كانت محلة إسرائيل في قادش قريبة من تخوم أدوم . وكان موسى والشعب يرغبون أشد الرغبة في أن يسيروا في الطريق التي تخترق بلاد أدوم وتنتهي إلى أرض الموعد . ولذلك أامتثالا لأمر الله بعثوا برسالة إلى ملك أدوم يقولون فيها . AA 373.1
( هكذا يقول أخوك إسرائيل : قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا . إن آباءنا انحدروا إلى مصر ، وأقمنا في مصر أياماً كثيرة و أساء المصريون إلينا و إلى آباءنا ، فصرخنا إلى الرب فسمع صوتنا ، وأرسل ملاكاً و أخرجنا من مصر . و هنا نحن في قادش ، مدينة في طرف تخومك . دعنا تمر في أرضك . لا نمر في حقل ولا في كرم ، ولا نشرب ماء بئر . في طريق الملك نمشي ، لا نميل يميناً ولا يساراً حتى نتجاوز تخومك ) (عدد 20 : 14 — 20) . AA 373.2
وقد أجيب على هذا الطلب الرقيق بالرفض والوعيد إذ قال أدوم : لا تمر بي لئلا أخرج للقائك بالسيف ( . AA 373.3
وإذا كان قادة إسرائيل مندهشين من هذا النفور أرسلوا التماسا آخر إلى الملك وعدوه فيه قائلين : “في السكة نصعد ، و إذا شربنا أنا و مواشي من مائك أدفع ثمنه . لا شيء . أمر برجلي فقط ) . AA 373.4
فكان الجواب : ( لا تمر) . وقد أقيمت فرق مسلحة من أدوم في المعابر الحرجة وبذلك بدا العبور السلمي في تلك المعابر أمرا مستحيلا . AA 373.5
وكان العبرانيون قد نهوا عن الالتجاء إلى القوة فكان عليهم أن يدوروا حول أدوم في طريق طويل . AA 373.6
لو كان الشعب حين تعرضوا للتجربة قد وثقوا بالله لكان رئيس جند الرب قد قادهم في وسط أرض أدوم وكان خوفهم وقع على سكان الأرض ، وبدلا من إظهار العداوة كانوا عاملوهم بالرفق والإحسان . ولكن الإسرائيليين لم يسلكوا بحسب قول الله تماما . وفيما كانوا يشتكون ويتذمرون أفلتت منهم الفرصة الذهبية . وما كادوا أخيرا يتقدمون بطلبهم إلى الملك حتى رفض . فمنذ خروجهم من مصر والشيطان دائب في وضع العراقيل والتجارب في طريقهم حتى لا يرثوا كنعان . ولعدم إيمانهم فتحوا الطريق أمام الشيطان مرارا عديدة لكي يقاوم مقاصد الله . AA 373.7
إنه لأمر مهم أن نؤمن بكلمة الله ونعمل بموجبها دون ما تردد بينما ملائكته على تمام الأهبة لخدمتنا ، كما أن الملائكة الأشرار مستعدون أبدا لعرقلة كل خطوة من التقدم . وحين يأمر الله وأولاده ، في عنايته ، بالتقدم إلى الأمام ، وحين يكون مستعدا لأن يضع معهم عظائم ، فالشيطان يجربهم ليغيظوا الرب بترددهم وتلكئهم . إنه يحاول أن يشعل روح الخصام أو يثير التذمر أو عدم الإيمان ، وهكذا يحرمهم البركات التي أراد الله أن يمنحهم إياها . على عبيد الرب أن يكونوا رجال الساعة ، ومستعدين أبدا للتقدم إلى الأمام حالما تفتح عنايته الطريق أمامهم . فكل تأخير من جانبهم يعطي الشيطان المجال للعمل على هزيمتهم . AA 374.1
