Go to full page →

الفصل السادس—شيث واخنوخ AA 60

---------------------

أعطي لآدم ابن آخر ليكون وارثا للوعد الإلهي ، وارثا للبكورية الروحية . إن معنى اسم شيث الذي أطلق على الابن هو «معين» أو«عوض» لأن أمه قالت « الله قد وضع لي نسلا آخر عوضا عن هابيل» لأن قايين كان قد قتله »(تكوين 4: 25) . وكان شيث أطول قامة من قايين وهابيل وأشد من أخويه شبها بأبيه ، وكان رجلا فاضلا ، سار في خطوات هابيل . أما في الأمور الطبيعية فلم يرث إمكانيات أفضل من قايين . قيل عن آدم حين خلق «على صورة الله خلقه»(تكوين 1 : 28) أما بعد السقوط فقد قيل عن بني الإنسان : « وولد ولدا على شبهه كصورته» ( تكوين 5 : 3) فمع أن آدم خلق بلا خطية ، على صورة الله ، فإن شيث ، كقايين ، ورث طبيعة أبويه الساقطة ، ولكنه هو أيضا حصل على معرفة الفادي والتعليم في البر . وبنعمة الله خدم الرب وأكرمه ، واجتهد ، كما كان يمكن أن يفعل هابيل لو عاش ، في رد قلوب الخطاة إلى إكرام الخالق وطاعته . AA 60.1

«ولشيث أيضا ولد ابن فدعا اسمه أنوش . حينئذ ابتدئ أن يُدعى باسم الرب» (تكوين 4 : 26) لقد كان الأمناء يعبدون الرب من قبل ، ولكن إذ تكاثر الناس ظهر الفارق بين الفريقين بأكثر وضوح ، فإن فريقا منهما اعترفوا علنا بولائهم لله ، أما الفريق الثاني فاحتقروا الله العلي وعصوه . AA 60.2

ولقد حفظ أبوانا الأولان السبت قبل السقوط ، إذ كان السبت قد أعطي لهما في جنة عدن . وحتى بعد طردهما من الجنة ظلا يقدسانه . لقد ذاقا ثمار العصيان المرة ، وتعلما ما لا بد أن يتعلمه كل من يدوس وصايا الله ، إن عاجلا أو آجلا ، وهو أن وصايا الله مقدسة وثابتة ، وأنه لا بد من وقوع القصاص على كل عصيان . ولقد حفظ السبت كل من ظلوا ثابتين على ولائهم لله من نسل آدم ، أما قايين ونسله فلم يحفظوا ذلك اليوم الذي استراح الله فيه ، بل اختاروا لأنفسهم الوقت الذي يحلو لهم للعمل والراحة ، دون ما AA 60.3

اعتبار لأمر الرب الواضح . AA 61.1

بعدما سمع قايين اللعنة التي أوقعهما الله عليه ، انسحب من بين عائلة أبيه . كان قد اختار حرفته أولا عاملا في الأرض ، وبنى مدينة ودعاها باسم ابنه الاكبر . لقد خرج من حضرة الرب ، وألقى بالوعد باسترجاع عدن بعيدا عنه ليبحث عن أملاكه وتمتعاته في الأرض تحت لعنة الخطية ، وهكذا صار رئيسا للجمهور العظيم من الناس الذين يتعبدون لإله هذا العالم . وفيما يختص بالأمور الأرضية والنجاح المادي اشتهر نسله ، ولكنهم كانوا عديمي الاكتراث له ومقاومين لمقاصده نحو الإنسان . وأضاف لامك ، الخامس من قايين ، إلى جريمة القتل التي كان قايين أول مرتكبيها ، تعدد الزوجات ، وفي تعديه وتفاخره اعترف بالله فقط ليستخرج من انتقامه لقايين ضمانا لسلامته هو ، أما هابيل فكان قد عاش عيشة هادئة ، سلكنا في خيام أو مظلات . واتبع نسل شيث مثال هابيل في ذلك إذ « أقروا بأنهم غرباء ونزلاء» إذ كانوا « يبتغون وطنا أفضل ، أي سماويا» (عبرانيين 11 : 13 ، 16 . AA 61.2

