبد . وما داموا لم يكفوا عن أن يفسدوا بخطاياهم العالم وكنوزه الثمينة فسيمحوهم من خليقته ، وسيلاشي كل الأشياء التي سر بأن يباركهم بها ، وسيحمو من الوجود كل حيوانات الحقل والأعشاب والأشجار التي أمدتهم بالطعام الوافر ، وسيحول الأرض الجميلة إلى كتلة ضخمة من الدمار والخراب .AA 72.1

    وفي وسط ذلك الفساد المتفشي اجتهد متوشالح ونوح وآخرون غيرهما أن يبقوا معرفة الإله الحقيقي حية ، وأن يصدوا عن العالم تيار الشرور الأدبية الجارف . وقبل مجيء الطوفان بمئة وعشرين سنة أعلن الرب لنوح بواسطة ملاك بار قصده ، وأرشده إلى بناء فلك ، وفي أثناء بناء الفلك كان عليه أن يعلن للناس أن الله مزمع أن يرسل طوفانا من الماء يهلك الأشرار . فالذين يؤمنون بالرسالة ويتأهبون لتلك الكارثة بالتوبة والإصلاح سيجدون غفرانا ويخلصون . لقد سبق لأخنوح أن ردد على مسامع أولاده ما قد أراه الله إياه بشأن الطوفان . وأن متوشالح وبنيه الذين عاشوا حتى سمعوا كرازة نوح ، أعانوا في بناء الفلك .AA 72.2

    وأعطى الله لنوح الأبعاد والقياسات المضبوطة للفلك والتعليمات اللازمة للبناء بكل تفاصيلها ، وكانت الحكمة البشرية عاجزة عن تصميم بناء كذلك البناء في قوته ومتانته . لقد كان الله هو الذي صمم ، وكان نوح البنّاء العظيم . لقد بني الفلك على هيئة هيكل سفينة لكي يطفوا على وجه الماء ، ولكنه من بعض الوجوه كان يشبه البيت ، كان مكونا من ثلاث طبقات ، ولم يكن له غير باب واحد على أحد جوانبه ، وكان النور ينفذ إلى داخله من أعلاه .AA 72.3

    وقد رتبت الحجرات بحيث كان النور يدخلها جميعها . والخشب الذي استعمله نوح في صنع الفلك هو شجر الجفر أو السرو الذي لا يتطرق إليه التلف بعد مئات السنين ، وكانت عملية بناء الفلك الهائل الحجم عملية بطيئة ومضنية . وبسبب ضخامة الأشجار ومتانة أخشابها كان أمر إعداد الخشب يتطلب جهدا أعظم مما هو الآن ، رغم القوة الهائلة التي امتاز بها أهل ذلك العصر . ولقد عمل كل ما في إمكان البشر عمله لكي يكون العمل كاملا ، ولكن الفلك لم يكن ، بحد ذاته ، قادرا على تحمل تلك العاصفة الهائلة التي كانت موشكة أن تجتاح الأرض ، إلا أن الله وحده كان يستطيع أن يحفظ عبيده من وسط تلك اللجج الهائجة .AA 73.1

    «بالايمان نوح لما أوحي إليه عن أمور لم تر بعد خاف ، فبنى فلكا لخلاص بيته ، فبه دان العالم ، وصار وارثا ببر الذي حسب الإيمان»(عبرانيين 11 : 7) وفيما كان نوح يقدم إنذاراته للعالم برهنت أعماله على إخلاصه ، وبهذه الكيفية كمل إيمانه وبدا صريحا . فلقد قدم للعالم مثالا للرجل الذي يصدق نفس ما قاله الله ، فاستخدم كل ما كان يمكله في بناء الفلك ، وعندما بدأ في صنع ذلك الفلك الهائل على الأرض اليابسة أتت جماهير الناس من كل صوب لمشاهدة ذلك المنظر الغريب ولسماع كلمات الإنذار الغيورة الملتهبة من فم ذلك الكارز الفريد . فكل ضربة من ضربات المطارق في بناء الفلك كانت شهادة للناس .AA 73.2