في التعليمات المعطاة لموسى أولا ، عن عبورهم في أرض أدوم ، حين أعلن الله أن الأدوميين سيخافون من إسرائيل ، نهى الرب شعبه عن استخدام هذه الميزة ضد شعب أدوم . وبما أن قوة الله كانت مستخدمة لأجل خير إسرائيل ، ومخاوف أدوم كان يمكن أن تجعلهم فريسة سهلة المنال لإسرائيل ، فكان محرما على العبرانيين أن يهجموا عليهم ، إذ أمرهم الرب قائلا : ( احترزوا جداً . لا تهجموا عليهم ، لأني لا أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم ، لأني لعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثاُ ) (تثنية 2 : 4 ، 5) . لقد كان الأدوميين من نسل إبراهيم وإسحاق ، فإكراما لخادمي الله أظهر الله إحسانه ولطفه نحو بني عيسو ، فأعطاهم جبل سعيرا ملكا ، وما كان العبرانيون مزمعين أن يجردوا سكان كنعان من أملاكهم ويلاشوهم نهائيا لأنهم كانوا قد ملأوا مكيال إثمهم . أما الأدوميون فقد كانوا لا يزالون تحت الاختبار ، وفي هذه الحالة كان لا بد من معاملتهم بالرحمة . إن الله يسير بالرحمة وهو يقدم شفقته ورأفته قبل إيقاع دينونته . وها هو يعلم إسرائيل أن يبقوا على شعب أدوم قبلما يطلب منهم إهلاك سكان كنعان . AA 374.2
لقد كان أسلاف أدوم و إسرائيل إخوة ، فوجب أن تكون المحبة الأخوية والشفقة واللطف متوافرة بينهم . وكما نهى الإسرائيليون عن أن يثأروا لأنفسهم بسبب الإهانة التي لحقتهم حين رفض الأدوميون السماح لهم بالعبور في أرضهم ، كذلك حرم عليهم أن ينتقموا لأنفسهم لا في ذلك الوقت ولا في المستقبل ، ووجب ألا يتوقعوا امتلاك أي جزء من أرض أدوم . إن الإسرائيليين إذا كانوا شعب الله المختار المميز كان عليهم أن يراعوا القيود التي قد فرضها عليهم . لقد وعدهم الله بميراث عظيم ، ولكن ما كان لهم أن يشعروا أن لهم وحدهم أية حقوق في الأرض فيطردوا منها باقي الشعوب . وفي كل معاملاتهم مع الأدوميين أمرا بألا يظلموهم . كان لهم أن يتجروا معهم ويبتاعوا منهم لوازمهم ويدفعوا فورا أثمان ما يبتاعون . وتشجيعا لإسرائيل حتى يثقوا بالله ويطيعوا كلامه ذكرهم بما حدث في الماضي بقوله : ( الرب إلهك قد باركك ... لم ينقض عنك شيء ) (تثنية 2 : 7) لم يكونا يعتمدون على الأدوميين إذ كان لهم إله ذو موارد غنية . ووجب ألا يعمدوا إلى العنف أو الخداع ليحصلوا على شيء مما يملكه الأدوميون ، ولكن في كل معاملاتهم معهم كان عليهم أن يطبقوا القانون الإلهي : )تحب قريبك كنفسك ) (لاويين 19 : 18) . AA 374.3
فلو أنهم مروا في أرض أدوم بهذه الكيفية كما قصد الله لأصبح مرورهم بركة ليس لأنفسهم فقط بل لسكان البلاد أيضا لأنه كان يمكن أن تتاح لهم فرصة للتعرف بشعب الله وعبادته ، فيروا كيف أن إله يعقوب قد أنجح محبيه ومتقيه . ولكن هذا كله قد أبطله ومنعه عدم إيمان إسرائيل . لقد أعطى الله ماء للشعب إجابة لصرخاتهم ولكنه سمح لعدم إيمانهم أن يوقعهم تحت طائلة القصاص . فوجب عليهم أن يقطعوا الصحراء مرة أخرى ويطفئوا ظمأهم من ذلك النبع العجائبي الذي لو كانوا وثقوا بالله لما كانت بهم حاجة إليه بعد . AA 375.1
وتبعا لذلك اتجهت جموع إسرائيل جنوبا مرة أخرى وساروا في تلك القفار المجدبة التي بدت الآن موحشة أكثر مما كانت قبلا بعد ما ألقوا نظرة على البقاع الخضراء بين التلال في أودية أدوم . ومن سلسلة الجبال التي تطل علي تلك الصحراء الكئيبة يرتفع جبل هور الذي على قمته كان لابد لهارون أن يموت ويدفن . فلما وصل الإسرائيليون إلى هذا الجبل أمر الرب موسي قائلا : AA 375.2