ظل الفريقان منفصلين بعض الوقت ، فنسل قايين انتشروا من مسكنهم الأول وتفرقوا في السهول والوديان حيث كان يعيش نسل شيث ، فلكي ينجو نسل شيث من عدوى هؤلاء القوم وتأثر أخلاقهم الشريرة نزحوا إلى الجبال وعاشوا هناك . وقد احتفظوا بعبادة الله في طهارتها ما ظل هذا الانفصال قائما ، ولكن بمرور الزمن بدأوا يجازفون قليلا قليلا للاندماج في سكان السهول حتى ، نتج عن هذا الاندماج أسوأ النتائج ، ذلك «أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات» (تكوين 6 : 2) فإذ اجتذب جمال بنات قايين أنظار أبناء شيث أسخطوا الله بسبب تزوجهم بهن ، وكثيرون من عبيد الله أغوتهم الإغراءات التي كانت أمام أنظارهم دائما لارتكاب الخطية ، وبذلك خسروا صفة القداسة التي كانت طابعهم الخاص . وإذا اندمجوا بالفاسدين صاروا مثلهم في روحهم وأعمالهم ، وعادوا لا يراعون مطاليب الوصية السابعة أو يتقيدون بها ، بل «اتخذوا لأنفسهم نساءً من كل ما اختاروا » (تكوين 6 : 2 ) إن أبناء شيث «سلكوا طريق قايين» (يهوذا 11) فلقد ركزوا تفكيرهم في النجاح المادي والتمتعات الخاطئة ، مهملين وصايا الرب . «لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم » «بل حمقوا في أفكارهم ، وأظلم قلبهم الغبي( لذلك «أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض» (رومية 1 : 21 ، 28) لقد انشترت الخطية في الأرض مثل برص مميت. AA 61.3

عاش آدم بين الناس ما يقرب من ألف سنة كشاهد لنتائج الخطية ، وبأمانة حاول أن يصد تيار الشر . لقد أمر بأن يعلم نسله طريق الرب ، وبكل حرص على كل ما أعلنه له الله واختزنه في قلبه ، وجعل يتلوه على الأجيال المتعاقبة من نسله ، فوصف لبنيه وبني بنيه حتى الجيل التاسع حالة الإنسان المقدسة السعيدة حين كان في الفردوس ، وتلا على مسامعهم تاريخ سقوطه ، وأخبرهم عن الآلام التي بواسطتها علمه الله ضرورة التمسك الشديد بشريعته ، كما أوضح لهم عن التدبير الرحيم الذي قد أعده لخلاصهم ، ومع ذلك فقليلون جدا هم الذين التفتوا إلى ما قال ، وفي غالب الأحيان كانوا يواجهونه باللوم والتقريع على خطيته التي جلبت على نسله كل تلك الويلات . AA 62.1

كانت حياة آدم حياة الحزن والاتضاع والانسحاق . ولما أخرج من عدن أزعجته فكرة كونه لا بد أن يموت ، فامتلأ قلبه رعبا . لقد اختبر حقيقة الموت في الأسرة البشرية يوم صار قايين ابنه البكر قاتلا لأخيه ، وإذ امتلأ قلبه ندامة مُرة على خطيته ، وشعر بحزن مضاعف على ابنه هابيل ، ولكون قايين قد رُفض انحنت نفسه تحت ضغط الحزن والألم . ولقد شهد انتشار الفساد المتفشي الذي كان سيسبب هلاك العالم بالطوفان ، ومع أن حكم الموت الذي كان جابله قد حكم به عليه ظهر مرعبا له في البداءة ، فإنه بعد ما شاهد نتائج الخطية لمدة تقرب من الألف سنة أحس أنها رحمة عظيمة من الله أن ينهي حياته المفعمة بالأحزان والآلام . AA 62.2

