لقد أعلنت الحرب ثانية بين إسرائيل والفلسطينيين ، ( فاجتمع الفلسطينيون وجاءوا ونزلوا في شونم ) عند الحدود الشمالية لسهل يزرعيل ، أما شاول وجيشه فقد عسكروا على مسافة أميال قليلة من هناك عند سفح جبل جلبوع عند الحدود الجنوبية لذلك السهل . في هذا السهل استطاع جدعون هو والثلاث مئة رجل الذين كانوا معه أن يطردوا جيوش مديان . ولكن الروح الذي ألهم قاضي إسرائيل ومخلصه كان يختلف اختلافا بينا عن الروح الذي أثار قلب الملك . لقد خرج جدعون قويا بإيمانه بعزيز يعقوب ، أما شاول فقد أحمس بأنه وحيد وبلا حماية لأن الـلــه قد تركه . ولما رأى شاول جيش الفلسطينيين من بعد ، )خاف واضطرب قلبه جــداً ) (انظر 1 صموئيل 28 ، 31) . AA 607.1
كان شاول قد علم أن داود وجيشه كانوا مع الفلسطينيين وكان يتوقع أن ابن يسى سينتهز هذه الفرصة لينتقم لنفسه عن المظالم التي قد قاساها ، فكان الملك في كرب وضيق عظيم . إن غضبه غير المعقول الذي أثاره على مختار الرب لإهلاكه هو الذي أوقع الأمة في ذاك الخطر الهائل . فإذ كان منهمكا في مطاردة داود أغفل أمر تحصين مملكته والدفاح عنها . وإذ استفاد الفلسطينيون من نقص استحكامات مملكة إسرائيل توغلوا في قلب تلك البلاد . وهكذا بينما كان الشيطان يثير شاول لبذل كل قواه ونشاطه في مطاردة داود لإهلاكه فنفس تلك الروح الوبيلة أوعزت إلى الفلسطينيين أن يغنموا تلك الفرصة لإهلاك شاول والقضاء على شعب الـلــه . ما أكثر ما يتبع الخصم الأعظم هذه السياسة نفسها ! إنه يحوم حول أي قلب غير مكرس ليلهبه بإثارة الحسد والخصومة والنزاع في الكنيسة ، وكذلك لكي يستفيد من الانقسام المتفشي بين أبناء الـلــه يثير قواته شعب الرب . AA 607.2
كان على شاول أن ينازل الفلسطينيين في المعركة غداة اليوم التالي ، ولكن انعقدت في سماء حياته غيوم قاتمة تنبئ بهلاكه المحتوم . لقد كان يتوق إلى العون والإرشاد إلا أنه عبثا كان يطلب مشورة الـلــه ، ( لم يجبه الرب لا بالإحلام ولا بالأوريم ولا بالأنبياء ) إن الرب لم يطرح قط خارجا أي نــفـــس أتت إليه في إخلاص ووداعة . إذا فلماذا ترك شاول دون أن يعطيه جوابا ؟ إن الملك بنفسه وبعمله كان قد أضاع حقه في الانتفاع بكل الوسائل التي كان يمكنه أن يسأل الـلــه بها ، إذ رفض مشورة صموئيل النبي ، ونفي داود مختار الـلــه ، وقتل كهنة العلي . فهل كان ينتظر بعد كل هذا أن يجيبه الـلــه في حين أنه قد طم كل قنوات الاتصال التي قد رسمتها السماء ؟ لقد طرد روح النعمة بخطيته فهل يجاب بواسطة الأحلام أو الإعلانات الإلهية ؟ إن شارل لم يرجع إلى الـلــه متذللا تائبا ، ولم يطلب غفرانا لخطيته ولا مصالحة مع الـلــه بل طلب الخلاص من أعدائه . حيث بعناده وتمرده فصل نفسه عن الـلــه لا يمكن أن يكون هنالك رجوع حقيقي إلى الـلــه إلا بالتوبة والانسحاق . ولكن ذلك الملك المتكبر في حزنه ويأسه عول على أن يطلب المعونة من مصدر آخر . AA 608.1