    ظهر في البداءة أن كثيرين قبلوا الإنذار ، إلا أنهم لم يرجعوا إلى الله بتوبة صادقة ، فلم يرضوا أن يهجروا خطاياهم ، وفي خلال المدة التي مرت قبل مجيء الطوفان امتحن إيمان أولئك القوم ولكنهم أخفقو في الإمتحان ، فإذ انهزموا أمام تيار عدم الإيمان المتفشي انضموا إلى رفقائهم السابقين في رفض تلك الرسالة الخطيرة . وقد تبكت بعض منهم تبكيتا عميقا وكان يمكنهم قبول الإنذار ، ولكن كانت هناك جماهير كثيرة جدا عمدت إلى التندر والسخرية ، حتى أن هؤلاء اشتركوا معهم في الروح نفسها ، فقاوموا دعوات الرحمة ، واندمجوا في وسط أكثر المستهزئين جرأة وتحديا ، لأن أكثر الناس طيشا ممكن يوغلون في طريق الخطية هم أولئك الذين قد استنيروا مرة ولكنهم قاوموا تبكيت روح الله .AA 73.3

    إن أهل ذلك العصر لم يكونوا كلهم عبدة أوثان بكل معنى الكلمة ، فلقد اعترف كثيرون منهم أنهم يعبدون الله ، وادعوا أن أوثانهم ما هي إلا تمثيلات أو صورة لله ، وأنه عن طريقها يمكنهم إدراك الكائن الإلهي إدراكا واضحا . هذا الفريق من الناس كانوا أول من رفضوا كرازة نوح ، فإذ أرادوا أن يمثلوا الله بأشياء مادية عميت أفكارهم عن إدراك جلاله وقدرته ، ولم يتحققوا من قداسة صفاته أو قداسة طبيعة مطاليبه التي لا تتغير . فإذ عمت الخطية جميع الناس لم تعد في نظرهم خاطئة جدا ، فأعلنوا أخيرا أن شريعة الله لم تعد سارية المفعول ، وأنه مما يناقض صفات الله كونه يعاقب العصاة على عصيانهم ، وعادوا لا يصدقون أن الله سيوقع ضرباته على ساكني الأرض . ولكن لو أن أهل ذلك العصر أطاعوا شريعة الله لكانوا قد ميزوا صوته في إنذارات عبده نوح . ولكن عقولهم كانت قد عميت لكونهم رفضوا النور ، فاعتبروا رسالة نوحا خداعا وتضليلا .AA 73.4

    إن الذين وقفوا إلى جانب الحق لم يكونوا جماهير أو أكثرية . فلقد هب العالم يحارب عدالة الله وشرائعه ، كما اعتبرو نوحا رجلا متعصبا . لما جرب الشيطان حواء لتعصي الله قال لها : «لن تموتا» إن رجال العلم العظماء والشرفاء والحكماء قالوا : « إن قصد الله من هذه التهديدات هو تخويفنا ، ولكنها لن تتحققق ولن تحدث فلا داعي للانزعاج . إن كون الله يهلك العالم الذي قد خلقه ويعاقب الخلائق التي قد جبلها هذا أمر لن يحدث ، فلا تخافوا بل اطمئنوا. إن نوحا هذا رجل همجي ومتعصب » . ومضى العالم يسخر من غباوة ذلك الشيخ المخدوع . وبدلا من أن يتضعوا أمام الله أمعنوا في عصيانهم وشرهم كأن الله لم يحذرهم على لسان عبده .AA 74.1

    على أن نوحا وقف كالطود أمام العاصفة . فمع أنه كان مكتنفا باحتقار الناس وسخريتهم فقد تمسك باستقامته وأمانته . كان كلامه مصحوبا بقوة ، إذ كان هو صوت الله موجها إليهم على فم عبده . إن صلته بالله زودته بقوة عظيمة حين كان صوته الوقور يقرع آذان أهل ذلك العصر مدة مئة وعشرين سنة بخصوص حوادث ظهرت مستحيلة من وجهة النظر البشرية .AA 74.2