( خذ هارون وألعازار ابنه واصعد بهما إلى جبل هور ، واخلع عن هارون ثيابه ، وألبس ألعازر اينه إياها . فيضم هارون و يموت هناك ) (عدد 20 : 25 ، 26) . AA 375.3
فكافح ذانك الرجلان الشيخان وابن هارون الشاب في صعود ذلك الجبل . إن الاثنى عشر عقدا التي قد عاشها كل من موسى وهارون كللت رأسيهما بالشيب ، وحياتهما الطويلة الكثيرة الوقائع تميزت بأقسى التجارب وأعظم الكرامات التي أصابها أي إنسان . ولقد امتازا بمواهب طبيعية عظيمة . ونمت كل قواهما وسمت وأكرمت بفضل شركتهما مع الله الغير المحدود ، وقضيا حياتهما في عمل متواصل خال من الأنانية لأجل الله وبني جنسهما . وقد ارتسم على وجهيهما ما ينم على قوة ذهنية عظيمة وعلى الثبات ونبل المقصد والمحبة القوية . AA 376.1
وقف موسى وهارون لسنين عديدة جنبا إلى جنب في همومهما وكفاحهما . وقفا معا يقاومان مخاطر لا حصر لها . واشتركا معا في نوال بركة فريدة من الله ، ولكن ها قد أتى يوم افتراقهما . كانا يصعدان الجبل في تباطؤ لأن كل لحظة يقضيانها معا كان ثمينة . وكان الصعود صعب المرتقى ومتعبا . وإذ كان يتوقفان مرارا لكي يستريحا كانا يتحدثان معا عن الماضي والمستقبل ، وامتدت أمامهما على مدى البصر البرية التي كانا يهيمان فيها . وفي السهل أسفل الجبل حلت جموع إسرائيل الذي في سبيلهم أنفق هذان الرجلان المختاران من الله أفضل سني حياتهما ، فكانا يهتمان بخيرهم وسلامتهم أعظم اهتمام وبذلا في سبيل ذلك تضحيات جسيمة . وفي مكان ما خلف جبال أدوم كان الطريق المؤدي إلى أرض الموعد تلك الأرض التي حرم موسى وهارون من التمتع ببركتها وخيراتها . لم يكونا يضمران في قلبيهما أقا ميل إلى التمرد ولا نطقاً بكلمة تذمر واحدة ، و مع ذلك فقد كان في قلبيهما شعور بالحزن المقدس الذي ترك آثاره على وجهيهما إذ تذكرا السبب الذي لأجله حرم عليهما الدخول إلى ميراث آبائهما . AA 376.2
لقد أنجز هارون عمله لأجل إسرائيل . وقبل ذلك بأربعين سنة حين كان يبلغ الثالثة والثمانين من العمر دعاه الله ليشترك مع موسى في رسالته العظيمة الهامة ، وتعاون مع أخيه في إخراج إسرائيل من مصر ، ودعم يدي ذلك القائد العظيم حين حارب جيش إسرائيل العمالقة . لقد سمح له في الصعود إلى جبل سيناء ليقترب من محضر الله وليرى المجد الإلهي ، ووهب الله لعائلة هارون وظيفة الكهنوت وأكرمه إذا قدسه ليكون رئيسا للكهنة ، وأعانه في وظيفته المقدسة في الإعلانات الرهيبة والدينونة الإلهية التي حلت على قورح وجماعته ، وبواسطة شفاعة هارون امتنع الوبأ . وحين قتل ابناه لاستخفاهما بأمر الرب الصريح لم يتمرد ولا يتذمر . ولكن تاريخ حياته النبيل قد تشوه ، إذ ارتكب هارون خطية رهيبة حين استسلم لصيحات الشعب وصنع لهم عجل الذهب في سيناء ، وكذلك حين اشترك مع أخته مريم في حسدهما لموسى وتذمرهما عليه . وقد أسخط الله هو وأخوه موسى في قادش إذ عصيا أمر الرب في التكلم للصخرة لكي تعطي ماءها . AA 376.3