وبالرغم من شر الناس الذين عاشوا قبل الطوفان فإن ذلك العصر لم يكن عصر جهالة أو همجية كما ظن الناس طويلا ، فلقد أعطيت للناس فرصة لبلوغ مقياس أدبي وعقلي سام ، وكانت لديهم قوة عقلية وبدنية عظيمة كما كانت لديهم فرص لا تبارى للحصول على قدر كبير من المعرفة الدينية والعلمية . فمن الخطأ أن نظن أنه لكونهم عاشوا أعمار طويلة جاء نضج عقولهم متأخرا ، فإن قواهم العقلية نمت في بكور حياتهم ، والذين كان خوف الله في قلوبهم وعاشوا في وفاق مع إرادته ، واظبوا على الاستزادة من المعرفة والحكمة مدة حياتهم . ولو أجريت مقارنة بين العلماء الأفذاذ في هذه الأيام ومن عاشوا قبل الطوفان ممن كانوا في مثل أعمارهم لتبرهن ان علماء اليوم أدنى ، إلى حد بعيد ، في قواهم العقلية والجسمانية مما كان أولئك . وبقدر ما قصرت أيام حياة الإنسان وضعفت قواه الجسمية تضاءلت كذلك قواه العقلية . في هذه الأيام يعكف الناس على الدرس والتحصيل مدة عشرين إلى خمسين سنة ، فتملأ الدهشة العالم لكثرة ما قد أحرزوه ووصلوا إليه . ولكن ما أقل ما حصلوا عليه بالمقارنة مع ما حصل عليه أولئك الذين ظلت قواهم العقلية والجسمانية تنمو قرونا طويلة ؟ AA 62.3

صحيح أن أهل العصر الحاضر قد انتفعوا بما حصل عليه أسلافهم من اختبارات واكتشافات . إن أولئك الرجال ذوي العقول الجبارة الذين رسموا خططهم ودرسوا وكتبوا تركوا ثمرات جهودهم لمن جاءوا بعدهم ، ولكن حتى من هذه الوجهة ومن وجهة نظر المعرفة البشرية كم كانت امتيازات أولئك القوم الذين عاشوا في الأجيال السالفة أعظم بكثير مما هي في هذه الأيام . لقد كان بينهم ، لمئات السنين ، ذاك الذي خلق على صورة الله والذي قال عنه الخالق نفسه أنه «حسن» — الإنسان الذي علمه الله بكل حكمة تختص بالعالم المادي . لقد تعلم آدم من خالقه تاريخ الخلق ، وشاهد بعينيه ما حدث خلال تسعة قرون ، ونقل تلك المعرفة إلى نسله . لم تكن لدى الناس الذين عاشوا قبل الطوفان كتب ولا سجلات مكتوبة ، ولكن بسبب نشاطهم الجسماني والعقلي كانت لهم ذاكرة قوية لإدراك واستيعاب كل ما قد تعلموه ، وأمكنهم أن يسلموه لمن أتوا بعدهم سليما لم يعتره نقص ولا تحوير . ولمدة مئات السنين كانت هناك سبعة أجيال معاصرة لبعضها البعض على الأرض ، وكانت لهم الفرصة للتشاور معا ، وليستفيد كل منهم من معرفة الجميع واختبارهم . AA 63.1

وإن الامتياز الذي تمتع به الناس في ذلك العصر للحصول على معرفة الله عن طريق أعماله ليس له مثيل منذ ذلك الحين ، فبدلا من أن يكون ذلك التاريخ تاريخا مظلما من الوجهة الدينية كان عصر نور عظيم ، وكان لكل العالم فرصة تلقي النور والمعرفة من آدم . وأولئك الذين كانوا يخافون الله كان المسيح والملائكة يتولون أمر تعليمهم ، وكان لهم من جنة الله التي ظلت باقية بين الناس أجيالا طويلة شاهد صامت للحق . ولقد تجلى مجد الله عند باب الفردوس الذي كان يحرسه الكروبيم ، وكان العابدون الأولون يأتون إلى ذلك المكان ، فكانوا يبنون مذابحهم ويقدمون قرابينهم . إلى ذلك المكان أتى قايين وهابيل بتقدماتهما ، فتنازل الله ليتصل بهما . AA 63.2