    كان الناس قبل الطوفان يتحاجون قائلين إن نواميس الطبيعة ظلت ثابتة مدى عصور طويلة ، فالفصول المتعاقبة جاءت في أوقاتها وبموجب نظامها ، ولم يسبق للأمطار أن سقطت قبل الآن ، فالأرض كانت تروى بالضباب أو الندى ، والأنهار لم يسبق لها أن طغت على شواطئها ، بل حملت مياهها إلى البحر بسلام ، والقوانين الثابتة منعت المياه من أن تطغي على شواطئها ، ولكن أولئك المتحاجّين أسقطوا من اعتبارهم يد ذلك الذي أوقف المياه بقوله : «إلى هنا تأتي ولا تتعدى» (أيوب 38 : 11) . فلما مرت أيام طويلة ولم يحدث أي تغيير في الطبيعة فبعض الناس الذين سبق وارتجفت قلوبهم خوفا بدأوا يستشعرون الأمان . قالو كما يقول كثيرون اليوم إن الطبيعة تسمو على إله الطبيعة وأن قوانينها ثابتة بحيث لا يستطيع الله نفسه أن يغيرها . ثم قالوا : إذا كانت رسالة نوح صحيحة فلا بد من أن تخرج الطبيعة عن مألوف عادتها وقوانينها . وأقنعوا الناس بأن تلك الرسالة هي تضليل وخدعة هائلة ، وبرهنوا على احتقارهم لإنذار الله بكونهم عملوا نفس ما كانوا يعملونه قبل تقديم الإنذار إليهم . وقد ظلوا يولمون ولائهم ويقيمون أعيادهم التي تجلت فيها الشراهة والسكر ، فكانوا يأكلون ويشربون ويغرسون ويبنون ويعدو خططهم بالنسبة إلى منافع كانوا يؤملون في الحصول عليها في المستقبل ، وأوغلوا في الشر إلى مدى بعيد ، وتحدوا الله واستخفوا بمطاليبه ليبرهنوا على أنهم لا يخافون الإله غير المحدود ، وتوهموا أنه إذا كان ما قاله نوح صادقا فإن الحكماء والفهماء والرجال العظماء المشهورين سيفهمون الأمر .AA 74.3

    لو أن الناس الذين عاشوا قبل الطوفان صدقوا الإنذار وتابوا عن أعمالهم الشريرة لكان الرب رد عنهم حمو غضبه كما فعل بعد ذلك مع أهل نينوى . ولكن ، بمقاومتهم العنيدة لتبكيت ضمائرهم وإنذارات نبي الله ، كمل مكيال إثمهم وفاض ، وصاروا ناضجين ومهيئين للهلاك .AA 75.1

    أوشكت مدة امتحانهم أن تنتهي ، وكان نوح قد اتبع ، بكل أمانة ، التعليمات التي كان قد تلقاها من الله ، وكمل الفلك بكل أجزائه كما أمر الله ، وخزن نوح فيه طعاما له ولعائلته وللحيوانات التي ستدخله ، والآن فها رجل الله يقدم آخر إنذار خطير . وبكل حزن ورغبة حارة لا يمكن التعبير عنها توسل إليهم أن يطلبوا ملجأ ما دام يوجد ، فعادوا يرفضون كلامه ، ورفعوا أصواتهم هازئين وساخرين ، وفجأة استولى السكوت والوجوم على تلك الجماهير الساخرة ، ذلك أنهم أبصروا الحيوانات من كل نوع ، من أضرى وحوش الغاب إلى الحيوانات الأليفة نازلة من الجبال وخارجة من الغابات وسائرة بسكون نحو الفلك . ثم سمع صوت كما من هبوب ريح عاصفة ، وإذا بالطيور قادمة من كل صوب وقد امتلأت بها السماء ، وبنظام تام تتجه إلى الفلك . لقد أطاعت البهائم صوت الله أما الناس فعصوه ، فإذا كانت الملائكة تقودها دخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين ، بينما الطاهرة منها دخلت سبعة سبعة . وذهل الناس لهذا المنظر ، بينما وقع على الآخرين خوف . واستدعي الفلاسفة ليعللوا هذا الحادث الفريد ، ولكنهم عبثا حاولوا ، فلقد كان سرا عجزوا عن أن يسبروا غوره ، ولكن الناس كانوا قد تقسوا بإصرارهم على رفض النور حتى أن تأثير ذلك المنظر لم يدم طويلا . وحين أبصر أولئك الناس المحكوم بهلاكهم الشمس وهي تشرق في بهائها ومجدها ، والأرض وقد اكتست حلة جميلة كما لو كانت جنة عدن طردوا عنهم مخاوفهم وأغرقوها في المسرات والولائم الصاخبة ، وبأعمال الظلم والاغتصاب التي كانوا يرتكبونها ، فلكأنهم يستمطرون على أنفسهم ما قد سبق فحمي من غضب الله .AA 75.2

