Go to full page →

الفصل الأربعون—بلعام AA 389

بعدما عاد الإسرائيليون إلى الأردن بعد افتتاح باشان ، عسكروا بجوار النهر استعدادا لغزو كنعان في الحال . وقد حلوا بجانب النهر ، فوق مصبه في البحر الميت ، مقابل سهل أريحا . عند تخم موآب ، فامتلات قلوب الموآبيين رعبا لأن أولئك الغزاة كانوا قريبين منهم جدا . AA 389.1

إن إسرائيل لم يسبق له أن ضايق شعب موآب . إلا أن أبناء ذلك الشعب كانوا يراقبون كل الحوادث الجارية في البلاد المجاورة وهم منزعجون ومتطيرون . فالأموريون الذين اضطر جيش موآب أن يتقهقر أمامهم انهزموا أمام العبرانيين ، والأراضي التي كان الأموريون قد أخذوها عنوة عن موآب امتلكها إسرائيل الآن ، وانهزمت جيوش باشان أمام القوة العجيبة المحتجة في عمود السحاب فاحتل العبرانيون معاقل الجبابرة. ولهذا لم يكن الموآبيين يجسرون على الهجوم عليهم . ولم يكن الالتجاء إلى القوة يجدي لمواجهة العوامل الفائقة الطبيعة التي كانت تعمل لأجلهم . لهذا عولوا على استخدام قوة السحر والعرافة لإبطال عمل الله ، كما فعل فرعون من قبل . لقد أرادوا أن يستمطروا اللعنات على إسرائيل . AA 389.2

وكان موآب على صلة وثيقة بالمديانيين إذ كانت تربط الشعبين معا أواصر القومية والدين ، فأثار بالاق ملك موآب مخاوف ذلك الشعب المجاور وظفر بتعاونهم معه في مؤامراته ضد إسرائيل بهذه الرسالة : ( الآن يلحس الجمهور كل ما حولنا كما يلحس الثور خضرة الحقل ) (انظر سفر العدد 22 — 24) وكان بلعام الساكن في ما بين النهرين قد اشتهر بأن تحت امرته قوى فائقة الطبيعة ، ووصلت شهرته إلى بلاد موآب . فاستقر الرأي على أن يستدعوه إلى بلادهم ليقدم لهم معونته ، ولذلك أرسل رسل من ( شيوخ موآب وشيوخ مديان ) ليستنجدوا بعرافته وسحره ضد إسرائيل . AA 389.3

فانطلق أولئك السفراء حالا في تلك الرحلة الطويلة فوق الجبال وعبر القفار إلى أرض ما بين النهرين ، ولما وجدوا بلعام أبلغوه رسالة الملك قائلين : ( هوذا قد غشى وجه الأرض ، وهو مقيم مقابلي . فالآن تعال والعن لي هذا الشعب ، لأنه أعظم مني ، لعله يمكننا أن نكسره فأطرده من الأرض ، لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون ) . AA 390.1

كان بلعام قبلا رجلا صالحا ونبيا لله ولكنه ارتد وأسلم نفسه للطمع ومع ذلك فقد معترفا بأنه عبد الله العلي ، ولكن يجهل عمل الله لأجل إسرائيل . فعندما أخبره الرسل بالغاية من مجيئهم عرف جيدا أن واجبه يقتضيه أن يرفض حلوان بالاق وعطاياه ويصرف أولئك السفراء . ولكنه أقدم على مداعبة التجربة وألح على أولئك أن يبيتوا تلك الليلة ، معلنا لهم أنه لا يمكن أن يعطيهم جوابا حاسما إلى أن يطلب مشورة الله . لقد عرف بلعام أن لعناته لن تضر إسرائيل في شيء ، لأن الله كان في صفهم ، وما داموا أمناء له فلن تستطيع قوة معادية على الأرض أو في الجحيم أن تقوى عليهم ، غير أن غروره قد انتشى فانخدع بكلام أولئك السفراء حين قالوا له : ( أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون ) وثم أثارت أطماعه الرشوة السخية والعطايا القيمة و الإطراء والمديح الذي كان ينتظره . وبكل جشع قبل الكنوز والثورة المقدمة له . حينئذ وفيما كان يعترف بطاعته الكاملة لإرادة الله حاول أن يستجيب لرغبات بالاق . AA 390.2

وفي الليل أتى ملاك الله إلى بلعام بهذه الرسالة : ( لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب ، لأنه مبارك ) . AA 390.3

وفي الصباح صرف بلعام الرسل وهو كاره ، ولكنه لم يخبرهم بما قاله له الله . وإذ كان غاضبا لأن أحلامه عن الربح والكرامة قد تلاشت صاح فيهم قائلا بغضب : )نطلقوا إلى أرضكم لأن الرب أبي أن يسمح لي بالذهاب معكم ) . AA 390.4

