حالما تثبت داود ملكا على عرش إسرائيل بدأ يبحث عن موقع أكثر مناسبة ليكون عاصمة مملكته . وعلى بعد 20 ميلا من حبرون اختير مكان لعاصمة المملكة العتيدة . وقبلما قاد يشوع جيوش إسرائيل عبر الأردن ، كان ذلك المكان المختار يدعى ساليم ، وبالقرب من هذا المكان برهن إبراهيم على ولائه لله ، وكان موطن ملكي صادق كاهن الله العلي قبل تتويج داود بثمان مئة سنة ، وكذلك كان موقعا متوسطا ومرتفعا في البلاد ومحصنا بالجبال المحيطة به . وبما أنه على الحدود بين بنيامين ويهوذا ، كان قريبا من أفرايم ، وكان من السهل الوصول منه إلى الأسباط الأخرى. AA 633.1
ولكي يمتلك العبرانيون هذا الموقع كان عليهم أن يطردوا منه من بقوا من الكنعانيين الذين كانوا يحتلون مركزا حصينا على جبال صهيون والمريا . وكان هذا الحصن يسمى يبوس ، وسكانه يدعون اليبوسيين . ولمدة قرون كانت يبوس تعتبر حصنا منيعا لا يمكن اقتحامه . ولكن العبرانيين حاصروه وامتلكوه تحت قيادة يوآب الذي كوفئ على شجاعته بأن صار قائدا لجيوش إسرائيل . والآن صارت يبوس العاصمة القومية وتغير اسمها الوثني إلى أورشليم. AA 633.2
إن حيرام ملك صور المدينة الغنية والواقعة على البحر الأبيض المتوسط طلب الآن أن يدخل في معاهدة مع ملك إسرائيل . وقد أعان داود في تشييد قصر في أورشليم . ثم أرسل سفراء من صور ومعهم مهندسون وعمال وقوافل كثيرة محملة من الخشب الثمين وشجر الأرز ومواد أخرى نفيسة . AA 633.3
إن قوة إسرائيل المتزايدة باتحادهم في ظل ملك داود ، واستيلائهم على حصن يبوس ، والمحالفة التي أبرمت مع حيرام ملك صور — كل هذه أثارت عداء الفلسطيين ، ومرة أخرى غزو البلاد بجيش قوي واتخذوا مركزهم في وادي الرفائيين ، على مسافة قصيرة من أورشليم فلجأ داود ورجاله إلى حصن صهيون ، منتظرين توجيهات الله ( وسأل داود من الرب قائلا : « أأصعد إلى الفلسطينيين ؟ أتدفعهم ليدي ؟ فقال الرب لداود : اصعد ، لأني دفعا أدفع الفلسطينيين ليدك »( (2 صموئيل 5 : 17 — 25) . AA 633.4
وفي الحال زحف على الأعداء وهزمهم وأهلكهم وأخذ منهم الآلهة التي كانوا قد أحضروها معهم لضمان انتصارهم . وإذ اغتاظ الفلسطينيون بسبب مذلة انكسارهم جمعوا جيشا أعظم ورجعوا للحرب ، ومرة ثانية ( انتشروا في وادي الرفائيين ) ثم طلب داود الرب أيضا فاقتاد ( اهيه ) العظيم إسرائيل . AA 634.1
وقد أعلم الله داود قائلا : ( لا تصعد بل در من ورائهم ، وهلم عليهم مقابل الأشجار البكا ، وعندما تسمع صوت خطوات في رؤوس أشجار البكا ، حيئنذ احترص ، لأنه إذ ذاك يخرج الرب أمامك لضرب محلة الفلسطينيين ) لو كان داود قد اختار طريقه الخاص كشاول لما كان الفوز قد حالفه ، ولكنه فعل كما أمره الرب ، ( وضربوا محلة الفلسطينيين من جبعون إلى جازر . وخرج اسم داود إلى جميع الأراضي ، وجعل الرب هيبته على جميع الأمم ) (أخبار الأيام الأول 14 : 16 ، 17) . AA 634.2
أما الآن وقد تثبت داود على عرشه ونجا من غارات الأعداء الغرباء فقد قصد أن يعمل عملا طالما تاقت نفسه إلى إنجازه - وهو أن يأتي بتابوت الله إلى أورشليم . ظل التابوت سنين طويلة في قرية يعاريم التي تبعد عن أورشليم مسافة تسعة أميال . ولكن كان من اللازم أن تمتاز عاصمة الدولة بوجود رمز حضورالله فيها . AA 634.3