    «وقال الرب لنوح : ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك ، لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل» (تكوين 7 : 1) لقد رفض العالم إنذارات نوح ، ولكن تأثيره ومثاله نتجت عنهما بركات لعائلته . وجزاءً له على أمانته واستقامته خلّص الله معه كل أفراد عائلته . ما أعظم هذا من تشجيع للآباء الأمناء .AA 77.1

    لقد كفت رحمة الله عن التوسل إلى العالم الأثيم . ودخلت حيوانات الحقل وطيور السماء إلى الفلك لتحتمي فيه ، واكن نوح وعائلته في داخل الفلك ، « وأغلق الرب عليه» (تكوين 7 : 16) وشوهد نور يبهر الأبصار ورئيت سحابة من مجد أبهى من البرق نازلة من السماء وحلقت أمام باب الفلك . والباب الكبير الذي كان من المستحيل على من في داخل الفلك إغلاقه أدارته على صائره ببطء يد خفية حتى أغلقته . أغلق الباب على نوح وعائلته في الداخل ، أما الذين رفضوا رحمة الله فقد أغلق الباب دونهم ، وختم على ذلك الباب بختم السماء . وحيث أن الله هو الذي أغلقه فليس آخر سواه يستطيع أن يفتحه . وهكذا حين يكف المسيح عن التشفع في المذنبين ، وقبل مجيئه في سحاب السماء سيغلق باب الرحمة ، وحينئذ لن تعود نعمة الله تردع الأشرار بعد ، وسيسيطر الشيطان سيطرة كاملة على من قد رفضوا الرحمة ، وسيحاولون إهلاك شعب الله . ولكن كما أغلق على نوح في داخل الفلك سيحتمي الأبرار في قدرة الله .AA 77.2

    ولمدة سبعة أيام بعد دخول نوح وعائلته إلى الفلك لم تظهر أية علامة تدل على مجيء العاصفة المنتظرة ، وفي خلال هذه المدة امتحن إيمانهم . لقد كان ذلك الوقت وقت انتصار للعالم خارج الفلك ، وذلك التأخير الظاهري زاد في اقتناعهم بأن رسالة نوح كانت خداعا وتضليلا ، وأن الطوفان لن يجيء . وبالرغم من كل المناظر الخطيرة التي قد رأوها من دخول الحيوانات والوحوش والطيور إلى الفلك وقيام ملك الرب ليغلق الباب فقد ظل أولئك الأشرار سادرين في لهوهم وعربدتهم ، بل أنهم اتخذوا من ظواهر قوة الله الفريدة هذه موضوعا للهزل ، واجتمعت جماعات منهم حول الفلك ساخرين وهازئين بمن احتموا فيه ، في جرأة وعنف لم يكونوا يجسرون عليهما من قبل .AA 77.3

    ولكن في اليوم الثامن انتشرت السحب القاتمة في السماء ، وتبع ذلك دمدمة الرعود ووميض البروق ، وسرعان ما بدأت قطرات «المطر الكبيرة تتساقط ، ولم يسبق للعالم أن رأى شيئا كهذا ، فامتلأت قلوب الناس خوفا ورعبا ، وجعلوا يتساءلون سرا قائلين : أيمكن أن يكون نوح على صواب وأن العالم محكوم عليه بالهلاك ؟ » ثم اكفهر الجو أكثر فأكثر ونشرت الظلمة ألويتها على كل العالم وزاد انصباب المطر . أما البهائم والوحوش فهامت على وجوهها في رعب عظيم ، وكأنها في عوائها وصراخها تندب مصيرها ومصير الإنسان ، ثم «انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم ، وانفتحت طاقات السماء » (تكوين 7 : 11) ونزلت المياه من السحب على هيئة سيول جارفة ، وفاضت مياه الأنهار على شطوطها فغمرت الأودية ، وانفجرت نافورات المياه من قلب الأرض بقوة لا يمكن وصفها دافعة الصخور العظيمة في الهواء مئات الأقدام من قوة اندفاع المياه . فلما عادت الصخور وسقطت على الأرض غاصت عميقا فيها .AA 78.1

