إن موت شاول أزال المخاطر التي بسببها كان داود منفيا ، وأصبح الطريق مفتوحا الآن ليعود إلى بلاده ، ولما انقضت أيام المناحة على شاول ويوناثان فإن ( داود سأل الرب قائلا : أأصعد إلى إحدى مدائن يهوذا ؟ فقال له الرب : اصعد . فقال داود ( إلى أين أصعد ؟) فقال : ( إلى حبرون (. (انظر 2 صموئيل 2 — 4 ، 5 : 1 — 5) . AA 628.1
كانت حبرون تقع على بعد عشرين ميلا شمالي بئر سبع ، كما كانت تقع تقريبا في منتصف المسافة بين تلك المدينة وموقع أورشليم العتيد ، وقد دعيت أصلا قرية أربع أو مدينة أربع أبي عناق ، ثم سميت ، بعد ذلك ، ممرا . في هذه المدينة كانت مقبرة الآباء المسماة ( مغارة المكفيلة ) وكانت حبرون ملكا لكالب ، كما كانت آنئذ أكبر مدائن يهوذا ، وتقع في واد تحيط به أرض مرتفعة خصبة وحقول مثمرة ، وعند تخومها كانت أجمل كروم فلسطين ، هذا فضلا عن كثير من الأغراس كأشجار الزيتون وغيرها من الأشجار ذات الأثمار . AA 628.2
وقد استعد داود ورجاله بسرعة لإطاعة أوامر الرب الصادرة اليهم . فسار الرجال الست مئة المسلحون تصحبهم زوجاتهم وأولادهم وغنمهم وبقرهم في طريقهم إلى حبرون . ولدى دخول تلك القافلة المدينة كان رجال يهوذا منتظرين للترحيب بداود كملك إسرائيل العتيد . وفي الحال أجريت ترتيبات لتتوجيه ( ومسحوا هناك داود ملك على بيت يهوذا ) ولكنه لم يبذل أي مجهود ليفرض سلطانه بالقوة على الأسباط الأخرى . AA 628.3
ومن أول الأعمال التي قام بها الملك المتوج حديثا كان التعبير عن تقديره الرقيق لذكرى شاول ويوناثان . إذ عندما علم بنبأ ذلك العمل الباسل الذي قام به رجال يابيش جلعاد حيث أنقذوا جسدي ذينك القائدين الساقطين ودفنوهما بكل إكرام ، أرسل داود رسلا إلى يابيش بهذه الرسالة : ( مباركون أنتم من الرب ، إذ قد فعلتم هذا المعروف بسيدكم شاول فدفنتموه . والآن ليصنع معكم إحسانا وحقا ، وأنا أيضا أفعل معكم هذا الخير) ثم أعلن لهم أنه قد اعتلى عرش يهوذا ودعا أولئك الذين برهنوا على استقامة قلوبهم أن يعلنوا ولائهم له . AA 628.4
إن الفلسطينيين لم يعارضوا شعب يهوذا حين مسحوا داود ملكا ، لأنهم صادقوه حين كان هاربا ومنفيا ، ولذك حتى يضايقوا مملكة شاول ويضعفوها . وها هم الآن يرجون ، لكونهم أظهروا إشفاقا وعطفا نحو داود ، أن يؤول سلطانه إلى نفعهم في النهاية ، إلا أن ملك داود لم يكن يخلو من المتاعب ، فمنذ توج ملكا بدأ تاريخ مظلم هو تاريخ التآمر والعصيان . إن داود لم يصل إلى العرش عن طريق الخيانة ، إذ اختاره الله ليكون ملكا على إسرائيل ، ولم يكن هنالك ما يدعوا إلى الشك أو المقاومة . ولكن ما إن اعترف رجال يهوذا به ملكا حتى قام إيشبوشث بن شاول بمساعدة ابنير ونودي به ملكا وجلس على عرش إسرائيل كمنافس لداود . AA 629.1