دعا داود ثلاثين ألف من منتخبي إسرائيل ، لأن غرضه كان أن يجعل تلك المناسبة فرصة يتجلى فيها الفرح العظيم والاستعراض المهيب الجليل . وقد استجاب الشعب للنداء بفرح فاجتمع رئيس الكهنة مع زملائه في الخدمة المقدسة والرؤساء وشيوخ الأسباط في قرية يعاريم . وكان داود متوقد القلب بالغيرة المقدسة ، وقد أخرج التابوت عن بيت أبيناداب ووضع على عجلة جديدة تجرها الثيران ، وكان اثنان من أبناء أبيناداب مسؤولين عنها . AA 634.4
فتبع رجال إسرائيل التابوت وهم يهتفون هتافات الطرب وينشدون أناشيد الفرح وقد اشترك في التسبيح كثيرون وكانت تصحبهم أصوات الموسيقى ) وداود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب ... بالعيدان وبالرباب وبالدفوف وبالجنوك وبالصنوج ) (انظر 2 صموئيل 6) منذ عهد بعيد لم يشهد إسرائيل منظر انتصار كهذا المنظر . وبفرج مهيب سار ذلك الموكب العظيم متعرجا بين التلال وعبر الوديان نحو المدينة المقدسة . AA 634.5
ولكن ) ولما انتهوا إلى بيدر ناخون مد عزة يده إلى تابوت الله وأمسكه ، لأن الثيران انشمصت . فحمي غضب الرب على عزة ، وضربه الله هناك لأجل غفله ، فمات هناك لدى تابوت الله ( فأصاب تلك الجموع المتهللة رعب مباغت ، واندهش داود وارتعت جدا ، ودخل إلى قلبه الشك في عدالة الله . كان عزة يريد أن يكرم التابوت كرمز للحضور الإلهي ، فلماذا إذا ارسل ذلك القضاء المخيف الذي أحال موسم الفرح إلى حالة حزن ونوح ؟ وإذ أحس داود أنه لا يأمن أن يكون التابوت قريبا منه عول على إبقائه حيث كان . فأعد له مكان في بيت عوبيد أدوم الجتي . AA 635.1
كان موت عزة قضاء إلهيا على الانتهاك لوصية واضحة كل الوضوح ، لأن الرب أعطى بواسطة موسى تعليما خاصا عن كيفية نقل التابوت . فلم يكن يسمح لأحد غير الكهنة نسل هارون أن يمسه أو يكشف عنه الغطاء وينظر إليه . وهذا ما أمر به الله ) يأتي ... بنو قهات للحمل ولكن لا يمسو القدس لئلا يموتوا ) (عدد 4 : 15) كان على الكهنة أن يغطوا التابوت وبعد ذلك يرفعه القهاتيون بالعصوين اللتين كانتا موضوعتين في حلقات على كل من جانبي التابوت ولم تنزعا منها قط . لقد أعطي موسى لبني جرشون وبني قهات وبني مراري الذين كانوا مسؤولين عن سجف الخيمة وألواحها وأعمدتها ، عجلات وثيرانا لنقل ماكان في عهدتهم ) أما بنو قهات فلم يعطهم ، لأن خدمة القدس كانت عليهم ، على الأكتاف كانوا يحملون ) (عدد 7 : 9) وهكذا عند نقل التابوت من قرية يعاريم كان ثمة استخفاف مباشر بإرشاد الرب لا يعذر . AA 635.2