    شاهد الناس أول ما شاهدوا الدمار الذي حل بأعمال أيديهم ، فالأبنية الفخمة والحدائق والأحراش الجميلة حيث نصبوا أصنامهم دمرتها بروق السماء فتناثرت أنقاضها في كل مكان . والمذابح التي كانت تقدم عليها الذبائح البشرية هدمت ، فارتعب عبدة الأوثان من قدرة الله الحي وعرفوا أن فسادهم ووثنيتهم هما اللذان أحدثا ذلك الدمار .AA 78.2

    ولما اشتد عنف العاصفة اقتلعت الأشجار والبيوت والصخور والتراب وقذفت بها في كل اتجاه ، وكان رعب الناس والحيوانات والوحوش مما لا يستطاع وصفه ، فارتفع عويل الناس الذين احتقرو سلطان الله فوق صوت العاصفة . والشيطان نفسه إذ كان مضطرا لأن يكون حاضرا في وسط ميدان العناصر المتحاربة خاف على كيانه . لقد كان مسرورا لأنه سيطر على أولئك الناس الأقوياء ، وكان يريدهم أن يعيشوا ليمارسوا رجاساتهم ويظلوا متمردين على سلطان السماء ، أما الآن فهو يقذف الله العلي باللعنات متهما إياه بالظلم والقسوة . وتمثل بالشيطان كثيرون من الناس في التجديف على الله ، ولو أمكنهم لكانوا خلعوه عن عرش القدرة . آخرون تملكهم الغضب والخوف وجعلوا يبسطون أيديهم نحو الفلك طالبين الدخول ، ولكن عبثا كانوا يتوسلون . استيقظت ضمائرهم أخيرا ليعلموا أنه يوجد إله يملك في السماء ، فتوسلوا إليه بكل لجاجة ، ولكن أذنه لم تستمع لصرخاتهم . وفي تلك الساعة الرهيبة علموا أن تعديهم شريعة الله كان علة هلاكهم . ومع ذلك فحين اعترفوا بخطيتهم مدفوعين بدافع الخوف من القصاص لم يشعروا بانسحاق صادق أو تذلل أو كراهية للشر . فلو رفعت عنهم الدينونة لعادوا إلى تحديهم للسماء . كذلك حين تنصب أحكام الله على الأرض قبلما يغمرها طوفان من النار ، فغير التائبين سيعرفون أين خطيتهم وما هي — إذ هي احتقار شريعة الله المقدسة . ومع ذلك فلن تكون توبتهم صادقة كما لم تكن توبة الخطاة في تلك العصور القديمة .AA 78.3

    وساق اليأس بعض الناس إلى محاولة الدخول إلى الفلك عنوة ، ولكن متانة الفلك حالت دون كل محاولاتهم . آخرون تعلقوا بالفلك إلى أن جرفتهم الأمواج العاتية ، أو أنهم أفلتوا أيديهم حين اصطدموا بالصخور والأشجار . ومع ضخامة الفلك ومتانته فقد كان يهتز ويترنح أمام الرياح القوية الجبارة ، وكانت تتقاذفه اللجج الهائلة ، وإن صرخات الحيوانات التي كانت في داخل الفلك كانت تعبيرا عن مخاوفها وآلامها . ولكن في وسط العناصر المصطرعة سار الفلك آمنا ، إذ قد كلف الملائكة المقتدرون قوة أن يحفظوه .AA 79.1