ولم يستطع الإلحاد إنكار وجود جنة عدن التي كانت ترى رأي العين والملائكة يحرسون مدخلها . ثم أن نظام الخليقة والغاية من الجنة وتاريخ الشجرتين المغروستين فيها واللتين كانتا مرتبطتين بمصير الإنسان — كل هذه حقائق لا موضع للجدل فيها . كما أن وجود الله وسلطانه العظيم والتزام الإنسان بحفظ شريعته — كل تلك كانت حقائق لا مجال لأن يشك الناس فيها - طيلة ما كان آدم عائشا بينهم . AA 64.1

وبالرغم من انتشار الإثم فقد كان هنالك قافلة من القديسين الذين إذ عظمتهم ورفعت من شأنهم شركتهم مع الله عاشوا كعشراء السماء ، وكانوا ذوي عقول جبارة وإدارك عجيب ، وكانت لديهم رسالة عظيمة ومقدسة ، ألا وهي صوغ صفات البر ، وتعليم الناس مبادئ التقوى ، ليس فقط لمعاصريهم ، بل أيضا لأجل الأجيال اللاحقة. ومن بين أشهر القديسين ذكر عدد قليل في الكتاب المقدس . ولكن كان الله في كل جيل شهود أمناء من المتعبدين الكاملي القلوب . AA 64.2

وورد عن أخنوخ أنه عاش خمسا وستين سنة وولد ابنا ، وبعد ذلك سار مع الله ثلاث مئة سنة ، وفي خلال سني حياته الأولى أحب الله واتقاه وحفظ وصاياه . كان أخنوخ من نسل القديسين حافظي الإيمان القوميم أسلاف النسل الموعود به ، وسمع من فم آدم قصة السقوط المحزنة والخبر المفرح عن نعمة الله التي تجلت في الوعد ، فاعتمد على الفادي الآتي . ولكن بعدما ولد لأخنوخ ابنه البكر حصل على اختبار أسمى ، فلقد وصل إلى ثقة وثيقة في القرب من الله ، وتحقق ، بأكثر يقين ، من التزاماته ومسؤوليته كابن الله . وعندما رأى محبة الابن لأبيه وثقته البسيطة في حمايته ، وحينما شعر في قلبه بالشوق العميق والحنو العظيم نحو ابنه البكر ، تعلم درسا عظيما عن محبة الله العجيبة للناس في بذله ابنه، والثقة التي يمكن أولاد الله أن يضعوها في أبيهم السماوي . وأن محبة الله غير المحدودة في ابنه يسوع المسيح ، تلك المحبة التي لا يسبر غورها ، صارت موضوع تأمل أخنوخ نهارا وليلا ، وبكل غيرة مضطرمة في نفسه عول على أن يكشف للناس الذين عاش بينهم عن تلك المحبة العجيبة . AA 64.3

لم يكن سير أخنوخ مع الله في غيبة أو رؤيا ، بل في كل أعماله ووجاباته اليومية . لم يصبح ناسكا ولا حبس نفسه كلية عن العالم ، بل كان لديه عمل يعمله لله في العالم ، ففي عائلته وفي أحاديثه مع الناس ، وكزوج وأب وصديق ومواطن كان عبدا للرب أمينا وثابتا . AA 64.4

كان قلبه حسب إرادة الله ، لأنه «هل يسير اثنان معا إن لم يتواعدا ؟» (عاموس ٣: ٣) وقد ظل سائرا مع الله مدة ثلاث مئة سنة . قليلون من المسيحيين هم الذين لا يرغبون في أن يكونوا غيورين وحارين في عبادتهم وصلاتهم لو عرفوا أنهم لن يعيشوا طويلا ، أو أن مجيء المسيح قريب على الأبواب ، أما أخنوخ فقد صار إيمانه أقوى ومحبته أشد التهابا بمرور الأجيال . AA 65.1