كان داود وشعبه قد اجتمعوا للقيام بعمل مقدس ، واشتركوا فيه بفرح وقلوب راغبة ، ولكن الرب لم يمكنه قبول خدمتهم لانهم لم يقوموا بها طبقا لتوجيهاته . إن الفلسطينيين الذين لم يكونوا يعرفون شيئا عن شريعة الله ، وضعوا التابوت على عجلة عندما أعادوه إلى إسرائيل وقد قبل الرب مسعاهم الذي بذلوه . أما الإسرائيليون فقد كان بين أيديهم بيان صريح عن إرادة الله في كل هذه الأمور ، فإهمالهم لهذه التعليمات كان مهينا لله . وقد وقع على عزة الوزر الأكبر وزر التصلف . إن تعديه شريعة الله قلل من شعوره بقداستها ، وإذ كان مثقلا بخطايا لم يعترف بها . وفي مواجهة النهي الإلهي ، تجاسر فلمس رمز حضور الله . إن الله لا يمكنه أن يقبل طاعة ناقصة ، ولا تصرفا متراخيا في وصاياه . فهذا الحكم الذي وقع على عزة قصد به الرب أن يطبع على عقول كل شعب إسرائيل وقلوبهم ، وجوب التدقيق الشديد في مراعاة مطاليبه . وهكذا فموت عزة ذلك الرجل الواحد بقيادته الشعب إلى التوبة أمكن أن يمنع وجوب وقوع أحكام كثيرة على الألوف . AA 635.3
وإذ أحس داود بأن قلبه لم يكن مستقيما كليا مع الله ورأى تلك الضربة تصيب عزة ، خاف من التابوت لئلا تجلب عليه إحدى خطاياه أحكاما . ولكن عوبيد أدوم مع كونه فرح برعدة فقد رحب بذلك الرمز المقدس الذي هو ضمان رضى الله عن المطيعين . وقد اتجه انتباه كل شعب إسرائيل الآن إلى هذا الجتي وبيته ، وكان الجميع يرقبون كيف تسر أمور هذا البيت . ( وبارك الرب عوبيد أدوم وكل بيته ) . AA 636.1
وقد أتم توبيخ الله لدواود عمله . فساقه ما حدث إلى أن يدرك ما لم يدركه من قبل — قدسية شريعة الله وضرورة إطاعتها طاعة كاملة . هذا وإن رضى الله الذي قد أغدقه على بيت عوبيد أدوم يرجو مرة أخرى أن يجلب التابوت بركة عليه وعلى كل شعبه . AA 636.2
وبعد ثلاث أشهر عزم داود على أن يبذل محاولة أخرى لنقل التابوت ، ولكنه في هذه المرة حرص بكل غيرة على أن ينفذ كل توجيهات الله الخاصة بكل دقائقها. ومرة أخرى دعا كل رؤساء الأمة فاجتمع جمع غفير حول بيت الجتي . وبكل حرص ووقار وضع التابوت على أكتاف الرجال المعينين من الله ، ووقف الجمهور مصطفين ، وبقلوب واجفة سار ذلك الموكب العظيم إلى الأمام . وبعدما ساروا ست خطوات ضرب بالبوق ليقف الموكب وبموجب تعليمات داود كان عليهم أن يقدموا ثيرانا ومسمنات . والآن حل الفرح في مكان الخوف والرعب ، فطرح الملك عنه حلته الملوكية ولبس ثوبات بسيطا وهو أفود من كتان كالذي يلبسه الكهنة ، ولكنه لم يكن يعني بهذا أنه يدعي لنفسه الحق في ممارسة الوظيفة الكهنوتية لأن الأفود كان يسمح بلبسه لبعض الافراد الاخرين غير الكنهة ، ولكنه في هذه الخدمة المقدسة أراد أن يتخذ مكانه أمام الله مساويا لرعاياه . في وذلك اليوم كان ينبغي أن يكرم الله وأن يكون هو وحده موضوع التوقير . AA 636.3
ومرة أخرى تقدم الموكب العظيم في سيره ، وكانت أصوات الموسيقى كالعيدان والجنوك والأبواق والصنوج ترتفع إلى السماء متخدة مع أصوات ذلك الجمهور الغفير ( وكان داود يرقص ... أمام الرب ) في فرحه ، منسجما مع إيقاع نغم التسبيحة . AA 636.4