( فقال شاول لعبيده : فتشوا لي على امرأة صاحبة جان ، فأذهب إليها وأسألها ) . لقد كان شاول على علم تام بصفة العرافة ، إذ حرم الـلــه استخدام الجان والسحر والعرافة تحريما قاطعا باتا وكان يحكم بالموت على من يمارسون تلك الأعمال النجسة . وفي أيام صموئيل أمر شاول بقتل كل التوابع وأصحاب الجان . أما الآن ففي اندفاع الياس لجأ شاول إلى العرافة التي كان قد حكم عليها بأنها رجس من عمل الشيطان . AA 608.2
وقد قيل للملك إن في عين دور امرأة صاحبة جان متخفية ، وكانت تلك المرأة قد دخلت في عهد مع الشيطان على أن تسلم نفسها لسلطانه وتتمم مقاصده ، وفي مقابل ذلك صنع سلطان الشر عجائب لأجلـــها ، وأعلن لها الأسرار . AA 608.3
خرج شاول ليك متنكرا يتبعه خادمان للبحث عن موطن تلك الساحرة . آه يا له من منظر يرثى له ! أن يقود الشيطان ملك إسرائيل أسيرا له متمما إرادته ! فأي طريق مظلم يمكن أن يسر فيه أي إنسان كهذا الطريق الذي قد اختاره ذاك الذي أصر على السير في طريقه الخاص مقاوما تـأثـيــر روح الـلــه القدوس ! وأية عبودية أقسى من عبودية ذاك الذي أسلم نفسه لسلطان أقسى الطغاة أي ذاته ! لقد كان الاتكال على الـلــه والطاعة لمشيئته الشرطين الوحيدين اللذين بموجبهما يكون شاول ملكا على إسرائيــل . فلو كان أذعن لهذين الشرطين في إبان سني ملكه لثبت له الملك وكان الـلــه يصير له مرشـدا ومشيرا . وكان القدير يصير له ترسا . لقد احتمل الـلــه شاول طويلا ، ومع أن تمرده وعناده كادا يسكتان صوت الـلــه في نفسه فقد كان لم يزل لديه مجال للتوبة . ولكنه حين ارتد عن الـلــه في وقت الخطر ليحصل على نور وإرشاد من إحدى حليفات الشيطان قطع آخر صلة تربطه بجابله ، فأسلم نفسه كليا لسلطان تلك القوة الشيطانية التي كانت تنتابه لسنين ، والتي أوقفته على حافة هاوية الهلاك . AA 608.4
سار شاول وغلاماه في ذلك السهل تحت جنح الظلام وبعدما مروا بجيش الفلسطينيين بسلام اجتازوا حافة الجبل ، إلى المسكن المنعزل الذي كانت تعيش فيه ساحرة عين دور . في هذا المكان كانت تختبئ تلك المرأة صاحبة الجان لتدأب في ممارسة تعاويذها الرجسة سرا . ومع أن شاول كان متنكرا إلا أن طول قامته وهيئته الملكية دلا على أنه لس جنديا عاديا . وقــد ارتابت المرأة في أن زائرها ربما يكون هو شاول ، وقوت عطاياه السخية في نفسها تلك الشكوك . فلما طلب منها قـائــلاً ( اعرفي لي بالجان وأصعدي لي من أقول لك ) أجابته قائلة : ( هوذا أنت تعلم ما فعل شاول ، كيف قطع أصحاب الجان والتوابع من الأرض . فلماذا تضع شركاً لنفسي لتميتها ؟ ) فحلف لها شاول بالرب قـائــلاً : ) حي هو الرب ، إنه لا يلحقك إثم في هذا الأمر ) فلما سألته قائلة : ( من أصعد لك ؟ ) أجابها قائلاً : )صموئيل) . AA 609.1
فلما بدأت تنطق بتعاويذها قالت : ( رأيت آلهة يصعدون من الأرض ... رجل شيخ صاعد وهو مغطى بجبه . فعلم شاول أنه صموئيل ، فخر على وجهه إلى الأرض وسجد ) . AA 609.2
إن الذي صعد على أثر نطق تلك الساحرة بتعاويذها لم يكن نبي الـلــه القديس ، إذ أن صموئيل لم يكن حاضرا في ذلك البيت الذي كانت تسكنه الأرواح الشريرة . إن تلك الهيئة الفائقة الطبيعة أخرجت بقوة الشيطان دون سواه . لقد أمكنه أن يتخذ هيئة صموئيل بنفس السهولة التي بها غير شكله إلى ملاك نور عندما جرب المسيح في البرية . AA 609.3
