إن قوله: “لَم تَأْتِ ساعتي بعد” يشير إلى حقيقة كون كل عمل من أعمال حياة المسيح على الأرض كان إتماما لتدبير الله المرسوم منذ دهور الأزل . فقبلما نزل إلى الأرض كان التدبير مرسوما أمامه بكل تفاصيله . ولكنه إذ كان يسير بين الناس كان يقتاد بإرادة الآب خطوة فخطوة . إنه لم يتردد في العمل في الوقت المعين ، وبنفس ذلك الخضوع كان ينتظر حتى يحين الوقت . إن يسوع إذ قال لمريم إن ساعته لم تأتِ بعد كان يجيبها على فكرها الذي لم تفصح عنه- عن انتظارها الذي شاركها فيه الناس . كانت ترجو أن يعلن نفسه بأنه مسيا ويجلس على عرش إسرائيل . ولكن الوقت لم يكن قد جاء . لقد قبل يسوع أن تكون قرعته مع البشرية ، لا كملك بل كرجل “أَوْجاعٍ وَمختَبِر اْلحزنِ” (إشعياء 53 : 3). ML 127.1
ولكن مع أن مريم لم تكن تفهم رسالة المسيح فهما صحيحا فقد كانت تثق به ثقة كاملة. وقد استجاب يسوع لهذا الإيمان . فلكي يكرم ثقة مريم هذه ، ولكي يقوي إيمان تلاميذه أجرى السيد معجزته الأولى . كان التلاميذ سيواجهون تجارب كثيرة وعظيمة توحي بعدم الإيمان . لقد أوضحت لهم النبوات بما لا يحتمل الشك أو الجدال أن يسوع هو مسيا . كانوا ينتظرون من رجال الدين أن يقبلوه بثقة أعظم من ثقتهم هم . لقد أعلنوا للناس عن معجزات المسيح وثقتهم برسالته ، إلاّ أنهم ذهلوا وأحسوا بالخيبة المريرة لعدم إيمان الكهنة والمعلمين وتعصبهم المتأصل في نفوسهم وعداوتهم ليسوع ، وهكذا شددت معجزات المخلص الأولى قوة التلاميذ على الثبات أمام هذه المقاومات. ML 127.2
إن مريم التي لم تعثرها ولا أربكتها كلمات المسيح قالت للخدام: “ مهما قَالَ لَكُم فافعلوه” (يوحنا 2: 5). هكذا عملت مريم ما استطاعت لتهيئة الطريق لعمل المسيح . ML 127.3
كانت بجانب المدخل ستة أجران كبيرة من الحجارة ، فأمر يسوع الخدام بأن يملأوها ماء فملأوها إلى فوق. وحيث أنهم كانوا بحاجة شديدة إلى الخمر قال لهم: “استَقُوا الآنَ وَقَدموا إِلَى رَئِيسِ اْلمتَّكَإِ” (يوحنا 2 : 8). فبدلا من الماء الذي ملئَت به الأجران كانت هنالك خمر . لم يكن رئيس المتكإ ولا الضيوف يعلمون أن الخمر قد نفدت . ولما ذاق رئيس المتكإ ما قدمه له الخدام وجده أفضل من كل الخمر التي سبق لهم أن شربوها ، كما وجد أنها تختلف اختلافا كبيرا عما قدم عند بدء الوليمة . فالتفت إلى العريس وقال: “كُلُّ إِنْسانٍ إِنَّما يضع اْلخَمر اْلجيدةَ أَوَّلاً ، وَمتَى سكروا فَحينَئِذ الدونَ . أَما أَنتَ فَقَد أَبقَيتَ اْلخَمر الجيدةَ إِلَى الآنَ!” (يوحنا 2 : 10). ML 128.1
كما أن الناس يضعون الخمر الجيدة أولا وبعد ذلك يقدمون الدون كذلك يفعل العالم بعطاياه. إن ما يقدمه العالم يسر العيون ويسحر الحواس ولكن يتبرهن بعد ذلك أنه غير مشبع ، فالخمر تستحيل إلى مرارة والانشراح إلى وجوم وحزن . وما بدأ بالأغاني والفرح ينتهي بالتعب والاشمئزاز ، ولكن عطايا يسوع هي أبدا سائغة وجديدة . فالوليمة التي يقدمها للنفس لابد أن تملأها شبعا وفرحا . وكل عطية جديدة تزيد قابلية من يتناولها على تقدير بركات الرب والتمتع بها . إنه يعطى نعمة فوق نعمة . وعطاياه لا يمكن أن تنفد فإذا ثبتَّ فيه فإن حقيقة كونك تتناول هبة سخية اليوم تؤكد حصولك على عطية أعظم غدا. إن جواب يسوع لنثنائيل يعبر عن قانون معاملة الله لبنى الإيمان ، إذ مع كل إعلان جديد لمحبته يعلن للقلب الذي يأخذ قائلا: “هلْ آمْنتَ ... سوفَ تَرى أَعظَم من هذَا!” (يوحنا 1 : 50). ML 128.2
إن هبة المسيح لوليمة العرس كانت رمزا، فالماء رمز إلى المعمودية لموته ، أما الخمر فترمز إلى سفك دمه لأجل خطايا العالم. والماء الذي ملئت به الأجران أتت به أيد بشرية، ولكن كلمة المسيح وحدها أعطته قوة محيية. وكذاك الحال بالنسب إلى الطقوس التي تشير إلى موت المخلص ، فبقوة المسيح وحدها العاملة بالإيمان تكون فيها قوة وفاعلية لتغذية النفس. ML 128.3
لقد سدت كلمة المسيح حاجة المدعوين إلى تلك الوليمة ، وكذلك نعمة الله سخية وكافية لمحو خطايا الناس وآثامهم ولتجديد النفس وإعالتها وإسنادها. ML 128.4
إن يسوع إذ ذهب مع تلاميذه إلى أول وليمة قدم لهم الكأس التي يرمز إلى عمله لأجل خلاصهم. وفي العشاء الأخير قدسها مرة أخرى عندما سن تلك الفريضة المقدسة التي بها يخبرون بموته “إِلَى أَنْ يجِيءَ” (1 كورنثوس 11 : 26). لقد تعزى التلاميذ عن حزنهم على افتراق سيدهم عنهم بوعده لهم باجتماع شمله بهم مرة أخرى حينما قال: “إِنِّي من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معتكم جديداً في ملكوت أبي” (متى 26 : 29). ML 129.1