إن رقص داود في فرح وقور أمام الرب قد اقتبسه محبو الملذات لتبرير الرقص العصري الحديث ، ولكن هذه الحجة مبنية على غير أساس . في أيامنا هذه نجد أن الرقص يكون مصحوبا بالجهالات والسكر وعربدة منتصف الليل . فالصحة والأخلاق يضحى بها على مذبح المسرات والملذات . وأولئك الذين يترددون على صالات الرقص لا يجعلون الله موضوع تفكيرهم أو توقيرهم . وفي مثل تلك المجتمعات لا مجال ولا اعتبار للصلاة أو تسابيح الحمد . هذا الامتحان ينبغي أن يكون باتا وحاسما . فالتسليات التي تعمل على إضعاف المحبة للأشياء المقدسة وتقلل من فرحنا بخدمة الله ينبغي للمسيحيين أن يعرضوا عنها . إن الضرب على الآلات الموسيقية والرقص والتسبيح لله بفرح عند نقل التابوت لم يكن فيه أقل مشاهبة للدعارة التي تشاهد في الرقص الحديث . فالنوع الاأول من الرقص كان يرمي إلى ذكر الله وتعظيم اسمه القدوس ، أما النوع الثاني فخدعة شيطانية لجعل الناس ينسون الله ويحتقرونه . AA 637.1
اقترب الموكب المنتصر من العاصمة وهم يتبعون الرمز المقدس لمليكهم غير المنظور . حيئنذ ارتفعت أصوات التسبيح طالبة من الحراس الواقفين على الأسوار أن يفتحوا أبواب المدينة المقدسة فقال قائلهم : ( ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن ، وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات ، فيدخل ملك المجد ) وقد أجابت فرقة من المغنيين واللاعبين على الآلات الموسيقية تقول : ( من هو هذا ملك المجد ؟ ) . AA 637.2
فجاء الجواب من فرقة أخرى يقول : ( الرب القدير الجبار ، الرب الجبار في القتال ) . وحيئنذ ارتفعت أصوات مئات المرنمين وهم ينشدون أنشودة النصر ، قائلين : ( ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن ، وارفعنها أيتها الأبواب الدهريات ، فيدخل ملك المجد ) . AA 637.3
حينئذ فتحت الأبواب على سعتها ودخل الموكب ، وبرهبة ووقار وضع التابوت في الخيمة التي كانت قد أعدت لاستقباله . وأمام ذلك المسكن المقدس بنيت المذابح لتقدم الذبائح عليها . فارتفع دخان ذبائح السلامة والمحرقات ، كما صعدت سحب البخور مصحوبة بتسبيحات بني إسرائيل وابتهالاتهم إلى السماء . ولما انتهت الخدمة بارك الملك نفسه الشعب . وجينئذ ظهر كرم الملك وسخاؤه في توزيع طعام وخمر على كل الشعب لإنعاشهم . AA 637.4
كانت كل الأسباط ممثلة في هذه الخدمة وفي الاحتفال بأقدس حادث امتاز به ملك داود حتى ذلك الحين ، فحل روح الإلهام الإلهي على الملك . والآن إذ كانت أشعة الشمس الغاربة تسطع على الخيمة بنور مقدس ارتفع قلبه بالشكر لله لأن رمز حضوره المبارك كان قريبا جدا من عرش إسرائيل . AA 638.1
وإذ كان داود غارقا في هذه التأملات اتجه إلى قصره . )ليبارك بيته) ولكن كان هنالك شخص آخر شاهد منظر الفرح بروح تختلف اختلافا عظيما عن الروح التي حركت قلب داود ، ( ولما دخل تابوت الرب مدينة داود أشرفت ميكال بنت شاول من الكوة ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب ، فاحتقرته في قلبها ) ، ففي مرارة غضبها لم تنتظر عودة داود إلى القصر ولكنها خرجت لاستقالبه ، وأجابته على تحيته الرقيقة بسيل من كلامها المر القارس . كان تهكمها حادا وجارحا إذ قالت له: AA 638.2
( ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم ، حيث تكشف اليوم في أعين إماء عبيده كما يتكشف أحد السفهاء ) ! AA 638.3