إن بلعام أحب أجرة الإثم ) (2 بطرس 2 : 15) وإن خطية الطمع التي يعلن الرب عنها أنها عبادة أوثان جعلته يدور مع الزمان ، وعن طريق هذه الغلطة الواحدة تمكن الشيطان منه وسيطر عليه تماما . وهذا كان سبب هلاكه . إن المجرب يقدم للناس دائما الأرباح العالمية والكرامة الدنيوية ليغوي الناس حتى لا يعبدوا الله أو يخدموه . وهو يقول لهم إن تمسكهم بالاستقامة الزائدة عن الحد هو الحائل بينهم وبين النجاح . وهكذا ينخدع كثيرون فيجازفون بالانحراف عن طريق الاستقامة الكالمة . إن خطوة واحدة يخطوها الإنسان في طريق الخطأ تجعل الخطوة الثانية أكثر سهولة وبذلك يصير أكثر جرأة ، فمتى أسلموا أنفسهم لسلطان الطمع وشهوة القوة والرفعة فسيرتكبون أرهب الخطايا في جرأة عظيمة . كثيرون يخدعون نفوسهم بالقول إنه يمكنهم أن ينحرفوا قليلا عن الاستقامة الكاملة إلى وقت قصير في طلب بعض المنافع العالمية ، ومتى حققوا غرضهم يمكنهم أن يغيروا مسلكهم متى أرادوا . مثل هؤلاء يوقعون أنفسهم في فخ الشيطان ، وقلما ينجون . AA 390.5

عندما أبلغ الرسل بالاق بأن النبي رفض الذهاب معهم لم يبلغوه أن الله نهاه عن ذلك . وإذ ظن بالاق بأن تمنع بلعام عن المجيء هو كونه يطمع في أجر أعظم أرسل إليه رؤساء أكثر عددا وأسمى مقاما من الأولين زودهم بوعود بمكافأة أعظم شرفا ، وخولهم أن يرضوا بأي شرط يعرضه بلعام . وقد أرسل إليه رسالة مستعجلة يقول له : ( لا تمتنع من الإتيان إلي ، لأني أكرمك إكراما عظيما ، وكل ما تقول لي أفعله . فتعال الآن العن لي هذا الشعب ) . AA 391.1

امتحن بلعام مرة ثانية . واستجابة منه لتوسلات أولئك السفراء نوه باستقامته العظيمة ونزاهته مؤكدا أنه مهما كثرت الفضة والذهب المفروض عليه لا يمكن أن تغويه ليتجاوز إرادة الرب . ولكنه في أعماقه كان يتوق إلى الإذعان لطلب الملك . ومع أن إرادة الله قد أعلنت واضحة ، ألح على الرسل أن يبيتوا تلك اللية حتى يسأل الله مرة أخرى كما لو كان الله غير المحدود إنسانا يمكن التأثير عليه أو إقناعه . AA 391.2

ففي الليل ظهر الرب لبلعام وقال له : ( إن أتى الرجال ليدعوك فقم اذهب معهم ، إنما تعمل الأمر الذي أكلمك به فقط ) إلى هذا الحد سمح الرب لبلعام أن يتبع إرادته الخاصة لأنه كان مصرا على ذلك . إنه لم يطلب عمل إرادة الله بل اختار طريقه الخاص وحينئذ حاول أن يظفر بمصادقة الله . AA 391.3

إن آلافا من الناس في هذه الأيام يسيرون في طريق مماثل لهذا الطريق ، ولا يجدون صعوبة في فهم واجبهم إذا كان موافقا لأميالهم ، كما أنه موضح لهم في الكتاب المقدس أو مرسوم أمامهم في الظروف المحيطة بهم أو عن طريق العقل والإدراك . ولكن حيث أن هذه البراهين تتعارض مع رغائبهم الخاصة وأميالهم الذاتية ففي غالب الأحيان يطرحونها جانبا ، ويغفلونها ويدعون أنها سيذهبون إلى الله ليعرفوا منه واجبهم . فباستقامة ظاهرية عظيمة يصلون صلوات طويلة حارة في طلب الإرشاد . ولكن الله لا يستهان به . إنه في غالب الأحيان يسمح لأولئك الناس بإتباع رغائبهم وتحمل النتائج ، ( فلم يسمع شعبي لصوتي ... فسلمتهم إلى قساوة قلوبهم ، ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم ) (مزمور 81 : 11 ، 12) . متى عرف الإنسان واجبه واضحا فلا يدع أنه يذهب إلى الله مصليا لعله يعفيه من إتمامه ، بل عليه بالحري أن يطلب من الرب بكل تواضع وخضوع ، وقوة وحكمة إلهية للقيام بكل التزاماته . AA 391.4