لقد قصد الله أن يكون ذانك القائدان الإسرائيليان العظيمان ممثلين المسيح ، فكان هارون يحمل على صدره أسماء إسرائيل بمشورة الله ، ويخبر إسرائيل بمشورة الله ، وكان يدخل إلي قدس الأقداس في يوم الكفارة ( ليس بلا دم ) (عبرانيين 9 : 7) كوسيط لأجل كل إسرائيل . وكان يخرج بعد مباشرة ذلك العمل ليبارك الجماعة — كالمسيح الذي سيأتي ليبارك شعبه الذين ينتظرونه حين ينجز عمله الكفاري لأجلهم . إن سمو تلك الوظيفة المقدسة الممثل في رئيس كهنتنا الأعظم هو الذي جعل خطية هارون التي ارتكبها في قادش عظيمة وهائلة جدا . AA 377.1
وبحزن عميق جرد موسى أخاه هارون من ثيابه المقدسة وألبس ابنه ألعازر إياها ، الذي صار خليفته بتعيين إلهي . فبسبب خطية هارون في قادش حرم امتياز القيام بخدمته كرئيس كهنة الله في كنعان — ومن تقديم أول ذبيحة في الأرض الجيدة ليقدس ميراث إسرائيل . وقد كان على موسي أن يستمر مضطلعا بمسؤوليته في قيادة الشعب إلى تخوم كنعان نفسها ، ويأتي على مرأى من أرض الموعد ، ولكن لا يدخلها . فلو أن خادمي الرب هذين حين وقفا أمام الصخرة في قادش صمدا أمام الامتحان الذي نزل بهما بدون تذمر فكم كان مستقبلهما يبدو مختلفا عما هو الآن ! متى ارتكب الخطأ فلن يمكن إلغاؤه أو إبطاله . قد يحدث أن عمل الحياة بجملته لا يمكن أن يعوض عن الخسارة التي تلحق الإنسان في لحظة واحدة للتجربة أو حتى للطياشة وعدم التفكير . AA 377.2
إن غياب ذينك القائدين العظيمين عن المحلة وحقيقة كونهما اصطحبا معهما ألعازار الذي كان معروفا جيدا أنه هو الذي سيخلف أباه هارون في الوظيفة المقدسة ، كل ذلك أيقظ في نفوس الجماعة إحساسا بالتوجس والخوف ، وكان الجميع يتوقعون عودتهم بجزع . وإذ نظر الشعب حولهم إلى تلك الجماعة العظيمة لاحظوا أن كل البالغين تقريبا ممن رحلوا عن مصر هلكوا في القفر . وقد كان الجميع متطيرين يوجسون خفية وقوع شر بهم حين ذكروا الحكم المقضي به على موسى وهارون فكان البعض علي علم بسر تلك الرحلة الغامضة حين صعد الثلاثة إلى قمة جبل هور ، وقد زاد جزعهم على قائدهم بالذكريات المرة واتهامهم لأنفسهم . AA 377.3
وكان يشاهد شبح كل من موسى وألعازار أخيرا وهما يهبطان من الجبل على مهل ، ولكن هارون لم يكن معهما ، وقد كان لبس ألعازار الثياب الكنهوتية المقدسة دليلا على أنه قد أخذ مكان أبيه في تلك الوظيفة المقدسة . وإذ اجتمع الشعب حول قادئهم بقلوب مثقلة بالحزن أخبرهم موسى بأن هارون قد مات بين ذراعيه على جبل هور و أنه هو و ألعازار قد دفناه هناك . فانفجرت كل الجماعة باكية ترثي هارون الذي قد أحبوه مع أنهم أحزنوه مرارا .( بكى جميع بيت إسرائيل على هارون ثلاثين يوما ) (عدد 20 : 29) . AA 378.1
ولا يذكر السفر المقدس عن موت رئيس كهنة إسرائيل شيئا أكثر من قوله : )هناك مات هارون ، وهناك دفن ) (تثنية 10 : 6) ما أعظم الفرق الهائل بين حفلات الدفن اليوم وبين حفلة الدفن هذه التي تمت بتدبير الله حسب أمره الصريح ! ففي العصور الحديثة يتخلل حفلات دفن ذوي المراكز الرفيعة كثيرة من مظاهر المباهاة والتفاخر و الإسراف والمغالاة .ولكن لما مات هارون الذي كان من أشهر من عاشوا على الأرض لم يشهد موته ليتولى أمر دفنه غير اثنين من أقرب الأقربين إليه . وذلك القبر المنفرد على جبل هور أخفي إلى الأبد عن عيون بني إسرائيل . إن الله لا يتمجد في المظاهر التي كثيرا ما نحيط بها حفلات دفن الموتى ، و النفقات الباهظة في إعادة أجسامهم إلى التراب . AA 378.2