أحس داود أن خدمة الله هي التي احتقرتها ميكال وأهانتها ، فأجابها قائلا في صرامة : ( إنما أمام الرب الذي اختارني دون أبيك ودون كل بيته ليقيمني رئيسا على شعب الرب إسرائيل ، فلعبت أمام الرب . وإني أتصاغر دون ذلك وأكون وضيعا في عيني نفسي ، وأما عند الإماء التي ذكرت فأتمجد ) وقد أضيف إلى توبيخ داود لها توبيخ الرب على كبريائها وعجرفتها إذ ( لم يكن لميكال بنت شاول ولد إلى يوم موتها ) . AA 638.4
إن الاحتفالات المقدسة التي صاحبت نقل التابوت أثرت في نفوس بني إسرائيل تأثيرا باقيا ، إذ أحدثت فيهم اهتماما أعمق بخدمة المقدس وأضرمت في قلوبهم الغيرة للرب مجددا. حاول داود بكل ما في إمكانه من وسائل أن يعمق هذه الانطباعات ، فصارت خدمه التسبيح جزءا منظما من العبادة الدينية . وقد نظم داود مزامير ليس فقط ليسبح بها الكهنة في خدمة المقدس بل أيضا ليتغنى بها الشعب في سفراتهم إلى مبذح الرب في أعيادهم السنوية . وبذلك انتشر ذلك التأثير وصار بعيد المدى ، وكان من نتائجه أن تحررت الأمة الوثنية ، وأن كثيرا من الشعوب المجاورة إذ شاهدوا نجاح إسرائيل ساقهم ذلك إلى أن يفكروا تفكيرا حسنا وعادلا عن إله إسرائيل الذي صنع كل هذه العظام لشعبه . AA 638.5
إن خيمة الاجتماع التي كان قد بناها ، مع كل ما كان يتعلق بخدمة المقدس ما عدا التابوت كانت لا تزال في جبعة ، فقصد داود أن يجعل أورشليم المركز الديني للأمة . وكان قد أقام لنفسه قصرا فأحس أنه من غير المناسب أن يظل تابوت الرب في خيمة ، فعزم على أن يبني له هيكلا عظيما جدا بحيث يكون تعبيرا صادقا عن تقدير إسرائيل للشرف والكرامة الممنوحين للأمة بحضور الرب ملكهم بينهم . وإذ أخبر الملك ناثان النبي بما قد انتواه قال له مشجعا : ( افعل كل ما بقلبك ، لأن الرب معك ) (انظر 2 صموئيل 7) . AA 639.1
ولكن في تلك الليلة نفسها جاءت كلمة الرب إلى ناثان وأعطاه رسالة ليبلغها للملك. كان لا بد أن يحرم داود من امتياز بناء بيت للرب ، ولكن منح تأكيد رضى الله عنه وعن نسله وعن إسرائيل : ( هكذا قال رب الجنود : أنا أخذتك من المربض من وراء الغنم لتكون رئيسا على شعبي إسرائيل . وكنت معك حيثما توجهت ، وقرضت جميع أعدائك من أمامك ، وعملت لك اسما عظيما كاسم العظماء الذين في الأرض . وعينت مكانا لشعبي إسرائيل وغرسته ، فسكن في مكانه ، ولا يضطرب بعد ، ولا يعود بنو الإثم يذللونه كما في الأول ) . AA 639.2
وكما رغب داود في أن يبني بيتا لله فقد جاءه هذا الوعد : ( والرب يخبرك أن الرب يصنع لك بيتا ... أقيم بعدك نسلك ... هو يبني بيتا لاسمي ، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد ) . AA 639.3
وأعلن السبب الذي لأجله منع من بناء الهيكل : ( قد سفكت دما كثيرا وعملت حروبا عظيمة ، فلا تبني بيتا لاسمي ... هوذا يولد لك ابن يكون صاحب راحة ، وأريحه من جميع أعدائه حواليه ، لأن اسمه يكون سليمان (مسالم) فاأجعل سلاما وسكينة في إسرائيل في أيامه . هو يبني بيتا لاسمي ) (أخبار الأيام الأول 22 : 8 — 10) . AA 639.4
ومع أنه كان قد حرم من إتمام مقاصد قلبه التي كان يعتز بها فقد تقبل داود الرسالة بالشكر : ( من أنا يا سيدي الرب ؟ وماه و بيتي حتى أوصلني إلى ههنا ؟ وقل هذا أيضا في عينيك يا سيدي الرب ، فتكلمت أيضا من جهة بيت عبدك إلى زمان طويل ) حينئذ جدد عهده مع الله . AA 639.5