إن أول ما قـــالته المرأة وهي تنطق بتعاويذها كان موجها إلى الملك إذ قالت له : ( خدعتني وأنت شاول ) . وهكذا كان أول ما عمله ذلك الروح النجس الذي اتخذ هيئة النبي أن تحدث مع تلك المرأة الشريرة سرا محذرا إياها من الخداع الذي انطلى عليها . وقــد كانت الرسالة التي نطق بها ذاك الذي اتخذ هيئة النبي غير الحقيقي إلى شاول هي هذه ( لماذا أقلقتني بإصعادك إياي ؟ ) فقال شاول : ( قد ضاق بي الأمر جداً . الفلسطينيون يحاربونني ، والرب فارقني ولم يعد يجيبني لا بالأنبياء ولا بالأحلام . فدعوتك لكي تعلمني ماذا أصنع ) . AA 609.4
لما كان صموئيل حيا كان شاول يحتقر مشورته ويحقد عليه بسبب توبيخاته . أما الآن في ساعة الضيق والبلية فقد أحس بأن مشورة النبي وإرشاداته هي رجاؤه الوحيد ، ولكي يتحدث مع رسول السماء لجأ عبثا إلى رسول الجحيم ! لقد أسلم شاول نفسه بكليتها إلى يد الشيطان . والآن فهوذا ذاك الذي يفرح ويسر ، بالأكثر ، بجلب التعاسة والهلاك على الناس يبذل قصاراه لإهلاك ذلك الملك التعس . وقــد جاءت هذه الرسالة المرعبة جوابا على توسل ذلك الملك الحزين المر النــفـــس ، ادعاء أنها من صموئيل تقول : AA 611.1
( ولماذا تسألني والرب قد فارقك وصار عدوك ؟ وقد فعل الرب لنفسه كما تكلم عن يدي ، وقد شق الرب المملكة من يدك وأعطاها لقريبك داود . لأنك لم تسمع لصوت الرب ولم تفعل حمو غضبه في عماليق ، لذلك قد فعل الرب بك هذا الأمر اليوم . ويدفع الرب إسرائيل أيضاً معك ليد الفلسطينيين . وغدا أنت وبنوك تكونون معي ، ويدفع الرب جيش إسرائيل أيضاً ليد الفلسطينيين ) . AA 611.2
إن شارل مدة سني عصيانه كلها كان الشيطان يتملقه ويخدعه . وعمل المجرب هو أن يقلل ويهون من شأن الخطية وخطرها ليجعل طريق العصيان سهلا ومغريا ، كما أنه يعمي العقل عن الاتنباه إلى إنذارات الرب وتهديداته ، فالشيطان بقوته الساحرة قاد شاول إلى تبرير نفسه متحديا إنذارات صموئيل وتوبيخاته . أما الآن فإنه في كربه العظيم وحاجته القصرى انقلب عليه ، مبينا له هول خطيته ، وقضى على كل أمل في الغفران ليسوقه إلى اليأس . ولم يكن هنالك شيء أفضل من هذا للقضاء على شجاعة الملك ، وإرباك عقله ، وسوقه إلى اليأس وإهلاك نفسه بنفسه . AA 611.3
لقد خارت قوة شاول من إثر الإعياء والصوم ، وكان مرتعبا إذ ضربه قلبه وضميره . وإذ وقع على مسمعه نبأ هلاكه المخيف تمايل جسمه كشجرة في مهب الريح وسقط على طوله إلى الأرض . AA 611.4
عند ذلك امتلأت قلب تلك الساحرة رعبا . ها هو ملك إسرائيل منطرح أمامها كميت . فلو هلك في بيتها ماذا يحدث لها ؟ لذلك توسلت إليه أن يقوم ويتناول طعاما ، وقد ألحت عليه في ذلك قائلة حيث أنها قد خاطرت بحياتها ، إذ أجابته إلى طلبه ، فعليه ان يجيبها إلى طلبها للإبقاء على حياته . وإذ اشترك عبداه مع المرأة في توسلاتها أجباهم شاول أخيرا إلى طلبهم فأسرعت المرأة ووضعت أمام الملك عجلها المسمن وفطيرا كانت قد صنعته بعجلة . يا له من منظر . ففي تلك المغارة الموحشة مغارة الساحرة التي منذ قليل رن فيها صوت الحكم عليه بالهلاك - وفي محضر رسول الشيطان - نرى ذلك الممسوح ملكا على اسرائيل جالسا يأكل استعدادا للمعركة الدامية التي كانت ستنشب في النهار التالي . AA 611.5