قد بكت كل الجماعة على موت هارون . ولكن لم يكن منهم من أحس بهول الخسارة كما أحس موسى . كان موت هارون مذكرا قويا لموسى بأن نهايته هي أيضاً قريبة ، ولكن مع قصر المدة الباقية له على الأرض كان يحس في أعماقه بعظم الخسارة لفقد رفيقه الدائم - ذاك الذي شاطره أفراحه وأحزانه والآمه ومخاوفه سنين هذا عددها . وقد كان على موسى الآن أن يستمر فى مواصلة عمله وحده ، ولكنه كان يعلم أن الله صديقه فاستند عليه أكثر بكل قوته . AA 378.3
وما أن ترك الشعب جبل هور حتى انهزموا حين اشتبكوا في حرب مع عراد الذي كان أحد ملوك كنعان . ولكنهم عندما صلوا بحرارة في طلب المعونة الإلهية جاءتهم معونة السماء فأمكنهم أن يستأصلوا أعداءهم . ولكن هذا الانتصار بدلا من أن يقود الشعب إلى الشكران والشعور باعتمادهم على جعلهم يفتخرون ويضعون ثقتهم في أنفسهم ، وسرعان ما عادوا إلى عادتهم القديمة المذمومة عادة التذمر ، فكانوا ناقمين هذه المرة لأن جيوش إسرائيل لم يسمح لها بالتقدم إلى كنعان حالا بعد العصيان الذي حدث على أثر تقرير الجواسيس منذ حوالي أربعين سنة خلت ، إذ قالوا أن تغربهم الطويل في الفقر لم يكن من داع إليه ، وكانت حجتهم في ذلك أنه كان يمكنهم أن يهزموا أعداءهم حينذ بكل سهولة كما قد فعلوا الآن . AA 378.4
وإذ استمروا سائرين صوب الجنوب جاءوا إلى واد شديد الحرارة وكثير الرمال ، ليس فيه نبات ولا مكان ظليل . وقد بدا الطريق طويلا وشاقا ، كما تألم الشعب من الإعياء والعطش. ومرة أخرى أخفقوا في امتحان إيمانهم وصبرهم . ولكونهم كانوا دائما ينظرون إلى الناحية المظلة من اختباراتهم . بدأوا يبتعدون عن الله وينفصلون عنه شيئا فشيئا ، وقد غابت عنهم هذه الحقيقة وهي أنه لولا تذمرهم حين انقطع الماء في قادش لكانوا وفروا على أنفسهم ذلك الدوران الطويل حول أرض أدوم . كان الله يريد أن يقدم لهم أشياء أفضل وكان ينبغي أن تفيض قلوبهم بالشكر بسبب القصاص الطفيف الذي افتقد به خطيتهم . ولكن بدلا من هذا فإنهم خدوا أنفسهم قائلين إنه لولا تداخل الله وموسى لكانوا الآن قد امتلكوا أرض الموعد . فبعدما جلبوا على أنفسهم المتاعب إذ جعلوا نصيبهم أقسى مما قصد الله نسبوا إليه كل المشقات التي حلت بهم . وهكذا فكروا أفكارا مرة عن معاملات الله لهم . وأخيرا لم يعودوا قانعين بأي شيء . وقد بدت مصر أمام أنظارهم أجمل وأكثر قبولا من الحرية والدخول إلى الأرض التي كان الله يقودهم إليها . AA 379.1
وإذ كان بنو إسرائيل يحتضنون روح التذمر هذه كانوا يميلون إلى أن يعثروا على خطأ حتى في البركات الممنوحة لهم . ( وتكلم الشعب على الله وعلى موسى قائلين : لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية ؟ لأنه لا خبز ولا ماء ، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف ) (عدد 21 : 5) . AA 379.2