عرف داود أن ما يجلب لاسمه الكرامة ولمملكته المجد هو كونه يتمم العمل الذي عزم في قلبه أن يعمله ، كما أنه كان على تمام الاستعداد لأن يخضع إرادته لإرادة الله . إن هذا التسليم الشكور الذي أظهره داود يندر وجوده حتى بين المسيحيين . ما أكثر ما يتمسك بالرجاء أولئك الذين قد زايلتهم قوة الرجولة ، في إتمام عمل عظيم وضعوا عليه قلوبهم ولكنهم غير أهل لإتمامه . وقد يكلمهم الله في عنايته كما كلم ناثان النبي داود ، معلنا لهم أن العمل الذي يرغبون في القيام به أشد الرغبة لم يسند إليهم ، فعليهم أن يعدوا الطريق لشخص آخر ليتممه . ولكنهم بدلا من الخضوع بشكر لتوجيهات الله، يتردون كما لو كانوا قد أهينو أو رفضوا ، شاعرين أنهم إذا كانوا لا يستطيعون القيام بذلك العمل الواحد الذي يتوقون إلى عمله فلن يفعلوا شيئا ، إن كثيرين يتشبثون ، بجهد مستيئس ، بالمسوؤليات التي ليسوا قادرين على حملها ، وعبثا يحاولون إتمام عمل ليسوا أكفاء له ، بينما العمل الذي كانوا يتسطيعون القيام به يظل مهملا ومعطلا . وبسبب عدم تعاونهم يتعطل العمل الأعظم أو يبطل . AA 639.6
إن داود حين دخل في عهد مع يوناثان كان قد وعده أنه حينما يريحه الله من أعدائه سيقدم معروفا ويصنع رحمة مع بيت شاول . ولما ظفر بالنجاح ذكر هذا الوعد وسأل قائلا : ( هل يوجد بعد أحد قد بقي من بيت شاول ، فأصنع معه معروفا من أجل يوناثان ؟ ) (انظر 2 صموئيل 9) فأخبروه عن وجود ابن ليوناثان يسمى مفيبوشث أعرج الرجلين منذ طفولته . ذلك أنه عندما انهزم شاول أمام الفلسطينيين في يزرعيل ، حاولت مربية ذلك الطفل أن تهرب به ، فسقط منها على الأرض ولذلك صار أعرج طول حياته ، ثم استدعى داود ذلك الشاب إلى بلاطه واستقلبه بكل رقة وإشفاق . وأعيدت إليه أملاك شاول الخاصة لإعالة بيته . أما ابن يوناثان فكان يجب أن يكون ضيف الملك الدائم فيجلس على المائدة الملكية . كان مفيبوشت قبلا متحاملا تحاملا قويا على داود بسبب الوشايات التي كانت تصله عنه من أعداء داود وتصوره كمن قد اغتصب المللك . ولكن سخاء الملك وترحيبه به ورأفته وإشفاقه الدائم نحوه ، كل ذلك كسب قلب هذا الشاب ، فتعلق بداود أشد التعلق ، وأحس كما قد أحس أبوه يوناثان من قبل ، إن مصلحته متداخله في مصلحة الملك الذي قد اختاره الله . AA 640.1
وبعدما تثبت داود على عرش إسرائيل تمتعت الأمة بفترة سلام طويلة . واذا رأت الأمم المجاورة قوة المملكة ووحدتها رأوا من الحكمة أن يكفوا عن كل عداء علني عليها ؟ وبما أن داود كان مضغوطا في تنظيم المملكة وبنائها كف عن شن الحروب التي تتخذ فيها زمام المبادرة ، إلا أنه أخيرا حارب الفلسطينيين الذين هم أعداؤه من قديم كما حارب الموآبيين ، فانتصر على كليهما ، وفرض عليهما الجزية . AA 640.2