لم يكن إيشوبشث إلا ممثلا ضعيفا وعاجزا لبيت شاول بينما كان داود ، بتفوق ، جديرا بتحمل مسؤوليات المملكة . أما أبنير الذي كان العامل الأكبر في تمليك إيشبوشث فقد كان قائد جيش شاول ، وأشهر رجل في إسرائيل . لقد عرف أبنير أن داود قد تعين من قبل الرب ليجلس على عرش إسرائيل ، ولكن بما أنه كان قد تعقبه وطارده سنين طويلة لم يكن يرغب الآن في أن يتبوأ ابن يسى العرش الذي جلس عليه شاول . AA 629.2
إن الظروف التي مرت بأبنير كشفت عن حقيقة أخلاقه ، فإذا هو رجل طموح وعديم المبادئ . كان عشيرا حميما لشاول ، فـتأثر بروح الملك في احتقار الرجل الذي قد اختاره الله ليلمك على إسرائيل ، ثم زادت بغضته لداود بسبب ذلك التويبخ الجارح الذي وبخه به داود عندما أخذ كوز الماء ورمح الملك من جانبه حين كان نائما في المحلة . كما ذكر كيف أن داود صرخ في مسامع الملك وشعب إسرائيل قائلا لأبنير ( أما أنت رجل ؟ ومن مثلك في إسرائيل ؟ فلماذا لم تحرس سيدك الملك ؟ ... ليس حسنا هذا الأمر الذي عملت . حي هو الرب ، لأنكم أبناء الموت أنتم ، لأنكم لم تحافظوا على سيدكم ، على مسيح الرب ) (1 صموئيل 26 : 15 ، 16) إن هذا التوبيخ قد ألهب قلبه حقدا على داود ، فعزم على إنجاز مأربه الانتقامي ، وخلق الانشقاق في صفوف إسرائيل ، إذ بذلك هو نفسه يتمجد ، فاستخدم ممثل الأسرة الراحلة لينجح مطامحه ، ومآربه الأنانية الخاصة . لقد عرف أن الشعب كانوا يحبون يوناثان وكانوا يعتزون بذكراه ، كما أن الجيش لم ينسوا حملات شاول الأولى الناجحة. فبعزيمة ، يليق بها غرض أفضل تقدم هذا القائد المتمرد لتنفيذ خططه. AA 629.3
وقد اختيرت محنايم ، الواقعة على شاطئ الأردن الأقصى ، مكانا لسكنى الملك لأنها كانت توفر أعظم الأمن من أي هجوم ، سواء أكان من داود أو من الفلسطينيين . وفي هذه المدينة توج أيشوبشث ملكا . وبايعه الأسباط الذين في شرقي الأردن أولا ، وامتد أخيرا ملكه إلى كل أسبابط إسرائيل ما عدا يهوذا . ولمدة عامين تمتع ابن شاول بكرامته وعظمته في عاصمته المنعزلة . ولكن أبنير إذ كان عاقدا العزم على بسط سلطانه على كل إسرائيل تأهب لإثارة حرب يتخذ فيها زمام المبادرة ، ( وكانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود ، وكان دواد يذهب يتقوى وبيت شاول يذهب يضعف ) . AA 630.1
أخيرا قلبت الخيانة العرش الذي أقامه المكر والطموح . وإذ اهتاج أبنير على إيشبوشث الضغيف العاجز ، هرب إلى داود ، عارضا عليه أن يجتذب إليه كل أسباط إسرائيل ، فقبل الملك مقتراحته وصرفه مكرما لإنجاز أغراضه . ولكن ترحيب الملك بمثل هذا المحارب الشهير الشجاع أثار حسد يوآب قائد جيش داود ، حيث كان هنالك عداء دموي بين يوآب وأبنير الذي كان قد قتل عسائيل أخا يوآب في أثناء الحرب التي كانت ناشبة بين إسرائيل ويهوذا . وإذ وجد يوآب الفرصة سانحة له ليثأر لدم أخيه ، ويتخلص من ذلك المزاحم المنتظر ، فإنه بكل خسة اغتنم الفرصة ، وترصد لأبنير وقتله . AA 630.2