كان أخنوخ رجلا ذا عقل قوي ، مهذبا تهذيبا عاليا وواسع الأفق في المعرفة ، وقد أكرمه الله بإعلانات خاصة ، ومع ذلك فلأنه كان في شركة مستمرة مع السماء ، يشعر شعورا عميقا دائما بعظمة الله وكماله كان من أكثر الناس وداعة واتضاعا، فكلما زاد اتصاله بالله زاد شعورا بضعفه هو ونقصه . AA 65.2

وإذ أزعجه تفاقم شرور الناس الفجار ، ولخوفه من أن يقلل إلحادهم من توقيره وإكرامه لله قلل من اجتماعه بهم وقضى وقتا طويلا منفردا مختليا للتأمل والصلاة ، وهكذا انتظر أمام الرب في طلب معرفة أوضح لإرادته ليتممها . وكانت الصلاة في نظره هي نسمة الحياة التي تتنسمها نفسه ، فلقد عاش في جو السماء . AA 65.3

وبواسطة الملائكة القديسين أعلن الله لأخنوخ قصده في إهلاك العالم بطوفان ، وبسط له ، بأكثر وضوح تدبير الفداء ، وبروح النبوة حمله عبر الأجيال التي كانت ستعيش بعد الطوفان ، وأراه الحوادث المتعلقة بالمجيء الثاني للمسيح وانقضاء العالم. AA 65.4

انزعج أخنوخ بالنسبة للأموات ، إذ تراءى له أن الأبرار والأشرار سيضمهم التراب معا ، وتكون هذه نهايتهم جميعا ، ولم يكن يعرف شيئا عن حياة الأبرار بعد القبر . ففي رؤيا نبوية تعلم أشياء خاصة بموت المسيح ، وأعلن له مجيئه ثانية في مجده مع جميع الملائكة القديسين ليفدي شعبه من القبر ، كما رأى حالة الفساد الذي سيكون سائدا في العالم حين يظهر المسيح ثانية — وأنه ليكون هنالك جيل متفاخر عات متكبر ينكر الإله الوحيد يسوع المسيح ، يدوس الشريعة ويحتقر الكفارة . ورأى الأبرار مكللين بالمجد والكرامة ، كما رأى الأشرار يطردون من حضرة الرب ليهلكوا في سعير النار . AA 65.5

وصار أخنوخ كارزا للبر ، فأخبر الناس بما قد أعلنه له الله . فالذين اتقوا الرب سعوا إلى هذا القديس ليستمعوا إلى تعاليمه وصلواته ، وأخذ هو يخدم الجمهور أيضا حاملا رسالة السماء لكل الراغبين في سماع الإنذارات ، ولم تقتصر خدماته على نسل شيث ، بل في الأرض التي حاول قايين فيها الهروب من وجه الرب هناك أيضا حدث نبي الله ذاك ( أخنوخ) كل الناس بالمناظر العجيبة التي كان قد رآها ، وأعلن قائلا : «هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه ، ليصنع دينونة على الجميع ، ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم » (يهوذا : 14 ، 15) . AA 66.1

وكان موبخا للخطية غير هياب ، وعندما كان يكرز بمحبة الله في المسيح لبني جنسه متوسلا إليهم أن يتركوا طرقهم الشريرة كان يوبخ الآثام المتفشية بينهم وينذر معاصريه بأن الدينونة ستحل بالعصاة ، ما من ذلك بد . لقد كان روح المسيح هو الذي تكلم على لسان أخنوخ ، وذلك الروح لا يعلن فقط في ألفاظ المحبة والرفق والتوسل ، لأن القديسين لا يتكلمون بالناعمات فقط ، بل إن الله يضع على ألسنة رسله وفي قلوبهم حقائق قاسية خارقة قاطعة كسيف ذي حدين لينطقوا بها . AA 66.2

أحس السامعون بقوة الله العاملة مع خادمه ، فالتفت بعضهم إلى الإنذار وتركوا خطاياهم ولكن الغالبية العظمى سخروا من تلك الرسالة الخطيرة وأوغلوا في طرقهم الشريرة بأعظم جرأة .على خدام الله أن يحملوا إلى العالم في هذه الأيام الاخيرة رسالة شبيهة برسالة أخنوخ ، ولا بد أن يقابلها العالم بعدم الإيمان والسخرية . لقد رفض الناس الذين عاشوا قبل الطوفان كلمات الإنذار التي فاه بها ذلك الرجل سار مع الله ، كذلك سيستخف الناس ، في هذه الأيام الاخيرة ، بإنذرات رسل الرب . AA 66.3

