بعدما وصل الإسرائيليون إلى جنوبي أدوم اتجهوا إلى الشمال ، و حولوا وجوههم صوب أرض الموعد مرة أخرى ، و كان طريقهم ممتدا فوق سهل مرتفع فسيح تهب عليه نسائم باردة من أعلى التلال . و كان ذلك التغيير أمرا مقبولا رحب به الشعب و فرحوا بعدما عبروا ذلك الوادي اليابس الملفوح بالحرارة الذي سبق الكلام عنه . فجدوا في سيرهم بقلوب ملؤها الفرح و الرجاء . و بعدما عبروا جدول زارد أتوا إلى شرقي بلاد موآب لأن الرب أمرهم قائلا : ( لا تهجموا عليهم ، لأنى لا أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم ، لأنى لعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثا ) (انظر تثنية 2) و قد أعطى نفس الأمر بالنسبة إلى بني عمون الذين كانوا هم أيضا من بني لوط . AA 384.1
و إذ استمر الشعب في سيرهم شمالا وصلو سريعا إلى بلاد الأموريين الذين كانوا شعبا ميالا للحرب ، و كانوا في بادئ الأمر يملكون القسم الجنوبي من أرض كنعان . و لكن إذ تكاثر عددهم عبروا الأردن و أثاروا حربا على الموآبيين و احتلوا جانبا من أراضيهم . فسكنوا هناك و ملكوا كل الأرض من وادى أرنون إلى اليبوق شمالا بلا منازع . و كان الطريق الذي أراد الاسرائيليون أن يسلكوه إلى الأردن يخترق هذا الاقليم .و قد أرسل موسى إلى سيحون ملك الأموريين رسالة صداقة و مودة له : ( أمر فى أرضك . أسلك الطريق الطريق ، ولا أميل يمينا ولا شمالا . طعاما بالفضة تبيعنى لآكل ، و ماء بالفضة تعطينى لأشرب . أمر برجلي فقط ) فكان الجواب رفضا باتا ثم احتشدت كل جيوش الأموريين لتوقف أولئك الغزاه عن التقدم . AA 384.2
لقد أرعب هذا الجيش الهائل المخيف قلوب الإسرائيليين الذين لم يكونوا متأهبين كما يجب لمصادمة ذلك الجيش المسلح تسليحا كاملا و المنظم تنظيما شاملا ، ولهذا فقد كان الأموريون متفوقين على إسرائيل حربيا ، كما أنه كان يبدون ، من وجهة نظر البشر ، أن شعب إسرائيل سيقضي عليه سريعا . AA 384.3
ولكن موسى ظل مثبتا نظره في عمو د السحاب ، وظل يشجع الشعب قائلا إن علامة حضور الله لا تزال بينهم .و في نفس الوقت أمرهم أن يفعلوا كل ما تستطيع القوة البشرية أن تفعله فى التأهب للحرب ، بينما كان أعداؤك يتحرقون شوقا إلى منازلتهم ، موقنين أنهم سيكتسحون الإسرائيليين غير المتأهبين عن وجه الأرض ، غير أن مالك الأرض كلها أمر قائد بني إسرائيل قائلا : ( قوموا ارتحلوا و اعبروا وأدى أرنون . أنظر . قد دفعت إلى يدك سيحون ملك حشبون الأمورى و أرضه . ابتدىء تملك و أثر عليه حربا . في هذا اليوم أبتدىء أجعل خشيتك و خوفك أمام وجوه الشعوب تحت السماء . الذين يسمعون خبرك يرتعدون و يجزعون أمامك ) . AA 385.1
لقد كان الإبقاء على هذه الشعوب الساكنه على حدود كنعان ممكنا لو لم يقفوا من كلمة الله موقف التحدى ، مقاومين تقدم إسرائيل . إن الرب قد برهن على أنه طو يل الأناة و رؤوف و رحيم حتى نحو هذه الأمم الوثنية . فحين رأى إبراهيم فى رؤيا أن نسله إسرائيل سيتغربون في أرض غريبة أربع مئة سنة و عده الرب قائلا : ( و في الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا ، لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملا ) (تكوين 15 : 16) . و مع أن الأموريين كانوا قوما و ثنيين و قد أضاعوا حقهم في الحياة لتفاقم شرورهم فقد أمهلهم الله أربع مئة سنة ليعطيهم برهانا ساطعا على أنه هو الإله الحقيقي الوحيد مبدع السموات و الأرض . إن كل عجائب الله التي قد أجراها في إخراج إسرائيل من مصر معروفة لدى الأموروين ، و صار لديهم البراهان الكافي ، فكان بإمكانهم أن يعرفوا الحق لو رغبوا فى ترك عبادة الأوثان و الخلاعة ، ولكنهم رفضوا النور و تعلقوا بأوثانهم . AA 385.2