    ثم أن الحيوانات ، إذ تعرضت للعاصفة ، اندفعت صوب الناس كأنما كانت تنتظر منهم العون ، وربط بعض الناس أنفسهم وأولادهم على ظهور بعض الحيوانات القوية لعلمهم أن من طبعها التشبث بالحياة ، وأنها لا بد أن تتسلق أعلى المرتفعات لتنجو من المياه الطامية . وبعضهم تعلقوا بالأشجار العالية فوق الجبال والتلال ، ولكن تلك الأشجار اقتلعت فسقطت بمن عليها في أعماق المياه ، كما أن الأماكن التي اعتصموا بها لتحميهم كانت تخذلهم . وإذ تعاظمت المياه في ارتفاعها هرع الناس إلى أعلى الجبال لينجوا بأنفسهم . وفي غالب الأحيان كان الناس والبهائم يتقاتلون على مكان يضعون فيه أقدامهم ، ولكن سرعان ما جرتفهم المياه معا . ومن أعالى قمم الجبال كان الناس ينظرون إلى المحيط الذي لا شاطئ له ولا حدود ، وتلك اللإنذارات الخطيرة التي نطق بها رجل الله لم تعد موضوعا للهزء أو السخرية ، وكم تاق أولئك الخطاة المحكوم بهلاكهم لعودة فرص الرحمة التي استخفوا بها ، وكم توسلوا في طلبAA 79.2

    ساعة إمهال واحدة ، وامتياز رحمة واحد ، ودعوة واحدة من فم نوح ، لكنهم لم يعودوا يسمعون صوت الرحمة الرفيق الجميل مرة أخرى ، فلقد تطلبت محبة الله وعدالته أن توقف أحكام الله الخطية عند حدها . وارتفعت مياه الطوفان الانتقام حتى غطت آخر ملاذ ، هلك بها كل من ازدروا الله .AA 80.1

    «أن السماوات كانت منذ القديم ، والأرض بكلمة الله قائمة من الماء وبالماء ، اللواتي بهن العالم الكائن حينئذ فاض عليه الماء فهلك. وأما السماوات والأرض الكائنة الآن ، فهي مخزونة بتلك الكلمة عينها ، محفوظة للنار إلى يوم الدين وهلاك الناس الفجار» (2 بطرس 3 : 5 - 7) ‘ن عاصفة أخرى قادمة ، فسيكتسح الأرض غضب الله المهلك وسيهلك الخطاة والخطية .AA 80.2

    إن الخطايا التي استوجبت انصباب غضب الله على عالم ما قبل الطوفان تسود العالم اليوم . لقد أبعد الناس خوف الله عن قلوبهم ، وهم ينظرون إلى شريعته باحتقار وعدم مبالاة . وإن محبة العالم المفرطة التي كانت في ذلك العصر يوجد ما يماثلها في هذه الأيام التي نحن عائشون فيها . قال المسيح : «لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون ، إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك ، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع ، كذلك يكون أيضا مجيئ ابن الإنسان » (متى 24 : 38 ، 39) إن الله لم يدن أولئك الناس لأنهم كانوا يأكلون و يشربون ، فقد أعطاهم أثمار الأرض بوفرة عظيمة لسد احتياجاتهم الجسدية ، ولكن خطيتهم انحصرت في كونهم تناولوا العطايا دون أن يشكروا المعطي ، وكونهم انحطوا بالانغماس في النهم والشهوات بدون وازع . لقد كان أمرا مشروعا أن يتزوجوا ، فلقد أمر الرب لهم بالزواج الذي كان أول فريضة أسسها لهم ، وأصدر تعليمات خاصة به ، وبذلك ألبسه ثوب القدسية والجمال ، ولكن هذه الارشادات نسيها الناس ، ففسد الزواج وصار مطية للشهوات .AA 80.3