وقد وضع موسى خطية الشعب العظيمة أمام عيونهم بكل أمانة . إن قوة الله هي وحدها التي حفظتهم في ذلك ( القفز العظيم المخوف ، مكان حيات محرقة وعقارب وعطش حيث ليس ماء ) (تثنية 8 : 15) وفي كل يوم من أيام رحلاتهم حفظتهم رحمة الله بأعجوبة . وفي كل الطريق التي كان الله يقودهم فيها كانوا يجدون ماء لإرواء العطاش وإنعاشهم ، وخبزا من السماء لإشباعهم ، وسلاما وأمنا تحت ظل السحابة التي كانت المظلة في النهار ، وعمود النار في الليل ، وكان الملائكة يخدمونهم وهم يتسلقون المرتفعات الصخرية ، أو وهم يسيرون في صف طويل في المسالك الوعرة عبر الصحراء . وبالرغم من كل المتاعب التي تحملوها لم يكن في كل أسباطهم رازح ولا عاثر . وفي كل رحلاتهم الطويلة لم تتورم أرجلهم ولا بليت ثيابهم . وقد أخضع الرب أمامهم الوحوش الكاسرة والزواحف السامة في الغابات والقفار . فإذا كان بعد كل هذه الدلائل الكثيرة على محبة الله لهم قد ظل الشعب سادرين في شكواهم وتذمراتهم فالرب سيحرمهم من حراسته حتى يقودهم ذلك إلى تقدير رعايته الرحيمة ويرجعوا إلى الله تائبين متذللين . AA 379.3
فحيث أن قدرة الله كانت تحميهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن المخاطر التي لا حصر لها التي كانت تكتنفهم طوال الوقت . إنهم في جحودهم وعدم إيمانهم كانوا يتوقعون الموت ، وها هو الرب الآن قد سمح للموت أن يهجم عليهم . إن الحيات السامة التي أغارت على القفر كانت تسمى حيات محرقة بسبب النتائج المخيفة التي كان تصيب الملدوغين بها إذ كان يصيب أجسامهم التهاب قاس يعقبه الموت السريع . فلما ارتفعت يد الله الواقية عن إسرائيل هاجمت تلك الحيات السامة جمعا غفيرا من الشعب . AA 380.1
فساد الرعب والارتباك المحلة كلها . وفي معظم الخيام كان قوم يحتضرون أو قد ماتوا . ولم يكن أمان لأحد . وفي سكون الليل كانت تسمع صرخات مدوية تنبئ عن ضحايا جديدة . وقد كان الكل مشغولين في خدمة الملدوغين المتألمين ، أو كانوا يحرسون من لم يصبهم اذى من هجمات تلك الأفاعي في اهتمام وحزن ، ولم تعد أصوات التذمر تسمع الآن في المحلة لأن متاعبهم وتجاربهم الماضية لم تكن تستحق التفكير فيها بالقارنة مع آلامهم الحاضرة . AA 380.2
وها هو الشعب يتذلل الآن أمام الرب . لقد أتوا إلى موسى معترفين متوسلين قائلين : ( أخطأنا إذ تكلمنا على الرب وعليك ) (عدد 21 : 7 — 9) . لقد اتهموه قبل ذلك بقليل بأنه أعدى أعدائهم وعلة كل الضيقات والبلايا التي أصابتهم . ولكن فيما كانت هذه الكلمات تخرج من أفواههم كانوا يعلمون يقينا أن التهمة كاذبة . وحالما حل بهم الكدر والضيق الحقيقي هرعوا إليه كالشخص الوحيد الذي يستطيع أن يشفع فيهم لدى الله . فصرخوا قائلين : ( صل إلى الرب ليرفع عنا الحيات ) . AA 380.3