و حين أتى الرب بشعبه إلى حدود كنعان مره ثانية ظهر برهان جديد لتلك الأمم الوثنية على قدرة الله . فلقد رأوا أن الله مع إسرائيل لأنه أعطاهم النصرة على الملك عراد و الكنعانين ، و كذلك فى العجيبة التي أجريت لإنقاذ حياة كل من كانوا على وشك الهلاك من لدغ الحيات . و بما أن الإسرائيليين لم يسمح لهم بالعبور في أرض أدوم فقد اضطروا للسير في الطريق الطويل الشاق إلى جوار بحر سوف ، و مع ذلك فكلما حلوا أو رحلوا عبر بلاد أدو م و موآب وبني عمون لم يظهروا أى عداء و لم يوقعون أى أذى على الناس أو أملاكهم .فلما وصل إسرائيل إلى تخوم الأموريين طلبوا منهم السماح لهم بالمرور مباشرة فى أرضهم و قد وعدوهم بمراعاة نفس القوانين التي عملوا بها فى البلاد الأخرى . فلما رفض ملك الأموريين قبول هذا الالتماس الرقيق و حشد قومه للحرب متحديا إسرائيل امتلأ كاس إثمهم و فاض ، حينئذ قصد الرب استخدام قدرته في إهلاكهم . AA 385.3
عبر إسرائيل نهر أرنون وتقدموا لمحاربة العدو فاشتبك الجيشان في معركة انتصرت فيها جيوش إسرائيل ، وإذ أرادوا أن يستفيدوا من ميزة الانتصار هذه امتلكوا بلاد الموريين . إن رئيس جند الرب هو الذي أوقع الهزيمة بأعداء شعبه ، وكان يمكنه أن يفعل ذلك لهم منذ ثمان وثلاثين سنة خلت لو أنهم وثقوا به . AA 386.1
وإذ امتلأت قلوب الشعب أملا و شجاعة ، تقدمت جيوشهم إلى الأمام بشوق و عزيمة . و بينما ظلوا سائرين شمالا سرعان ما وصلوا إلى مملكة كان يمكن أن تكون امتحانا لشجاعتهم و إيمانهم بالله . فقد كانت أمامهم مملكة باشان القوية و الكثيرة السكان ، و كان بها كثير من المدن العظيمة المبنية بالحجارة التي لا تزال إلى اليوم مثار دهشة العالم . ( ستون مدينة ... بأسوار شامخة ، وأبواب و مزاليج . سوى قرى الصحراء الكثيرة جدا ) (تثنية 3 : 1 — 11) . لقد كانت البيوت مبنية من أحجار ضخمه سوداء هائلة الحجم تكسب المباني مناعة ضد كل قوة كان يمكن أن تهاجمها فى تلك العصور ، و انتشرت في البلاد الكهوف المقفرة و الوهاد العالية و المهاوي الفاغرة أفواها بين الجبال و المعاقل الصخرية . و كان سكان هذه البلاد الذين كانوا من سلالة أمة كلها جبابرة ، قوما ضخام الأجسام ذوي قوة هائلة ، و قد اشتهروا بالعنف و الظلم و القسوة . فكانوا مبعث الرعب لكل الأمم المجاورة ، بينما كان عوج ملك تلك المملكه مشهورا بضخامه جسمه و بسالته حتى فى تلك الأمة التي كان رجالها حبابرة . AA 386.2
ولكن عمود السحاب سار متقدما إلى الأمام . فإذ سار العبرانيون في أثره تقدمت جموعهم إلى أذرعي حيث كان الملك الجبار و كل جيوشة على تمام الأهبة لمنازلتهم . كان الملك عوج ماهرا فى اختيار أرض الموقعة ، لقد كانت مدينة أذرعي واقعة على رابية ترتفع فجأة ارتفاعا هائلا و كانت محاطة بصخور بركانيه مسننة ، فلا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق معابر ضيقة منحدرة وعسرة المصاعد . و في حالة انهزام الجيش كان يمكنهم الالتجاء إلى مغاور الصخور في الصحراء حيث يستحيل على الغرباء أن يتعقبوهم . AA 386.3
وإذ كان ذلك الملك و اثقا من النصر جاء بجيشة العظيم إلى السهل الفسيح في حين سمعت صيحات التحدي من السهل المرتفع فوقهم حيث كان ترى آلاف الرماح متعطشة للطعن و النزال . فعندما نظر العبرانيون إلى ذلك الملك الفارع الطول الذي كان جبارا بين الجبابرة و الذي كان يعلو فى طوله على كل رجال الجيش ، وحينما أبصروا الجيوش المحيطة بهم و رأوا ذلك الحصن الذي بدا منيعا لا يمكن اقتحامه ، والذي كمن خلفه آلاف من الجنود في الخنادق . ارتجفت خوفا قلوب كثيرين من رجال إسرائيل . أما موسى فقد كان هادئاً وثابتا لأن الرب سبق فقال له عن ملك باشان : ( لا تخف منه ، لأنى قد دفعته إلى يدك وجميع قومه وأرضه ، فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الذي كان ساكنا فى حشبون ) (تثنية 3 : 2) . AA 387.1