وفي غمره الحياة المزدحمة بالعمل النشيط داوم أخنوخ ، بكل ثبات ، على شركته مع الله . فكلما كثرت أعماله وضغطته واجباته ازداد غيرة وحرارة في صلواته . وفي بعض الأوقات استمر معتزلا المجتمع كله . فبعدما كان يقضي بعض وقته بين الناس معلما إياهم بأقواله ومثاله ، كان يعتزل ليقضي وقتا وهو منفرد وجائع وظامئ إلى تلك المعرفة الإلهية التي لا يعطيها أحد غير الله ، وإذ كان أخنوخ متمتعا بتلك الشركة الجميلة مع الله انعكست عليه صورة الرب ، فكان وجهه يلمع بنور مقدس ، وهو النور الذي يشع من وجه يسوع ، فلما كان يخرج من مخدع الشركة والصلاة ، كان الناس ، حتى الأشرار منهم ، يرون ، في رهبة ، صورة السماء منطبعة على وجهه . AA 66.4

لقد بلغ شر الناس إلى عنان السماء حتى لقد حكم عليهم بالهلاك . وبمرور السنين انحدر الناس في جرائمهم وشرورهم إلى أحط الدركات ، فبدأت سحب دينونة الله تتجمع في أفق أولئك القوم . ومع ذلك فإن أخنوخ ، الشاهد الأمين ، ظل سائرا في طريقه منذرا الناس ومحاجّا ومتوسلا محاولا أن يصد تيار الجرائم ليحول دون انسكاب جامات النقمة . ومع أن الناس الخطاة ، محبي المسرات والملذات ، استخفوا بإنذاراته فقد قدم الشهادة التي سر بها الله واستمر بكل أمانة يناضل ضد الشرور المتفشية بين الناس حتى نقله الله من عالم الخطية والإثم إلى سماء الفرح والقداسة . AA 67.1

إن أهل ذلك العصر سخروا من جهالة ذلك الذي لم يحاول أن يجمع لنفسه فضة أو ذهبا أو يبني لنفسه بيوتا وتكون له ثروة . ولكن أخنوخ وضع قلبه على الكنوز الأبدية الباقية . كان ينتظر المدينة السماوية ، ولقد رأى الملك ، رب الجنود ، في مجده في وسط صهيون ، وكان فكره وقلبه وسيرته وحديثه في السماء . وعلى قدر ما تفاقمت آثام الناس التهب قلبه شوقا إلى مسكن الله . ومع أنه كان لا يزال على الأرض فبالإيمان كان يسكن في ديار النور . AA 67.2

«طوبى للأنقياء القلب ، لأنهم يعاينون الله» (متى 5 : 8 ) . لمدة ثلاث مئة سنة كان أخنوخ يطلب طهارة النفس ليكون على وفاق مع السماء ، ولمدة ثلاثة قرون سار مع الله ، ومن يوم إلى يوم كان يتوق إلى اتحاد أوثق بالله ، ولكن في شركته مع الله يزداد قربا منه حتى أخذه الله إليه . لقد وقف على أعتاب العالم الأبدي ، ولم يكن بينه وبين موطن المباركين غير خطوة واحدة ، والآن هوذا قد فتحت الأبواب ، فظل سائرا في ذلك الطريق الذي كان قد قطع فيه شوطا بعيدا حتى دخل من أبواب المدينة المقدسة — وكان أول إنسان دخل إلى هناك . AA 67.3