وحينما سمع داود بخبر هذا الهجوم الغادر صاح قائلا : ( إبي بريئ أنا ومملكتي لدى الرب إلى الأبد من دم أبنير بن نير . فليحل على رأس يوآب وعلى كل بيت أبيه ) ولكن نظرا لحالة عدم الاستقرار في المملكة وبسب قوة القاتلين ومركزهما - لأن أبيشاي أخا يوآب كان شريكه في القتل - لم يستطع الملك أن ينتقم عن تلك الجريمة الإنتقام الواجب الرادع ، ومع ذلك فإنه أعلن للجميع عن مقته لتلك الجريمة الدامية . وكانت حفلة دفن أبنير مصحوبة بإكرامات عامة . فقد طلب من رجال الجيش وعلى رأسهم يوآب أن يشتركوا في خدمات المناحة حيث يشقون ثيابهم ويلبسون مسوحا . وقد برهن الملك على حزنه إذ صام في يوم الدفن وتبع النعش كأعظم النائحين . وعند القبر نطق بمرثاة كانت توبيخا جارحا للقاتلين . فلقد رثى الملك أبنير قائلا : ( هل كموت أحمق يموت أبنير ؟ يداك لم تكونا مربوطين ، ورجلاك لم توضعا في سلاسل نحاس . كالسقوط أمام بني الإثم سقطت ) . AA 630.3
إن ذلك التقدير العظيم الدال على كرم الأخلاق الذي أبداه داود نحو من كان عدوه اللدود أكسبه ثقة جميع شعب إسرائيل وإعجابئهم ، ( فعرف جميع الشعب وحسن في أعينهم ، كما أن كل ما صنع الملك كان حسنا في أعين جميع الشعب . وعلم كل الشعب وجيمع إسرائيل ذلك اليوم أنه لم يكن من الملك قتل أبنير بن نير ) وفي محيط أتباعه وخاصة مشيريه الموثوق بهم تحدث الملك عن الجريمة . وإذ اعترف بعجزه الشخصي عن معاقبة القاتلين كما كان يريد ، أسلمهما إلى عدالة السماء قائلا : ( ألا تعلمون أن رئيسا وعظيما سقط اليوم في إسرائيل ؟ وأنا اليوم ضعيف وممسوح ملكا ، وهؤلاء الرجال بنو صروية أقوى مني . يجازي الرب فاعل الشر كشره ) . AA 631.1
كان أبنير مخلصا في عروضه وبياناته لداود ، إلا أن بواعثه كانت دنيئة وأنانية ، حيث ، بكل إصرار قاوم الملك الذي اختاره الله ، إذ كان ينتظر كرامة لنفسه . لقد هجر القضية التي كان قد خدمها طوال ذلك الوقت ، مدفوعا بدافع الغضب والكبرياء الجريحة والانفعال ، إذ في هربه إلى داود كان يطمع في الحصول على أعظم مراكز الكرامة في خدمته . ولو أنه نجح وتم له ما أراد فإن مواهبه وأطماعه ونفوذه العظيم ، مع عدم تقواه ، كان يمكن أن يتعرض للخطر عرش داود ولسلامة الأمة وازدهارها . AA 631.2
( ولما سمع ابن شاول أن أبنير قد مات في حبرون ، ارتخت يداه ، وارتاع جميع إسرائيل ) واتضح أن الملك لن يدوم له طويلا . وحدث بعد ذلك بقليل حادث غدر آخر أتم انحدار تلك القوة الآخذة في الزوال ، ذلك أن اثنين من قواد ابن شاول اغتالاه . فبعدما قطعا رأسه أسرعا به إلى ملك يهوذا على أمل أن يظفرا بعطفه ورضاه. AA 631.3