    إن مثل هذه الحالة موجودة اليوم ، فلقد أفرط الناس في ما هو مشروع في حد ذاته ، وانعمسوا في النهم والشراهة بدون رادع . كثيرون من المدعوين مسيحيين اليوم يأكلون ويشربون مع السكارى ، في حين أن أسماءهم مسجلة في الكنيسة بين المكرمين . إن الإفراط في الأكل وعدم الاعتدال يخدران قوانا الأدبية والروحية ، ويعدان الطريق للانغماس في الشهوات الدنيئة . ثمة جماهير غفيرة من الناس يظنون أنهم غير ملزمين بأن يلجموا شهواتهم ، لذلك يصبحون عبيدا لهم ، فالناس يعيشون لأجل التمتع بالمسرات الحسية ، يعيشون لهذا العالم وهذه الحياة وحدها . والاسراف شائع بين كل طبقات المجتمع ، والناس يضحون بالاستقامة في سبيل الترف والتفاخر والظهور . والذين يتعجلون الغنى يدوسون العدل ويظلمون الفقراء . وإن) العبيد ونفوس الناس( لا تزال تباع وتشترى ، والغش والرشوة والسرقة تصول وتجول بين الفقراء والأغنياء بلا رادع ، وأعمدة الصحف تفيض بأنباء وجرائم القتل - جرائم ترتكب بدون مبالاة وبدون سبب حتى يبدو كأن الناس قد فقدوا كل شعورهم . مثل هذه الفظائع صارت شائعة وكثيرة الحدوث بحيث عادة لا تستدعي انتقادا أو دهشة . وروح الفوضى سادت على كل الأمم ، والثورات التي من حين إلى آخر تثير الرعب في العالم هي دلائل على نيران الغضب والتمرد المكبوتة التي إذا أفلت زمامها فلا بد من أن تملأ الأرض ويلا ودمارا . إن الصورة التي يقدمها لنا الوحي عن العالم قبل الطوفان تمثل لنا بصورة صادقة جدا الحالة التي يندفع اليها مجتمعنا اليوم ، وحتى في العصر الحاضر وفي البلاد التي تدين بالمسيحية جرائم ترتكب كل يوم وهي هائلة وشنيعة ومرعبة كالتي سببت هلاك الخطاة الذين عاشوا في العالم القديم .AA 80.4

    قبل الطوفان أرسل الله نوحا لينذر العالم لعل لطف الله يقتاد الناس إلى التوبة وهكذا ينجون من الهلاك الذي كان يتدهددهم . وإذ يقترب ظهور المسيح ثانية يرسل الرب عبيده لينذروا العالم ليستعد للحادثة العظيمة . لقد عاش كثيرون من الناس في حالة تعد لشريعة الله ، والآن وهو يدعوهم في رحمته ليطيعوا وصاياه المقدسة . فكل من يتركون خاطاياهم بالتوبة إلى الله والإيمان بالمسيح ينالون الغفران ، ولكن كثيرين يعتقدون أن تركهم لخطاياهم يتطلب منهم تضحية فوق طاقتهم ، وبما أن حياتهم لا تتفق مع مبادئ حكم الله الأدبي النقية فهم يرفضون إنذاراته وينكرون سلطان شريعته.AA 81.1

    ومن بين سكان العالم قبل الطوفان البالغي الكثرة ، لم يصدق ويطع كلام الرب على فم نوخ غير ثماني أنفس . ولمدة مائة وعشرين سنة ظل ذلم الكارز بالبر ينذر العالم بالهلاك القادم عليهم ، ولكنهم رفضوا رسالته واحتقروها وهكذا ستكون الحال اليوم ، فقبلما يجيء المشترع ليعاقب العصاة سيقدم لهم الإنذار ليتوبوا ويعودوا إلى ولائهم له ،AA 81.2