كان الموآبيين شعبا وثنيا منحطا . ولكن بسبب النور المعطى لهم لم تكن خطيتهم هكذا عظيمة في نظر السماء كما كانت خطية بلعام ، فإذ اعترف بأنه نبي الله فكل ما كان يجب عليه أن يقوله كان المفروض أن يكون مصحوبا بسلطان الله . ولهذا لم يكن مسموحا له أن يتكلم الكلام الذي يختاره بل كان عليه أن ينطلق بالرسالة التي يتسلمها من الله . فقد أمره الله قائلا : ( إنما تعمل الأمر الذي أكلمك به فقط ) . AA 392.1

ولقد سمح لبلعام بالذهاب مع الرسل القادمين من موآب إذا جاءوا إليه في الصباح يطلبون منه الذهاب معهم . ولكنهم إذ كانوا متضايقين من تلكئه ومتوقعين أنه سيرفض طلبهم مرة ثانية عادوا إلى بلادهم دون أن يتشاوروا معه . فلم يبق أمامه الآن عذر ينتحله للإذعان لطلب بالاق . ولكن بلعام كان مصرا على الظفر بالحلوان . فإذ أخذ أتانه التي كان معتادا ركوبها بدأ رحلته . وقد كان يخشى أنه حتى الآن يعدل الرب عن السماح له بالذهاب ، فأسرع متقدما في سيره ، وكان يتعجل في السير لئلا يحدث ما يحرمه الحصول على المكافأة التي كان يشتهي الحصول عليها . AA 392.2

ولكن ( وقف ملاك الرب في الطريق ليقاومه ) وقد أبصرت أتانه الرسول السماوي ، أما هو فلم يبصره . فمالت الأتان عن الطريق ومشت في الحقل . فأعاد بلعام أتانه إلى الطريق القاسية . ومرة أخرى ظهر له الملاك واقفا في خندوق للكروم وكان الطريق ضيقا ، فحاولت الأتان أن تحيد عن طريق ذلك الشبح المتوعد فضغطت رجل صاحبها بالحائط . لقد عمي بلعام عن تدخل الله ولم يكن يعرف أن الله كان يعترض طريقه ، فاهتاج الرجل واتقد سخطه ، وإذ ضرب الأتان بدون رحمة أجبرها على التقدم في سيرها . AA 392.3

ومرة أخرى ( اجتاز ملاك الرب أيضا ووقف في مكان ضيق حيث ليس سبيل للنكوب يميا أو شمالا ) . وظهر مرة أخرى بمظهر المتوعد . فإذ كانت الأتان ترتجف من هول الرعب توقفت عن سيرها وربضت تحت راكبها . فأطلق بلعام العنان لغضبه وضرب أتانه بقضيبه بقساوه أشد من قبل ، ففتح الرب إذ ذالك فم الأتان ( إذ منع حماقة النبي حمار أعجم ناطقا بصوت إنسان ) (2 بطرس 2 : 16) قالت الأتان : ( ماذا صنعت بك حتى ضربتني الآن ثلاث دفعات ؟ ( . AA 392.4

وإذ بلغ سخط بلعام حد الاهتياج بسبب التأخر الذي عرض له في رحلته أجاب الأتان كما لو كان يكلم كائنا عاقلا : ( لأنك ازدريت بي . لو كان في يدي سيف لكنت الآن قد قتلتك ) هنا عراف مدع سائر في طريقه ليلعن شعبا بجملته لكي يشل قوتهم ، ومع ذلك لا قدرة له على أن يقتل الدابة التي كان يركبها . AA 393.1

والآن ها قد فتحت عينا بلعام ، وها هو يرى ملاك الرب واقفا وسيفه مسلول في يده وهو مستعد لقتله ، وإذ كان مرتعبا ( خر ساجدا على وجهه ) فقال له الملاك : ( لماذا ضربت أتانك الآن ثلاث دفعات ؟ هأنذا قد خرجت للمقاومة لأن الطريق ورطة أمامي ، فأبصرتني الأتان ومالت من قدامي الآن ثلاث دفعات . ولو لم تمل من قدامي لكنت الآن قد قتلتك واستبقيتها ) . AA 393.2

كان بلعام مدينا بحفظ حياته لتلك الأتان المسكينة التي عاملها بمنتهى القسوة . فذلك الرجل الذي ادعى أنه نبي الرب ، والذي أعلن أنه “مكشوف العينين( والذي يرى )رؤيا القدير) أعماه الطموح بحيث لم ير ملاك الله الذي أبصرته الأتان ، ( إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين ) (2 كورنثوس 4 : 4) ما أكثر العميان هكذا ! إنهم يندفعون سائرين في طرق منهي عن السير فيها ، متعدين شريعة الله ، ولا يمكنهم أن يلاحظوا أن الله وملائكته واقفون لمقاومتهم ، وكبلعام يغضبون على من يحولون بينهم وبين الهلاك . AA 393.3

أن بلعام بمعاملاته القاسية لأتانه قدم الدليل على الروح التي سيطرت عليه . ( الصديق يراعي نفس بهيمته ، أما مراحم الأشرار فقاسية ) (أمثال 12 : 10) قليلون هم الذين يتحققون ، كما يجب ، شر معاملتهم السيئة للحيوانات أو تركهم إياها لتقاسي من شر إهمالهم لها . إن ذاك الذي خلق الإنسان خلق أيضا الحيوانات الدنيا ، ( ومراحمه على كل أعماله ) (مزمور 145 : 9) لقد خلقت الحيوانات لخدمة الإنسان ، ولكن لا حق له في أن يوقع بها أى ألم بمعاملته الفظة لها أو إلزامها بعمل ما لا تستطيعه . AA 393.4

إننا بسبب خطية الإنسان نرى ( فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معا إلى الآن ) (رومية 8 : 22) وقد فرضت الآلام والموت ليس على الجنس البشري وحده بل أيضا على الحيوانات . إذا فيليق بالإنسان ، بدلا من أن يزيد على الخلائق من ثقل الآلام التى كان سببها معصيته ، أن يعمل على تخفيفها . إن الذي يقسو على الحيوانات لكونه قد أعطى السلطان عليها هو إنسان جبان كما أنه طاغية مستبد . والميل إلى إيقاع الآلام على بني جنسنا أو على البهائم العجماوات هو ميل شيطاني . إن كثيرين يتقسون على البهائم لكونهم واثقين من أن قسوتهم لن تكتشف ، لأن الحيوان الأصم المسكين لن يفشي السر ، ولكن لو فتحت عيون هؤلاء القوم كما فتحت عينا بلعام لكانوا يرون ملاك السماء واقفا كشاهد للشهادة عليهم أمام المحكمة السماوية . هنالك سجل يصعد إلى السماء وسيأتى اليوم الذي فيه يحكم بالدينوية على من يتقسون في معاملتهم لخلائق الله . AA 394.1

ما إن أبصر بلعام الملاك حتى صرخ في رعب : ( أخطأت . إنى لم أعلم أنك واقف تلقائي في الطريق . والآن إن قبح في عينيك فإنى أرجع ) . ولكن الرب سمح له بالتقدم في رحلته ، إلا أنه أفهمه أن كلامه ينبغي أن يكون تحت سيطرة قوة الله . لقد أراد الله أن يبرهن لشعب موآب أن العبرانيين هم تحت حرسة السماء . وهذا ما فعله حين برهن لهم عن مقدار عجز بلعام حتى عن أن ينطق عليهم بلعنة دون سماح من الله . AA 394.2

و إذ علم ملك موآب بأن بلعام قادم إليه خرج إلى تخوم مملكته تتبعه حاشية عظيمة لاستقباله ، فلما عبر له عن دهشته لتأخره عن المجيء مع كثرة المكافآت العظيمة التي تنتظره أجابه النبي بقوله : ( هآنذا قد جئت إليك . ألعلي الآن أستطيع أن أتكلم بشيء ؟ الكلام الذي يضعه الله في فمي به أتكلم ) وقد تأسف بلعام أشد الأسف بسبب هذا الحصار المفروض عليه ، وخشى أن يفشل في تنفيذ غرضه لأن قوة الله الضابطة كانت مستقرة عليه . AA 394.3

وفي أبهة عظيمة رافق الملك وعظماء مملكته بلعام إلى ( مرتفعات بعل ) التي كان يستطيع منها أن يشرف على جموع العبرانيين . أنظروا إلى النبي وهو يقف على ذلك المكان المرتفع لينظر من عل إلى محلة الشعب المختار . وما أقل ما كان يعرفة الإسرائيليون عما كان يجري بالقرب منهم ! وما أقل ما كانوا عن رعاية الله لهم التي قد بسطها عليهم نهارا وليلا ! ما أغبى أفهام شعب الله وما أبلد إحساسهم ! وكم هم متباطئون في كل عصر عن إدراك محبته العظيمة ورحمته ! فلو أمكنهم إدراك القوة الإلهية العجيبة التي يستخدمها الله لصالحهم باستمرار أما كانت قلوبهم تفيض شكرا له على محبته ، والرهبة لدى التأمل في جلاله وقدرته ؟ AA 394.4

كانت لدى بلعام بعض المعرفة عن ذبائح العبرانيين الكفارية وكان يرجو أنه يتفوق عليهم بالهبات الغالية ، يمكنه أن يحصل على بركة الله ، ويضمن إنجاز مشاريعه الآثمة . وهكذا كانت الأفكار والعواطف الموآبية الوثنية تزحف إليه لتتسلط على عقله . فصارت حكمته جهالة ، ورؤاه الروحية مظلمة وغير واضحة . وقد جلب هو على نفسه العمى بخضوعه لقوة الشيطان . AA 395.1

وحسب تعليمات بلعام بنيت سبعة مذابح وقدم ذبيحة على كل منها . ثم انطلق صاعدا إلى )رابية( ليلاقي الله وقد وعد بالاق أن يخبره بما سيعلنه له الله . AA 395.2

وقف الملك إلى جوار المحرقة ، وإلى جانبه وقف نبلاء موآب ورؤساؤها ، كما تجمع حولهم جمع غفير من الناس وكلهم شوق ، يترقبون عودة النبي . أتى أخيرا وكان الشعب ينتظر ، في لهفة ، سماع الكلمات التي ستشل إلى الأبد تلك القوة الغربية المسخرة في خدمة الإسرائيليين المكروهين ، فقال : ( من أرام أتى بالاق ملك موآب ، من جبال المشرق : تعال العن لي يعقوب ، وهلم اشتم إسرائيل . كيف ألعن من لم يلعنه الله ؟ وكيف أشتم من لم يشتمه الرب ؟ إني من رأس الصخور أراه ، ومن الآكام أبصره .هوذا شعب يسكن وحده وبين الشعوب لا يحسب . من أحصى تراب يعقوب وربع إسرائيل بعدد ؟ لتمت نفسي موت الأبرار ، ولتكن آخرتي كآخرتهم ) . AA 395.3

لقد اعترف بلعام أنه قد جاء وقصده أن يلعن إسرائيل ، ولكن الكلام الذي نطق به جاء على عكس أفكار قلبه ، فأكره على أن ينطق بالبركات بينما كانت نفسه تفيض باللعنات . AA 395.4

إن بلعام حين نظر إلى محلة إسرائيل رأى بمنتهى الدهشة الدليل على نجاحهم . لقد صوروا له على أنهم جماعة شرسة غير منتظمة تعكر صفو أمن البلاد بعصاباتهم التي تجول في كل مكان للنهب ، وأنهم مبعث الوبال والرعب للأمم المجاورة . ولكن مظهرهم كان على عكس هذا كله ، إذ رأى خيامهم على مدى البصر منسقة ومنظمة على أكمل ما يكون النظام في كل المحلة ، وكل شيء يحمل طابع الترتيب والنظام الدقيق . ثم رأى دلائل الرضى الذي كان الله يشمل به إسرائيل ، والصفات التي تميزهم كشعب الله المختار . إنهم لم يكونوا ليقفوا على مستوى واحد مع الأمم الأخرى ، بل كان لا بد لهم أن يسموا عليهم جميعا ، ( هوذا شعب يسكن وحده ، وبين الشعوب لا يحسب ) في الوقت الذي قيل فيه هذا الكلام لم يكن للإسرائيليين مواطن استقرار . ولم تكن صفاتهم الفريدة ولا عاداتهم أو أخلاقهم معروفة لدى بلعام . ولكن بأي كيفية مدهشة تمت هذه النبوة في تاريخ إسرائيل بعد ذلك ، ومدة سني سبيهم ، وطوال أجيال تشتتهم بين الشعوب بقوا شعبا ممتازا ! وهكذا نجد أن شعب الله الذين هم إسرائيل الحقيقي مع كونهم مشتتين في كل الأمم ما هم إلا غرباء على الأرض ، لأن وطنهم هو في السماء . AA 395.5

وفضلا عما قد رآه بلعام من تاريخ إسرائيل كأمة رأى نمو إسرائيل الله الحقيقي ونجاحهم إلى انقضاء الدهر . لقد رأى الله العلي الخاص يشمل كل من يحبونه ويتقونه . رأى ذراع الله تسندهم حين يدخلون في وادي ظلال الموت ، ورآهم يخرجون من قبورهم مكللين بالمجد والكرامة والخلود . رأى المفديين فرحين ومتهللين في أمجاد الأرض الجديدة الدائمة . و إذ تطلع إلى ذلك المنظر هتف قائلاً : )من أحصى تراب يعقوب وربع إسرائيل بعدد ؟ ( و إذ أبصر إكليل المجيد يكلل كل هامة ، والمجد يشع من كل الوجوه ونظر إلى الأمام إلى حياة الخلود والسعادة التي لا تشوبها شائبة نطق بطلبته المهيبة قائلاً : ( لتمت نفسي موت الأبرار ، ولتكن آخرتى كآخرتهم ) . AA 396.1

لو كان لدى بلعام ميل لقبول النور المعطى من الله لتحققت هذه الطلبة له ، ولقطع في الحال كل علاقة له بموآب ، ولم يعد إلى تعدي رحمة الله ، بل كان يرجع إليه في توبة عميقة صادقة . ولكن بلعام أحب أجرة الإثم وهذا ما كان يحرص على أخذه أشد الحرص . AA 396.2

أما بالاق فقد كان ينظر، واثقا من أن لعنة ستحل على إسرائيل كضربة ساحقة مهلكة . فلما سمع كرم النبي صاح قائلا له في غضب ، ( ماذا فعلت بي ؟ لتشتم أعدائي أخذتك ، وهوذا أنت قد باركتهم ) . فبلعان الذي كان يحاول أن يجعل من الضرورة فضيلة ادعي أنه ، بتوقير لإرادة الله قائم على سلامة النية ، ( أما الذي يضعه الرب في فمي أحترص أن أتكلم به ؟ ) . AA 396.3

إن بالاق لم يستطع حتى في هذا الوقت أن يتنحى عن غرضه . إذ علم أن تأثير ذلك المنظر المهيب الجليل الذي أحدثته رؤية محلة العبرانيين الواسعة في نفس بلعام قد أفزعه إلى حد أنه لم يستطع استخدام عرافته ضدهم . فعزم الملك على أن يأخذ النبي إلى مكان آخر حيث لا يرى غير جزء صغير منهم . وإذ أمكن التأثير على بلعام حتى يلعن تلك الجماعات الملحقة ببني إسرائيل سيكون مصير المحلة كلها الهلاك . فبذلت عليها محاولة أخرى على رأس مرتفعة تسمى الفسجة ، ومرة أخرى بنيت سبعة مذابح وقدمت عليها نفس الذبائح التي قدمت أول مرة . ثم لبث الملك ومشيروه إلى جوار الذبائح . أما بلعام فذهب ليقابل الله ومرة أخرى وضعت في فمه رسالة إلهية لم يستطع أن يغيرها أو يحجزها . AA 397.1

فلما عاد إلى تلك الجماعة المنتظرة الملتهبة سئل النبي هذا السؤال ، )ماذا تكلم به الرب ؟ ) فإذا بالجواب كالسابق يوقع الرعب في قلب الملك وقلوب الرؤساء . إذ قال : ) ليس الله إنسانا فيكذب ، ولا ابن إنسان فيندم . هل يقول ولا يفعل ؟ أو يتكلم ولا يفي ؟ إني قد أمرت أن أبارك . فإنه قد بارك فلا أرده . لم يبصر إثما في يعقوب ، ولا رأى تعبا في إسرائيل . الرب إلهه معه ، وهتاف ملك فيه ) . AA 397.2

وإذ أحس بلعام بالرهبة من هذه الإعلانات صاح قائلا : ( إنه ليس عيافة على يعقوب ، ولا عرافة على إسرائيل ) . إن ذلك الساحر العظيم حاول أن يستخدم قوة سحره كما كان يشتهي الموآبيون . ولكن في هذه المناسبة عينا ينبغي أن يقال عن إسرائيل : )ماذا فعل الله) ما دام شعب الله تحت حراسته لم يكن في قدرة أي شعب أو أية أمة أخرى ولو كانت مؤيدة بكل قوة الشيطان أن تقهرهم . ينبغي للعالم كله أن يندهش من عمل الله العجيب لأجل شعبه — هوذا الرجل كان عازما على أن يسير في طريق شريرة ، وإذا بقوة الله تضبطه لينطق ، بدلا من اللعنات ، بأجمل وأثمن المواعيد ، في لغة رفيعة وشعر تتمشى فيه الحماسة . هذا ، وإن رضى الله الذي أظهره لاسرائيل في ذلك الحين كان القصد منه أن يصير تأكيدا لرعايته الحافظة لاولاده المطيعين الأمناء في كل العصور . وحين يثير الشيطان الناس الأشرار ليشوهوا سمعة شعب الله أو يضايقوهم أو يهلكوهم فإنهم يذكرون هذه الحادثة ، هذا ما يزيد من شجاعتهم وإيمانهم بالله . AA 397.3

إذا أحس ملك موآب بالضيق وخار عزمه صاح يقول : ( لا تلعنه لعنة ولا تباركه بركة ) ومع ذلك فقد كان لا يزال يحتضن في قلبه الأمل الواهن ، فعول على القيام بمحاولة أخرى . فأخذ بلعام إلى رأس فغور حيث كان هيكل العبادة الخليعة للبعل الذي كانوا يعبدونه . وفي هذا المكان بنى العدد نفسه من المذابح وقدم عليها العدد نفسه من الذبائح ، لكن بلعام لم ينفرد مع الله في هذه المرة كما في المرات الأخرى ليعلم مشيئته ، ولم يتظاهر بممارسة السحر بل إذ وقف إلى جوار المذابح تطلع ورأى خيام إسرائيل فحل عليه روح الله ونطقت شفتاه بهذه الرسالة الإلهية : ( ما أحسن خيامك يا يعقوب ، مساكنك يا إسرائيل ! كأودية ممتدة . كجنات على نهر ، كشجرات عود غرسها الرب . كأرزات على مياه . يجري ماء من دلائه ، ويكون زرعه على مياه غزيرة ، ويتسامى ملكه على أجاج وترتفع مملكته . الله أخرجه من مصر . له مثل سرعة الرئم ، يأكل أمما ، مضايقيه ، ويقضم عظامهم ويحطم سهامه . جثم كأسد . ربض كلبوة . من يقيمه ؟ مباركك مبارك ، ولاعنك ملعون ) . AA 398.1

إن نجاح شعب الله موصوف هنا بأجمل الأوصاف الموجودة في الطبيعة . فالنبي يشبه إسرائيل بأودية خصبة غنية بالحصاد الوفير ، وجنات زاهرة ترويها ينابيع دائمة الجريان ، وبشجرة العود أو الصندل العطرة الرائحة وشجرة الأرز العظيمة . والصورة المذكورة أخيرا من أعظم الصور الأخاذة المذكورة في كلمة الوحي . إن كل الشعوب في بلاد الشرق تكرم أرز لبنان . كما أن فصيلة الأشجار التي منها شجر الأرز توجد في أي مكان يذهب إليه الناس في كل الأرض . فهو يوجد ويزدهر في كل الأماكن ، من الأقاليم الجليدية إلى المنطقة الاستوائية ، ويزدهر بالحرارة كما يتحمل البرودة ، وينمو بنضارة وبهاء بجانب الأنهار ، وكذلك يعلو متشامخا فوق الصحراء اليابسة القفراء . إن هذه الأشجار تغرز جذورها إلى عمق عظيم بين صخور الجبال ، وبكل شجاعة تتحدى العواصف الهوجاء وتظل أوراقها خضراء يانعة في فصل الشتاء حين تسقط أوراق أغلب الأشجار الأخرى . إن أرز لبنان يمتاز عن كل الأشجار الأخرى بقوته ومتانته وعدم تعرضه للعطب . فهو يصلح رمزا لأولئك الذين حياتهم ( مستترة مع المسيح في الله) (كواوسي 3 : 3) يقول الكتاب المقدس : ( الصديق ... كالأرز في لبنان ينمو ) (مزمور 92 : 12) لقد رفعت يد الله الأرز فصار كملك في الغابة ، ( السرو لم يشبه أغصانه ، والدلب لم يكن مثل فروعه . كل الأشجار في جنة الله لم تشبهه في حسنه ) (حزقيال 31 : 8) . إن الأرز يذكر مرارا على أنه شعار للجلال الملوكي . واستعماله في الكتاب المقدس رمزا للأبرار يرينا كم تقدر السماء أولئك الذين يفعلون مشيئة الله . AA 398.2

تنبأ بلعام بأن ملك إسرائيل سيكون أعظم وأقوى من أجاج . وكان هذا الإسم (اجاج) يطلق على ملوك عماليق الذين كانوا في ذلك الوقت أمة قوية ، غير أن أمة إسرائيل إذا ظلت أمينة لإلهها فستقهر كل أعدائها ، لأن ملك إسرائيل هو ابن الله وعرشه سيثبت يوما ما من كل الأرض وسلطانه سيرتفع فوق كل ممالك الأرض . AA 399.1

وإذ كان بالاق يصغي إلى كلمات النبي خابت كل آماله وانهارت ، فامتلأ قلبه خوفا وغلا صدره غضبا . كان بالاق غاضبا لأن بلعام لم يقدم له أقل تشجيع ولا أي استجابة لتوسلاته أو آماله إذ كان كل شيء ضده . وبكل احتقار اعتبر أن المسلك الذي سلكه النبي مسلك خادع . فصاح قائلا له في وحشية : ( فالآن اهرب إلى مكانك . قلت أكرمك إكراما ، وهوذا الرب قد منعك عن الكرامة ) فأجاب بلعام أنه سبق فأنذر الملك قائلا أنه سيتكلم بالرسالة التي يتلقاها من الرب ليس إلا . AA 399.2

وقبلما عاد بلعام إلى شعبه نطق بأجمل وأسمى نبوة عن فادي العالم ، وعن الهلاك النهائي الذي سيصيب كل أعداء الله فقال : ( أراه ولكن ليس الآن . أبصره ولكن ليس قريبا . يبرز كوكب من يعقوب ، ويقوم قضيب من إسرائيل ، فيحطم طرفي موآب ، ويهلك كل بني الوغى ) وفي ختام كلامه تنبأ عن الهلاك الشامل لموآب وأدوم وعماليق والقينيين ، وبذلك قضى على كل آمال ملك موآب . AA 399.3