أحس سكان الأرض بالخسارة بعد انتقاله ، وسكت ذلك الصوت الذي طالما ارتفع منذرا ومعلما . إن بعضا من الأبرار والأشرار شاهدوه عند ارتحاله ، وإذ كان بعض محبيه يؤملون أنه ربما يكون قد حمل إلى أحد الأماكن التي كان يعتكف فيها جعلوا يفتشون عنه باجتهاد ، كما فتش بنو الأنبياء عن إيليا بعد ذلك ، ولكن بلا جدوى ، فأخبروا الناس قائلين أنه لم يوجد لأن الله نقله . AA 67.4

أراد الله بنقل أخنوخ إليه أن يعلمنا درسا هاما . كان هنالك خطر من أن الناس قد تثبط هممهم بسبب النتائج المخيفة لخطية آدم ، فقد يصرخ كثيرون قائلين : «ما الفائدة من أننا اتقينا الله وحفظنا وصاياه مادام أن لعنة ثقيلة حالة على الجنس البشري كله ، والموت هو نصيب كل الناس ؟» ولكن التعليمات التي أعطاها الله لآدم ، ورددها شيث وعاشها أخنوخ طردت الظلمات الحالكة ومنحت الإنسان الرجاء ، حتى كما في آدم أتى الموت كذلك في الفادي الموعود به تأتي الحياة والخلود . لقد حاول الشيطان أن يقنع الناس بأنه لا ثواب للأبرار ولا عقاب على الأشرار ، وأنه يستحيل على الناس أن يحفظوا وصايا الله . ولكن في حادث أخنوخ أعلن الله « أنه موجود ، وأنه يجازي الذين يطلبونه» (عبرانيين 11 : 6 ) وهو يرينا ما سيفعله لحافظي وصاياه . وقد تعلم الناس أنه يمكنهم حفظ وصايا الله ، وأنه حتى لو عاش الإنسان بين الأثمة والفاسدين يستطيع ، بالاتكال على نعمة الله ، أن يقاوم التجربة ويصير طاهرا وقديسا ، ورأوا ذلك في حياة أخنوخ. وكان صعوده برهانا على صدق نبوته بخصوص الأبدية بما يشملها من ثواب الفرح والمجد والحياة الأبدية لمن يطيعون ، والدينونة والموت والويلات للعصاة . AA 68.1

«بالإيمان نقل أخنوخ لكي لا يرى الموت ، ولم يوجد لأن الله نقله . إذ قبل نقله شهد له بأنه قد أرضى الله » (عبرانيين 11 : 5) ففي وسط عالم مليء بالإثم محكوم عليه بالهلاك عاش أخنوخ حياة الشركة الوطيدة مع الله حتى لم يسمح له أن يقع في قبضة الموت. إن صفة التقوى التي كانت لهذا النبي تمثل لنا حالة القداسة التي ينبغي أن يصل إليها الذين « اشتروا من الأرض» (رؤيا 14 : 3) في مجيء الرب ثانية . وكذلك فكما كانت الحال قبل الطوفان هكذا عند مجيء الرب سيعم الإثم كل مكان ، فإذ يخضع الناس لأميال قلوبهم الشريرة والتعاليم الفلسلفية الكاذبة سيتمردون على سلطان السماء . لكن شعب الله سيسعون ، كأخنوخ ، إلى نقاوة القلب والخضوع لمشيئة الرب ، حتى ينعكس عليهم شبه المسيح . وكأخنوخ سينذرون العالم بمجيء الرب ثانية وبالدينونة التي ستحل بالعصاة . وبسيرتهم المقدسة ومثالهم الصالح سيدينون خطايا الأشرار . وكما نقل أخنوخ إلى السماء قبلما هلك العالم بالطوفان فكذلك الأبرار الأحياء سينقلون من الأرض قبل هلاكها بالنار . يقول الرسول : «لا نرقد كلنا ، ولكننا كلنا نتغير ، في لحظة في طرفة عين ، عند البوق الأخير»(1 كورنثوس 15 : 51 ، 52) « لأن الرب نفسه بهتاف ، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله ، سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا ، ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء ، وهكذا نكون كل حين مع الرب . لذلك عزوا بعضكم بعضا بهذا الكلام» (تسالونيكي الأولى 4 : 16 — 18) . AA 68.2

*****