    ولكن هذه الإنذارات ستكون بلا جدوى بالنظر إلى الغالبية . يقول الرسول بطرس : «سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون ، سالكين بحسب شهوات أنفسهم ، وقائلين : ‹ أين هو موعد مجيئه ؟ لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باق هكذا من بدء الخليقة›» (2 بطرس 3 : 3 ، 4) ألا نسمع هذا الكلام عينه يتكرر ، ليس فقط على أفواه الأشرار المكشوفين بل أيضا على أفواه بعض من يعتلون المنابر في بلادنا ؟ يصرخون قائلين : «لا دعي للخوف ، قبل مجيء المسيح لا بد من أن العالم كله يتجدد ويهتدي ، وسيحكم بالبر لمدة ألف سنة . سلام ، سلام ، كل شيء باق هكذا منذ بدء الخليقة . لا ينزعج أحدكم من أية رسالة يسمعها من هؤلاء الناس مروجي الأنزارات». ولكن هذا التعليم عن الألف سنة لا يتفق مع تعاليم المسيح ورسله . لقد سأل يسوع هذا السؤال الهام قائلا : « متى جاء ابن الإنسان ، ألعله يجد الإيمان على الأرض ؟ » (لوقا 18 : 8) وكما سبق القول هو يعلن أن حالة العالم في الأيام الأخيرة ستكون كما كانت في أيام نوح . إن بولس ينذرنا بأنه يمكننا أن نتوقع تفاقهم الشر قرب النهاية إذ يقول : « ولكن الروح يقول صريحا : إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان ، تابعين أرواحا مضلة وتعاليم شياطين» (1 تيموثاوس 4 : 1) والرسول نفسه يقول : « في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة » (2 تيموثاوس 3 : 1) ثم يقدم لنا قائمة مفزعة بالخطايا التي ستكون شائعة بين الذين لهم صورة التقوى.AA 82.1

    إذ اقتربت فرصة إنذار الناس قبل الطوفان من نهايتها أسلموا أنفسهم للتسليات والولائم المثيرة ، وإن أصحاب النفوذ والسلطان بذلوا جهدهم في جعل عقول الناس الذين حولهم تنشغل بالمرح والمسرات حتى لا يتأثر أحدهم بذلك الإنذار الأخير الخطير . ألسنا نرى هذا الأمر يتكرر في أيامنا هذه ؟ ففيما يقدم خدام الله الرسالة القائلة إن نهاية كل شيء قد اقتربت نرى العالم منغمسا في تمتعاته وطلب الملذات . ثم اهتياج مثير في كل مكان يجعل الناس عديمي اكتراث الله ، ويحول بينهم وبين التأثر بالحقائق التي تستطيع وحدها أن تخلصهم من الهلاك القادم عليهم .AA 82.2

    وفي أيام نوح أعلن الفلاسفة أنه يستحيل أن يهلك العالم بطوفان الماء . وكذلك في هذه الأيام يحاول العلماء أن يبرهنوا على أنه لا يمكن أن يهلك العالم بالنار ، وأن هذا لا يتفق مع قوانين الطبيعة . ولكن خالق الطبيعة و واضع نواميسها والمتحكم فيها يستطيع أن يسخر عمل يديه في تنفيذ أغراضه .AA 82.3

    حين برهن العظماء والحكماء ، إرضاء لأنفسهم . على أن العالم يستحيل أن يهلك بطوفان الماء ، وحين هدأت مخاوف الناس ، وحين اعتبر الناس نبوة نوح خداعا أو خبلا في عقله واعتبروه رجلا متعصبا - حينئذ جاء وقت الله . وإذ ذاك : « انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم ، وانفتحت طاقات السماء » (تكوين 7 : 11) وحينئذ غمرت مياه الغمر العظيم كل الساخرين . فكل فلسفتهم التي كانوا يتشدقون بها علم الناس ، بعد فوات الفرصة ، أن كل حكمتهم جهالة ، وأن واضع قوانين الطبيعة هو أعظم من قوانين الطبيعة ، وأن القدير على كل شيء لن تعوزه الوسائل لتحقيق اغراضه ، « كما كان في أيام نوح .. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان » (لوقا 17 : 26 ، 30) لأنه « سيأتي كلص في الليل ، يوم الرب ، الذي فيه تزول السماوات بضجيج ، وتنحل العناصر محترقة ، تحترق الأرض والمصنوعات التي فيها » (2 بطرس 3 : 10) فحين تبعد محاجة الفلاسفة عن الناس الخوف من دينونة الله ، وحين يشير بعض رجال الدين إلى أجيال قادمة يسود فيها السلام والرخاء ، يكون أهل العالم منهمكين في أعمالهم ومسراتهم — يغرسون ويبنون ويفرحون ويطربون ويرفضون إنذارات الله ويسخرون من رسله — حينئذ « يفاجئهم هلاك بغتة ، كالمخاض للحبلى ، فلا ينجون» ( 1 تسالونيكي 5 : 3).AA 83.1

    * * * * *

    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents