يقف لوثر في مقدمة من دعوا الى اخراج الكنيسة من ظلمة البابوية الى نور ايمان انقى . كان رجلا غيورا متحمسا متعبدا لا يعرف خشية الناس بل يخاف الله، ولا يعترف بأساس آخر للايمان والعقيدة الدينية غير الكتاب المقدس، كان رجل عصره، وعن طريقه أتم الله عملا عظيما لاصلاح الكنيسة وانارة العالم. GC 134.1
وكالبشيرين الأولين الكارزين بالانجيل برز لوثر من بين احضان الفقر، عائشا سني طفولته في بيت فلاح الماني وضيع . وقد كد أبوه وتعب في العمل في المناجم لكي يكفل له تهذيبا لائق ا. كان يريد أن يصير ابنه محاميا، لكنّ الله قصد أن يجعله بنّاء في الهيكل العظيم الذي كان يرتفع ببطء شديد مدى العصور . كانت المشقات والحرمان والتدريب القاسي هي المدرسة التي فيها أعدت الحكمة اللامتناهية لوثر لرسالة حياته المهمة. GC 134.2
كان والد لوثر رجلاً ثاقب الذهن، قويم الخُلق، ثابت العزم ، شريفاً ومستقيما. وكان أمينا لاقتناعه بالواجب مهما تكن النتائج . وقد جعله رشادُه ينظر الى نظام الرهبنة بكثير من الشك والارتياب، فغضب جدا عندما دخل لوثر الدير من دون رضاه . ومرت سنتان قبل ان يتصالح مع ابنه . وحتى في ذلك الحين ظلت نظرته الى الرهبنة كما كانت فلم تتغير. GC 134.3
وقد حرص والدا لوثر حرصا عظيما على تربية اولادهما وتهذيبهم . وحاولا أن يعلماهم معرفة الله وممارسة الفضائل المسيحية . وقد سمع الابن أباه وهو يصلي طالبا أن يذكر ابنه اسم الرب وأن يساعد في يوم من الأيام على نجاح حقه وتقدمه . وكانا تواقين الى حسن استغلال كل ميزة أدبية أو فكرية اتيحت لهما خلال حياة الكد التي عاشاه ا. وانصبت جهودهما بجدية ومثابرة على إعداد اولادهما لحياة التقوى والنفع . وكانت صلابتهما وقوة خلقهما تجنحان بهما احيانا الى القسوة البالغة . لكنّ المصلح نفسه، مع شعوره بأن أبويه قد أخطآ في بعض النواحي، وجد في تربيتهما اشياء تستحق المديح أكثر مما تستحق الادانة والتوبيخ. GC 135.1
عومل لوثر في المدرسة التي أرسل اليها في حداثته بالفظاظة والقسوة . وكان أبواه فقيرين جدا بحيث أنه في ذهابه من البيت الى المدرسة في بلدة أخرى كان مضطرا احيانا الى أن يحصل على طعامه بواسطة الغناء من باب الى باب، وكثيرا ما كان يحس بآلام الجوع . والافكار الدينية الخرافية الكئيبة التي كانت سائدة آنئذ ملأته خوفا، فكان يضطجع في الليل وقلبه مثقل بالحزن وهو ينظر الى المستقبل المظلم برعب دائم من التفكير في الله كديان عبوس قاسي القلب وطاغية لا يرحم، بدلا من التفكير فيه كالآب السماوي الرحيم . GC 135.2
ومع ذلك فأمام تلك الخيبات الكثيرة والعظيمة تقدم لوثر بعزم صادق صوب التفوق الاخلاقي والعلمي الذي استهوى نفسه . لقد ظمئت نفسه الى المعرفة، وقاده ذهنه العملي الحاد الى اشتهاء الامور الثابتة النافعة، لا السطحية الجميلة المظهر. GC 135.3
وعندما التحق بجامعة ارفرت في الثامنة عشرة من عمره كان مركزه مشجعا مؤاتيا وصارت آماله وامنياته اعظم اشراقا مما كانت في سني الصب ا. واذ جد ابواه واقتصدا استطاعا أن يؤمنا له كل المساعدة التي كان يحتاج اليه ا. وقد خفف تأثير الاصدقاء الحكماء قليلا من وقع تربيته العابسة . وعكف على دراسة مؤلفات اقدر الكتَّاب . وكان بكل اهتمام وجد يختزن في عقله أرجح الآراء، جاعلا حكمة الحكماء تراثا له . وحتى تحت التدريب الصارم الذي تلقاه من معلميه السابقين قدم البرهان في وقت مبكر على امتيازه وتفوقه . وبفضل المؤثرات المؤاتية نما ذ هنه بسرعة . هذا، وإن ذاكرته الواعية وخياله النشيط وقوى المحاجة القوية والمثابرة التي لا تكل سرعان ما قفزت به الى المكانة الأولى بين اترابه . وقد شحذ التدريب العقلي ذكاءه وأيقظ نشاطه الذهني وحدة ادراكه . وكان كل ذلك يعده للنضال في المستقبل. GC 135.4
كان قلب لوثر عامرا بخوف الله، وهذا أعانه على الاحتفاظ بثباته في غرضه وقاده الى الاتضاع العميق أمام الله . وكان في نفسه احساس دائم بوجوب الاعتماد على معونة الله، فلم يهمل أن يبدأ يومه بالصلاة، بينما كان قلبه يخفق دائماً بطلب الارشاد والعون . وكثيراً ما كان يقول: ”الصلاة المخلصة لازمة للدرس والتحصيل“ (٤٦). GC 136.1
واذ كان لوثر في احد الأيام يفحص بعض الكتب في مكتبة الجامعة وجد كتابا مقدسا مكتوبا باللاتينية . ولم يسبق له أن رأى مثل ذلك الكتاب، وكان يجهل تماما حتى مجرد وجوده . كان قد سمع بعض فصول من الانجيل والرسائل كانت تتلى على الشعب في ا لعبادة العامة، وكان يظن انها هي كل الكتاب . اما الآن فها هو لأول مرة يرى كل كلام الله بين دفتي كتاب . فبرهبة ممتزجة بالدهشة جعل يقلب صفحات ذلك السفر المقدس . واذ كانت نبضاته تسرع وقلبه يخفق بدأ يقرأ لنفسه كلام الحياة . كان بين الحين والآخر يتوقف ليصرخ قائلا: ”ليت الله يعطيني هذا الكتاب ليكون ملكي الخاص!“ (٤٧). وكان ملائكة السماء واقفين الى جواره، وانحدرت من عرش الله أشعة من النور لتكشف لعقله كنوز الحق. وكان دائما يخشى أن يغضب الله، أما الآن فان الاقتناع العميق بأنه خاطئ استولى عليه كما لم يحدث من قبل. GC 136.2