فأمر الرب موسى أن يصنع حية من نحاس شبيهة بالحيات الحية ويرفعها بين الشعب . فكل من لدغته الحيات كان عليه أن يلتفت إلى تلك الحية ليحصل على المعونة والنجدة . وقد فعل موسى كما أمر ، وانتشر ذلك الخبر المفرح في كل المحلة ، أن كل من لدغته الحيات يمكنه أن يلتفت إلى الحية النحاسية فيحيا . كان كثيرون قد ماتوا ، وحين رفع موسى الحية النحاسية على العمود لم يكن بعض الناس يصدقون أن مجرد النظر إليها ينيلهم الشفاء ، فهلك أولئك في عدم إيمانهم . ولكن كان كثيرون ممن عندهم إيمان بالوسيلة التي قد أعدها الله ، فالآباء والأمهات والأخوة والأخوات كانوا مشغولين باهتمام شديد في مساعدة أصدقائهم المتألمين الموشكين على الموت على تثبيت عيونهم الكليلة في تلك الحية . فلو أن هؤلاء المرهقين المائتين يلتفتون مرة واحدة إلى الحية فستعود إليهم الحياة قوية و نشيطة . AA 381.1
كان الشعب يعرفون جيدا أن الحية النحاسية لا قوة فيها على إحداث هذا التغيير العجيب في من يلتفتون إليها . إن قوة الشفاء صادرة من الله وحده . فهو في حكمته اختار هذه الوسيلة لإظهار قدرته . وبهذه الوسيلة البسيطة بدأ الشعب يتحققون أن تلك البلبة قد حلت بهم بسبب خطاياهم . وقد تحقق لهم أيضا أنهم إذ يطيعون الله فلن يكون هنالك موجب للخوف لأنه سيحفظهم . AA 381.2
كانت الغاية من رفع الحية النحاسية أن يتعلم إسرائيل درسا هاما . إنهم لم يكونوا يستطيعون تخليص أنفسهم من تأثير السم المميت في جروحهم ، بل كان الله وحده هو القادر على شفائهم . ومع ذلك فقد كان مطلوبا منهم أن يظهروا إيمانهم بالوسيلة المعدة من الله . فيجب عليهم أن يلتفتوا لكي يحيوا . إن إيمانهم هو الذي يمكن أن يقبله الله ، وكان يمكنهم أن يبرهنوا على إيمانهم بنظرهم إلى الحية. لقد علموا أن الحية النحاسية نفسها لم تكن بها أية قوة ، ولكنها كان رمزا إلى المسيح ، فتجلت أمام أذهانهم ضرورة الإيمان باستحقاقه . قبل ذلك الوقت كان الكثيرون منهم يأتون بتقدماتهم إلى الله ، وكانوا يحسون أنهم بعلمهم هذا قد قدموا تكفيرا كافيا عن خطياهم . لم يكونوا يثقون بمجئ الفادي ، ذلك الفادي الذي كانت تقدماتهم ترمز إليه ، فأراد الرب الآن أن يعلمهم أن ذبائحهم في ذاتها لا قوة فيها ولا فضل لها أكثر مما للحية النحاسية . ولكن تلك الذبائح ، كالحية أرشدت عقولهم إلى المسيح الذبيح العظيم عن الخطية . AA 381.3
( وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ) (يوحنا 3 : 14 ، 15) إن كل من قد عاشوا على الأرض أحسوا باللدغة المميتة لتلك ( الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان ) (رؤيا 12 : 9) إن آثار الخطية المميتة يمكن إزالتها بالوسيلة التي قد أعدها الله دون سواها . لقد نجا الإسرائيليون من الموت حين نظروا إلى الحية المرفوعة . فتلك النظرة دلت على الإيمان . عاشوا لأنهم آمنوا بكلمة الله ووثقوا بالوسيلة المعدة لشفائهم . وكذلك يمكن للخاطئ أن ينظر إلى يسوع ويحيا . إنه ينال الغفران بالإيمان بالذبيحة الكفارية . فعلى عكس ذلك الرمز الجامد العديم الحياة ، للمسيح قوة فعالة في نفسه لشفاء الخاطئ التائب . AA 382.1