حينئذ عقدت الدول المجاورة لمملكة داود تحالفا كبيرا ضد هذه المملكة ، فتسببت عن ذلك أعظم الحروب والانتصارات التي حدثت في أثناء ملكه ، وأعظم الارتفاعات في قوته وسلطانه . إن هذا التحالف العدائي الذي نبت في الحقيقة من حسدهم لداود الذي عظمت قوته واشتد ساعده لم يوجه إليه داود أي استفزاز البتة ، أما الظروف التي دعت إلى ظهور ذلك التحالف فهي هذه . AA 641.1
وصلت إلى أورشليم أخبار تعلن عن موت ناحاش ملك العمونيين - وهو ملك صنع مع داود إحسانا ومعروفا حين كان هاربا من غضب شاول ، فإذ أراد داود أن يعبر عن تقديره وشكره للمعروف الذي أسداه ذلك الملك إليه في إبان ضيقه أرسل إلى حانون ابن ملك بني عمون وخليقته في الملك برسالة عطف وعزاء على أيدي بعض السفراء ( فقال داود : اصنع معروفا مع حانون بن ناحاش كما صنع أبوه معي معروفا ) (انظر 2 صموئيل 10) . AA 641.2
ولكن هذه المجاملة أسئ تأويلها ، إذ كان العمونيون يبغضون الإله الحقيقي وكانوا أعداء ألداء لإسرائيل . إن الشفقة التي أظهرها ناحاش لداود كان الدافع إليها ، كليا ، هو عداوته لشاول ملك إسرائيل ، كما أساء مشيرو حانون فهم رسالة داود ، ( فقال رؤساء بني عمون لحانون سيدهم : هل يكرم داود آباك في عينيك حتى أرسل إليك معزين ؟ أليس لأجل فحص المدينة وتجسسها وقلبها ، أرسل داود عبيده إليك ؟ ) لقد حدث قبل ذلك بنصف قرن أن مشيري الملك ناحاش أشاروا عليه بأن يشترط في صلحه مع سكان يابيش جلعاد ذلك الشرط القاسي ، حين حاصر العمونيون مدينتهم وطلبوا هم من الملك أن يعقد معهم صلحا ، فاشترط ناحاش أن يقور كل عين يمنى لكل أهل يابيش . كان العمونيون لا يزالون يذكرون كيف أحبط ملك إسرائيل مقاصدهم القاسية ، إذ أنقذ الشعب الذي كانوا يريدون إذلاله والتمثيل به ، فكانت نفس عداوتهم لإسرائيل هي التي حفزتهم للقيام بهذا العمل . لم يكونوا يدركون شيئا عن الروح الخيرة التي ألهمت داود بتلك الرسالة ، إذ حين يتسلط الشيطان على عقول الناس يثير فيهم الحسد والشك - الذين يجعلانهم يسيئون فيهم أنبل المقاصد . وعندما أصاخ حانون يسمعه إلى كلام مشيريه ، اعتبر رسل داود AA 641.3
جواسيس ، وصب عليهم جامات احتقاره وإهاناته . AA 642.1
سمح للعمونيين أن ينقذوا مقاصد قلبوهم الشريرة دون رادع لكي تنكشف لداود صفاتهم على حقيقتها . فلقد أراد الله ألا يتحالف إسرائيل مع هذا الشعب الوثني الغادر. AA 642.2
وفي العصور القديمة ، كما هي الحال اليوم ، كانت لوظيفة السفير كرامتها وحرمتها ، وبموجب القانون المسكوني العام كانت تضمن لصاحبها الحماية من الاعتداءات والإهانات الشخصية ، وحيث أن السفير يمثل مليكه فكل إهانة تقع عليه لا بد أن ينتقم لها في الحال . وإذ علم العمونيون أن الإهانة التي أوقعوها على إسرائيل لا بد نت أن يأثر لها تأهبوا للحرب ، ( ولما رأى بنو عمون أنهم قد أنتنوا عند داود ، أرسل حانون وبنوا عمون ألف وزنة من الفضة ليستأجروا لأنسهم من أرام النهرين ومن أرام معكة ومن صوبة مركبات وفرسانا . فاستأجروا لأنفسهم اثنين وثلاثين ألف مركبة ... واجتمع بنو عمون من مدنهم وأتوا للحرب ) (أخبار الأيام الأول 19 : 6 ، 7 ، 13) . AA 642.3
كان هذا التحالف هائلا حقا . لقد تحالف مع العمونيين كل سكان ذلك الإقليم الواقع بين نهر الفرات والبحر الأبيض المتوسط ، فكان هناك أعداء مسلحون يحقدون بشمالي كنعان وشرقيها ، واتحدوا جميعا على سحق مملكة إسرائيل . AA 642.4