مثل ذانك الرجلان أمام داود وبيدهما الدليل الدامي على جريمتهما وقالا له : ( هوذا رأس إيشبوشث بن شاول عدوك الذي كان يطلب نفسك . وقد أعطى الرب لسيدي الملك انتقاما في هذا اليوم من شاول ومن نسله ) ولكن داود الذي كان الله نفسه هو الذي ثبت عرشه والذي خلصه من كل ضيقاته لم يكن يريد أن يثبت سلطانه بالغدر . وقد أخبر ذينك القاتلين بالهلاك الذي أوقعه على ذلك العماليقي الذي افتخر بأنه قتل شاول ، ثم قال : ( فكم بالحري إذا كان رجلان باغيان يقتلان رجال صديقا في بيته ، على سرير ه ؟ فالآن أما أطلب دمه من أيديكما ، وانزعكما من الأرض ؟ وأمر داود الغلمان فقتلوهما ... وأما رأس إيشبوشث فأخذوه ودفنوه في قبر أبنير في حبرون ) . AA 631.4
بعد موت إيشبوشث كانت هنالك رغبة عامة تجيش في صدور رؤساء إسرائيل ، بأن دواد ينبغي أن يملك على جميع الأسباط ( وجاء جميع أسباط إسرائيل إلى داود ، إلى حبرون ، وتكلموا قائلين : هوذا عظمك ولحمك نحن ) ثم أعلنوا قائلين : ( قد كنت أنت تخرج وتدخل إسرائيل . وقد قال لك الرب : أنت ترعى شعبي إسرائيل ، وأنت تكون رئيسا على إسرائيل . وجاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك ، إلى حبرون ، فقطع الملك داود معهم عهدا في حبرون أمام الرب ) وهكذا بعناية الله فتح الطريق أمامه ليصل إلى العرش ، كما أنه لم تكن في قلبه مطامع شخصية يريد إشباعها ، لأنه لم يكن يطلب الكرامة التي جاءت إليه تسعى . AA 632.1
كان هنالك أكثر من ثمانية آلاف رجل من نسل هارون واللاويين يقومون على خدمة داود . كما كان التغيير الذي حدث في أميال الشعب وضاحا وحاسما . فكانت الثورة هادئة وجليلة وملائمة للعمل العظيم الذي كانوا يقومون به . ثم تجمهر في حبرون وفي ضواحيها ما يقرب من نصف مليون نسمة كانوا قبلا من رعايا شاول . فكانت الجبال والسهول حية بالجموع الفقيرة وقد حددت ساعة تتويج الرجل الذي كان قد طرد من بلاط شاول ، وذلك الرجل الذي هرب إلى الجبال والتلال وشقوق الأرض لينجوا بحياته ، أصبح مزمعا الآن أن يحصل على أعطم كرامة يمكن أن ينالها إنسان من بني جنسه . فوقف الكهنة والشيوخ متسربلين بثياب وظيفتهم المقدسة ، والضباط والجنود برماحهم وخوذهم اللامعة ، والغرباء الآتون من بلاد بعيدة - كلهم وقفوا يشهدون حفل تتوج الملك المختار . وقد كان داود متسربلا بالرادء الملكي وسكب رئيس الكهنة دهن المسحة المقدس على رأسه لأن مسح صموئيل له كان نبوة عما سيحدث عن مبايعته الملك . وها قد حان الوقت الذي فيه كرس داود بواسطة ذلك الطقس المقدس لكيون نائبا عن الله . وقد وضع قضيب الملك بين يديه ، وكتب عهد ملكه العادل . وحلف الشعب أمامه يمين الولاء ، ووضع على رأسه التاج ثم انتهت حفلة التتويج . وقد صار لإسرائيل ملك مختار من الله فذاك الذي صبر وانتظر الرب رأى الرب ينجز له وعده . ( وكان داود يتزايد متعظما ، والرب إله الجنود معه ) (2 صموئيل 5 : 10) . AA 632.2
* * * * *