وقبل بزوغ الفجر عاد الملك وعباده معه إلى معسكر إسرائيل ليتأهب للقتال . إن شاول باستشارته روح الظلام ذاك أهلك نفسه . فإذ كان منسحقا من هول اليأس أمسى من المستحيل عليه أن يلهم رجال جيشه بالشجاعة . وبما أنه كان منفصلا عن نبع القوة لم يستطع أن يوجه عقول رجال إسرائيل لينظروا إلى الله كمعينهم . وهكذا فإن تنبؤ الشر يعمل على تدمير نفسه. AA 612.1
التحم جيشا إسرائيل والفلسطينيين قي قتال مميت في سهل شونم وعلى سفح جبل جلبوع . ومع أن المنظر المخيف الذي كان الملك قد رآه في ذلك الغار في عين دور قد انتزع من قلبه كل رجاء فقد حارب بشجاعة يائسة لأجل عرشه ووملكته . إلا أن ذلك كله كان عبثا ، إذ ( هرب رجال إسرائيل من أمام الفلسطينيين وسقطوا قتلى في جبل جلبوع ) وسقط ثلاثة من بني شاول الشجعان قتلى إلى جانبه ، ثم حمل الرماة حملة شعواء على شاول الذي رأى رجال حربه يسقطون أمامه كما رأى بنيه الأمراء يقعون بفم السيف . ولما جرح شاول لم يستطع مواصلة الحرب ولا أمكنه الهرب ، لأن الهرب كان مستحيلا . وإذ عزم على ألا يقع حيا بين أيدي الأعداء أمر حامل سلاحه قائلا : ( استل سيفك واطعني به ) فلما أبى ذلك الرجل أن يمد يده إلى مسيح الرب قضى شاول على حياته بنفسه إذ أخذ سيفه وسقط عليه . AA 612.2
وهكذا هلك أول ملوك إسرائيل ويداه ملطختان بجريمة الانتحار . لقد كانت حياته فاشلة ، فانحدر إلى الهاوية مجللا بالعار واليأس ، لأنه بإرادته الفاسدة تحدى الله ورفض إتمام إرادته. AA 612.3
وقد انتشرت أنباء الهزيمة في كل مكان حاملة الرعب لشعب إسرائيل . فهرب الشعب من مدنهم فجاء الفلسطينيون وامتلكوها بدون منازل . إن استقلال شاول بالحكم عن الله كاد يفضي إلى هلاك شعبه . AA 612.4
وفي اليوم التالي للمعركة إذ كان الفلسطينيون يفحصون ساحة القتال ليعروا القلتي (لينهبوهم) وجدوا جثث شاول وبنيه الثلاثة . ولكي يكمل انتصارهم قطعوا رأس شاول وجردوه من سلاحه . ثم أخذ رأسه وسلاحه ، الملطخان بالدماء ، إلى بلاد الفلسطينيين تذكارا لانتصارهم . ( لأجل التبشير في بيت أصنامهم وفي الشعب ) . وقد وضع سلاح شاول أخيرا في ( بيت عشتاروث ) ، أما رأسه فقد سمروه على هيكل داجون . وهكذا نسب مجد انتصارهم لقوة تلك الآلهة الكاذبة . اما اسم الرب فقد أهين . AA 613.1
وقد سحبت جثة شاول وجثث بنيه إلى بيت شان وهي مدينة غير بعيدة عن جلبوع بالقرب من نهر الأردن . وكانت تلك الجثث مقيدة بسلاسل حتى تأتي الطيور الجارحة وتلتهمها . ولكن رجال يابيش جلعاد الشجعان إذ ذكراو كيف أن شاول قد خلصهم وخلص مدينتهم في بدء سني حكمه السعيدة أظهروا شكرهم له إذ أنقذوا جسد الملك وأجساد الأمراء ودفنوها بكل إكرا م . وإذ عبروا الأردن ليلا ( أخذوا جسد شاول وأجساد بنيه عن سور بيت شان , وجاءوا بها إلى يابيش وأحرقوها هناك . وأخذوا عظامهم ودفنوها تحت الأثلة في يابيش وصاموا سبعة أيام ) وهكذا فإن ذلك المعروف ولذك العمل النبيل الذي قام به شاول نحوهم منذ أربعين عاما مضت جعل أولئك الناس يدفنون جسد شاول وأجساد بنيه بكل رقة وإشفاق ، في تلك الساعة المظلمة ساعة الهزيمة والعار . AA 613.2
* * * * *