وبما أن الخاطئ لا يستطيع أن يخلص نفسه فعليه أن يعمل شيئا ليحصل على خلاصه . يقول المسيح : ( من يقبل إلي لا أخرجه خارجا ) (يوحنا 6 : 37) فعلينا أن نقبل إليه ، وحين نتوب عن خطايانا علينا أن نؤمن بأنه يقبلنا ويغفر خطايانا ، إن الإيمان هو عطية الله ، ولكن القوة على استخدامه هي قوتنا . فالإيمان هو اليد التي تتناول بها النفس هبات النعمة والرحمة الإلهية . AA 382.2
لا شيء سوى بر المسيح يستطيع أن يعطينا الحق في امتلاك بركة من بركات عهد النعمة . إن كثيرين قد اشتاقوا طويلا وحاولوا الحصول على هذه البركات ولكنهم لم ينالوها وذلك لأنهم كانوا يفكرون أنهم يستطيعون عمل شيء به يستحقون الحصول عليها . إنهم لم ينظروا بعيدا عن الذات ليؤمنوا بكفاية المسيح كمخلص . ينبغي ألا نظن أن استحقاقاتنا ستخلصنا فالمسيح هو رجاؤنا الوحيد في الخلاص ، ( لأن ليس اسم آخر تحت السماء ، قد أعطى بين الناس ، به ينبغي أن نخلص ) (أعمال الرسل 4 : 12) . AA 382.3
إننا حين نثق بالله ثقة كاملة ونعتمد على استحقاقات يسوع المخلص الذي يغفر الخطايا نحصل على كل المعونة التي نحتاجها . فلا ينظرن أحد إلى ذاته كأن له القدرة على تخليص نفسه . لقد مات يسوع لأجلنا لأننا كنا عاجزين عن عمل هذا . ففيه رجاؤنا وتبريرنا وبرنا. فحين نرى إثمنا وشر قلوبنا ينبغي ألا نيأس أو نخشى أن لا مخلص لنا أو أن أفكاره من نحونا ليست أفكار رحمة وسلام . إنه في هذه اللحظة يدعونا لنأتي إليه في عجزنا فنخلص . AA 382.4
إن كثيرين من الإسرائيليين لم يروا أية معونة تأتيهم من العلاج الذي عينه الله . لقد كان حولهم الموتى والمحتضرون في كل مكان . وعلموا أنهم بدون معونة الله سيكون هلاكهم محتوما . ولكنهم ظلوا يندبون جروحهم وآلامهم وموتهم المحقق ، حتى فارقتهم قوتهم وغشيت الظلمة عيونهم ، مع أنه كان يمكنهم أن ينالوا الشفاء العاجل . إذا كنا نشعر بحاجتنا ينبغي ألا نصرف كل قوانا ووقتنا في النوح على سوء حالنا . فحين ندرك سوء حالنا بدون المسيح فلا نستسلم لليأس أو الفشل بل علينا أن نعتمد على استحقاقات مخلصنا المصلوب والمقام . التفتوا واحيوا . إن يسوع يفي بوعده ، فهو يخلص كل الذين يأتون إليه . ومع أن ملايين ممن هم في حاجة إلى الشفاء سيرفضون رحمته المقدمة إليهم ، فإن أي إنسان يتكل على استحقاقاته لن يتركه المخلص ليهلك . AA 382.5
إن كثيرين يرفضون قبول المسيح حتى يتضح لهم تدبير الخلاص بكامله . إنهم يرفضون الالتفات إليه بإيمان مع أنهم يرون آلافا ممن قد التفتوا إليه فشعروا بقوة الالتفات إلى صليب المسيح وفاعليته . إن كثيرين يهيمون في مجاهل الفلسفة بحثا عن أسباب وبراهين لن يجدوها ، وهم في نفس الوقت يرفضون البرهان الذي سر الله أن يقدمه . إنهم يرفضون السلوك في نور شمس البر حتى يوضح لهم سبب إشراقه . فكل من يصرون على انتهاج هذا الطريق لن يفلحوا في الإقبال إلى معرفة الحق . إن الله لن يزيل كل أسباب الشك ولكنه يقدم دليلا كافيا لنركز عليه إيماننا . فإذا لم نقبل هذا فسيترك العقل ليتعثر في الظلام . فلو أن أولئك الذين لدغتهم الحيات توقفوا ليشكوا أو ليتساءلوا قبلما التفتوا لهلكوا . فواجبنا هو أن نلتفت أولا ، والتفاتنا بالإيمان سيهبنا الحياة . AA 383.1
* * * * *