إن ذلك الإيمان الهادئ الذي كان يملا قلب ذلك القائد قد ألهم قلوب رجاله بالثقة فسلموا كل شيء فى يد الله القوية ولم يخذلهم . فلا الجبابرة الأقوياء ولا المدن ذات الأسوار العالية ، ولا الجيوش المسلحة ولا المعاقل الصخرية أمكنها أن تصمد أمام رئيس جند الرب . لقد سار الرب فى طليعة الجيوش و قهر العدو وانتصر لإسرائيل ، فهلك الملك الجبار و جيشه ، و سرعان ما استولى الإسرائيليون على كل تلك البلاد . وهكذا محى عن وجه الأرض ذلك الشعب الذين كانوا قد أسلموا أنفسهم للإثم و الوثنيه الرجسة . AA 387.2
وبعد الانتصار على جلعاد وباشان عاد كثيرون من الشعب إلى ذكرى تلك الحوادث التي بسببها حكمن على إسرائيل أن يتوهوا فى البرية أمداً طويلا منذ أربعين سنة خلت في قادش .فرأوا أن تقرير الجواسيس عن أرض الموعد كان صحيحا فى كثير من النواحي . فلقد كانت المدن حصينة و عظيمة جدا و كان يسكنها الجبابرة الذين كان الإسرائيليون يحسبون أقزاما أمامهم . و لكنهم رأوا الآن أن الخطأ المميت الذي قد ارتكبه أباؤهم كان عدم ثقتهم بقدرة الله .فهذا وحده حرمهم الدخول حالا إلى الأرض الجيدة . AA 387.3
حين كانوا يتأهبون لدخول كنعان أول مرة كان ذلك العمل أقل صعوبة مما هو الآن . فلقد وعد الله شعبه حينئذ أنهم أن أطاعوا صوته فسيسير في طليعتهم و يحارب عنهم ، كما سيرسل الزنابير لطرد سكان الأرض . كما أنه لم تكن مخاوف تلك الشعوب قد أثيرت ، فكانوا لذلك غير مستعدين استعدادا كافيا لوقف تقدم إسرائيل . أما الآن فلما أمر الرب شعبه بالتقدم في سيرهم كان لا بد لهم أن يواجهوا أعداء يقظين و أن ينازلوا جيوشا عظيمة مدربة على القتال أعظم تدريب ، جيوشا على تمام الأهبة لصد تقدمهم . AA 387.4
و في مصادمتهم مع عوج و سيحون جاز الشعب في نفس الاختبار الذي قد فشل فيه آباؤهم فشلا ذريعا فاضحا . و لكن الامتحان غدا أقسى بكثير الآن مما كان حين أمر الله إسرائيل بالتقدم منذ سنين طويلة . لقد زادت الصعوبات التي اعترضت تقدمهم زيادة عظيمه منذ رفضوا التقدم منذ سنين طويلة لقد زادت الصعوبات التي اعترضت تقدمهم زيادة عظيمة منذ رفضوا التقدم حين أمروا أن يتقدموا باسم الرب . إن الله لا يزال يختبر شعبه بهذة الكيفية ، فإن أخفقوا في الثبات أما الامتحان فسيعود بهم إلى نفس المكان ، وفي المرة الثانية ستكون التجربة أقوى وأقسى من سابقتها . وستظل الحال هكذا حتى يصمدوا أما التجربة . أما إذا ظلوا سادرين في عصيانهم فسيرفع الرب نوره من بينهم و يتركهم يتعثرون الظلام . AA 388.1
تذكر العبرانيون الآن كيف أنهم حين تقدمت جيوشهم للحرب فيما مضى انهزموا و مات منهم ألوف ، لأنهم في ذلك الحين ذهبوا للحرب في تحد مباشر لأمر الرب . لقد خرجوا دون أن يكون معهم موسى القائد المعين من الله ، و بدون أن يتقدمهم عمود السحاب رمز حضور الله ، وبدون التابوت . أما الآن فقد كان موسى معهم مشددا قلوبهم بكلام الرجاء و الإيمان ، و ابن الله الساكن في عمود السحاب كان يقودهم ، وكان التابوت المقدس سائرا مع ذلك الجيش . إن في هذا الاختبار درسا لنا ، لأن إله إسرائيل القدير هو إلهنا و يمكننا أن نتكل عليه ، فإذا أطعنا وصاياه سيعمل لأجلنا بكيفية جلية و ظاهرة كما فعل مع شعبه قديما . إن كل من يجد في السير في الطريق الواجب فلا بد أن تهاجمه الشكوك و عدم الإيمان في بعض الأحيان . وسيبدو الطريق أحيانا مليئا بالعوائق التي تبدو و كأنه لا يمكن التغلب عليها حتى أنها تثبط الذين يستسلمون للفشل ، غير أن الله يقول لمثل هؤلاء : تقدموا و اعملوا واجبكم أيا تكن الكلفة . إن الصعوبات التي تبدو أمامكم هائلة و مخيفه و التي تملأ قلوبكم رعبا ستختفي عندما تتقدمون في طريق الطاعة وأنتم بكل تواضع واثقون بالله . AA 388.2
* * * * *