لم ينتظر العبرانيون حتى يغزو العدو بلادهم ، بل عبرت جيوشهم الأردن تحت قيادة يوآب ، وتقدمو نحو عاصمة ممكلة بني عمون . وإذ كان قائد الجيش العبراني يقود رجاله إلى ساحة القتال طفق يحثهم ويشجعهم على الثبات في النضال قائلا لهم : ( تجلد ولنتشدد من أجل شعبنا ومن أجل مدن إلهنا ، والرب يفعل ما يحسن في عينيه ) . فانهزمت جيوش الأعداء المتحالفين في أول اشتباك ، ولكنهم أبوا إلا مواصلة الحرب . ففي العام التالي تجددت الحرب . وقد حشد ملك آرام جيوشه مهددا إسرائيل بقتال مرير . وإذ علم داود أهمية ما يتوقف على نتائج تلك المعركة ذهب إلى ساحة القتال بنفسه ، وبمعونة الله التي لازمته أوقع بالأعداء هزيمة منكرة حتى أن الآراميين من لبنان إلى الفرات لم ينفضوا أيديهم من الحرب فقط ، بل صاروا عبيدا لإسرائيل تحت الجزية . ثم حارب داود العمونيين بقوة حتى سقطت كل حصونهم وصار كل ذلك الإقيلم تحت سيطرة إسرائيل . AA 642.5
إن المخاطر التي بها تعرصت الأمة الإسرائيلية للدمار الشامل ، صارت بفضل عناية الله هي الوسيلة الأكيدة التي أوصلت الأمة إلى عظمة فائقة لم يسبق لها مثيل . ولكي يخلد داود ذكرى نجاته العظيمة وانتصاراته تغنى قائلا : ( حي هو الرب ن ومبارك صخرتي ، ومرتفع إله خلاصي ، الإله المنقتم لي ، والذي يخضع الشعوب تحتي ، منجي من أعدائي ، رافعي أيضا فوق القائمين علي . من الرجل الظالم تقفذني . لذلك أحمدك يا رب في الأمم ، وأرنم لاسمك . برج خلاص لملكه ، والصانع رحمة لمسيحه ، لداود ونسله إلى الأبد ) (مزمور 18 : 46 — 50) . AA 642.6
وفي كل أغاني داود انطبع هذا الفكر على عقول شعبه وهو أن الرب كان قوتهم وخلاصهم : ( لن يخلص الملك بكثرة الجيش . الجبار لا ينقذ بعظم القوة . باطل هو الفرس لأجل الخلاص . وبشدة قوته لا ينجي ) ( أنت هو ملكي يا لله ، فأمر بخلاص يعقوب . بك ننطح مضايقينا ، باسمك ندوس القائمين علينا . لأني على قوسي لا أتكل ، وسيفي لا يخصلني ، لأنك أنت خلصتنا من مضايقينا ، وأخزيت مبغضينا ) ( هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل ، أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر ) (مزمور 33 : 16 ، 17 ، 44 : 4 — 7 ، 20 : 7) . AA 643.1
كانت مملكة إسرائيل في ذلك الحين قد وصلت في حدودها إلى حد إتمام وعد الله لإبراهيم الذي كرره بعد ذلك لموسى حين قال ( لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير ، نهر الفرات ) لقد صار إسرائيل أمة قوية تحترمها وتخشى بطشها الأمم المجاورة لها . كما كانت قوة داود عظيمة جدا في ممكلته ، إذ سيطر على عواطف شعبه وظفر بولائهم ، الأمر الذي لم يستطع أن يحققه غير القليلين من الملوك في أي عصر . لقد أكرم داود الله ، وها هو الله يكرمه الآن . AA 643.2
ولكن في وسط النجاح كان يكمن الخطر . إذ في الوقت الذي أحرز فيه داود أعظم انتصار خارجي ، كانت تحدق به أشد المخاطر هولا ، فأصابته أعظم هزيمة مذلة ومهينة . AA 643.3
* * * * *