وإذ خابت آمال بلعام في الثراء والرفعة ، ولكونه جلب على نفسه سخط الملك ، ولشعوره بأنه قد جلب على نفسه غضب الله ، عاد من رحلته التي قد اختارها لنفسه . وبعدما عاد إلى بيته زايلته قوة روح الله التي كانت تضبطه ، وانتصر عليه جشعه الذي كان قد أوقف عند حده إلى حين ، فصار الآن يلجأ إلى أية وسيلة لكسب الحلوان الذي كان بالاق قد وعده به . كذلك عرف بلعام أن نجاح إسرائيل يتوقف على طاعتهم لله ، وأنه لا طريقة لهزيتهم والقضاء عليهم إلا بإغوائهم على ارتكاب الخطية ، فعزم على اكتساب رضى بالاق إذ قدم للموآبيين المشورة عن الطريق الذي يسلكونه ليجلبوا اللعنة على إسرائيل . AA 399.4

وسرعان ما عاد بلعام إلى بلاد موآب وبسط خططه أمام الملك ، فأيقن الموآبيين أنفسهم أنه ما دام بنو إسرائيل أمناء لإلههم سيكون لهم ترسا وحصنا . والخطة التي اقترحها بلعام كانت فصلهم عن الله بإغرائهم بالسجود للأوثان . فإذا أمكنهم إقناع بني إسرائيل بالاشتراك معهم في عبادتهم الخليعة للبعل وعشتاروت فإلههم وحارسهم القدير سينقلب عدوا لهم ، وسرعان ما يسقطون في أيدي الأمم الوحشية القوية المحيطة بهم . فاستحسن الملك هذه المشورة وبقي بلعام نفسه ليساعد في تنفيذها . AA 400.1

وقد شهد بلعام نجاح مؤامرته الشيطانية ، حيث رأى لعنه الله تنصب على شعبه ، وشاهد آلافا من الشعب يسقطون تحت ضربات الله وأحكامه . ولكن عدالة الله التي أوقعت القصاص على إسرائيل بسبب خطيتهم لم تسمح للمجرمين أن يفلتوا . ففي الحرب التي شنها إسرائيل على الموآبيين قتل بلعام . لقد سبق أن أحس في هواجسه أن نهايته قريبة حين صاح قائلا : ( لتمت نفسي موت الأبرار ، ولتكن آخرتي كآخرتهم ) ولكنه لم يختر أن يحيا حياة الأبرار فصار مصيره مع أعداء الله . AA 400.2

كأن مصير بلعام شبيها بمصير يهوذا ، إذ في أخلاقهما تشابه ملحوظ . فكل منهما حاول أن يجمع بين خدمة الله وخدمة المال ، وكلاهما انتهيا إلى فشل ذريع . لقد اعترف بلعام بالإله الحقيقي واعترف بأنه يخدمه ، وكذلك يهوذا آمن بالمسيح أنه مسيا وانضم إلى زمرة تابيعه ، ولكن بلعام يأمل أن يجعل خدمة الرب وسيلة للإحراز الغنى والكرامة العالمية . وإذ أخفق في هذا فقد عثر وسقط وتحطم . وكذلك توقع يهوذا أنه بانضمامه إلى جماعة المسيح سيحصل على الغنى والمركز الرفيع في المملكة العالمية التي كان يعتقد أن مسيا سيقيمها . فلما أخفق في آماله وتحطمت كل آماله ساقه ذلك إلى الارتداد والهلاك . إن كلا من بلعام ويهوذا قد حصل على نور عظيم وتمتع بامتيازات خاصة . ولكن خطية واحدة أبقياها وعززاها في قلبيهما سممت أخلاقهما وانتهت بهلاكهما . AA 400.3

من المخطر أن يسمح أي إنسان لأية خلة من الخلال غير المسيحية أن تعيش وتعشش في قلبه . إن خطية واحدة معززة يمكنها شيئا فشئيا أن تفسد الأخلاق وتخضع كل القوى النبيلة للشهوات الدنسة . إن إبعاد حارس واحد من حراس الضمير ، أو الانغماس في عادة واحدة شريرة أو إهمال مطلب واحد من مطاليب الواجب كاف لأن يحطم استحكامات النفس ويسقط حصونها ويفتح الطريق للشيطان ليدخل إلى قلوبنا ويضلنا . وأسلم مسلك نسلكه هو أن نرفع إلى الله الصلاة حارة من قلوب مخلصة كل يوم قائلين مع داوود : ( تمسكت خطواتي بآثارك فما زلت قدماي ) (مزمور 17 : 5) . AA 400.4

* * * * *