إنّ السبب في إصدار هذا الأمر مقدم هنا، فنحن يجب ألاّ نحلف « لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ، وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ » (متى 5: 34 - 36). ArMB 32.4
إنّ كل شيء يأتي من الله. فلا شيء لدينا إلا وأُعطيَ لنا، وأكثر من هذا فإنّنا لا نملك شيئا لم يُشترَ لنا بدم المسيح. فكل ما نملكه يأتينا مختوما بختم الصليب ومُشترى بالدم الذي هو أثمن من كل تقدير لأنَّه حياة الله. ولهذا فلا يوجد شيء يمكن أن يكون لنا حق فيه كما لو كان ملكا لنا لأجل الوفاء بكلامنا. ArMB 32.5
لقد فهم اليهود أنّ الوصية الثالثة تنهى عن تدنيس استعمال اسم الله، ولكنهم ظنوا أنّ لهم الحرية في النطق بأقسام أخرى. كان الحلف شائعاً بينهم. ولكنهم نُهوا على لسان موسى عن أن يحلفوا كذبا، غير أنهم لجأوا إلى حيل كثيرة للتحلل من الالتزام الذي كان يفرضه القَسَم. إنّهم لم يكونوا يخشون من الانغماس فيما كان تدنيسا حقيقيا ولم يتراجعوا عن حَلَفِ يمين الزور طالما كان ذلك يستتر تحت المراوغة في الشريعة بطريقة فنية. ArMB 32.6
ولقد دان يسوع أعمالهم معلناً أنّ اعتيادهم حلف اليمين كان نقضاً لوصية الله. ومع ذلك فإنّ مخلصـنا لم ينهَ عن النطق باسم الله في القسَم أمام القضــاء حيث يستشـهد الله بكلّ وقار ليشـهد بأنّ ما يقــال هو الحــــق ولا شيء غير الحق. إنّ يسوع نفسَه وهو يحـاكم أمـام السنهدريم لم يرفض أن يشــهدَ بقسـم. فلقد قال له رئيس الكهنـة: « أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ » (متى 26: 63، 64). فلو أنّ المسيح في موعظته على الجبل دان الحلف أمام القضاء لكان في وقت محاكمته وبّخ رئيس الكهنة، وهكذا كان قد نفّذ تعليمه لفائدة تابعيه. ArMB 33.1
يوجد كثيرون جدا من الناس الذين لا يخشـون خداع بني جنسهم، ولكن الرُّوح الْقُدُس علمـهم وأقنعـهم بأنّه أمــر مرعب جـدا كونهم يكذبون على جابلهم. وعندما يلتزمون بأن يحلفوا فإنّهم يحسّون بأنهم لا يشهدون أمام الناس فحسب بل أمام الله، وانّهم إن شهدوا زورا فانهم يفعلون ذلك أمام ذاك المطلع على خفايا القلوب ويعرف الحق الصحيح كله. إنّ معرفة الأحكام المخيفة التي تجيء في إثر هذه الخطية تجعلهم يرتدعون. ArMB 33.2
ولكن أن كان هنالك من يستطيع أن يشهد شهادة ثابتة بقسم فإنما هو المسيحي. إنّه يعيش دائما كمن هو في حضرة الله، عالما أنّ كل فكر مكشوف لعيني ذاك الذي معه أمرنا، فمتى طلب منه أنّ يفعل ذلك بطريقة شرعية فمن الصواب له أن يجعل الله شهيدا على أنّ ما يقوله هو الحق ولا شيء غير الحق. ArMB 33.3
وقد تقدّم يسـوع ليضع أســاس مبدأ يجعــل الحلـف أمـرا لا لزوم له. فهو يعلمنا أنّ الصدق المضبوط ينبغي أن يكون قانون كلامنا. فيقول: « لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ » (متى 5: 37). ArMB 33.4
هذه الأقوال تدين كل العبارات العديمة المعنى والكلام الحشو الذي يساعد على الفساد. وهي تدين المجاملات الخادعة والمراوغة من الصدق وعبارات التملّق والمبالغات والتمويه في التجارة التي هي سائدة في المجتمع وفى دنيا الأعمال. وهي تعلّمنا أنّ كل من يحاول أن يبدو على غير حقيقته، ومن لا تنقل أقواله ميل القلب الحقيقي ولا يعبر تعبيرا صادقا عما في داخله لا يمكن أن يُدعَى صادقا. ArMB 33.5
فلو وعى الناس كلام المسيح هذا لكان كفيلا بأن يصدّ ويوقف النطق بالظنون الرديئة والانتقاد الجارح، لأنّه إذ يعلق أيّ إنسان على أعمال إنسان آخر وبواعثه فمن يضمن أنّه ينطق بالصدق بحذافيره؟ وما أكثر ما تصبغ الكبرياء والغضب والحنق الشخصي الأثر أو الانطباع الذي يحدث! إنّ نظرة أو كلمة أو حتى نفس تنغيم الصوت يمكن أن تكون ممتزجة بالكذب. وحتى الحقائق يمكن إيرادها بحيث تحمل انطباعا كاذبا، « وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ ». ArMB 33.6
يجب أنّ كل ما يعمله المسيحيون يكون شفّافا كنور الشمس. فالحق هو من الله أمّا الخداع في كل شكل من أشكاله التي تحصى بالربوات فهو من الشيطان، فكل من ينحرف عن الطريق المستقيم، طريق الحق، إنّما يسلم نفسه لسلطان الشرير. ومع هذا فإنّ النطق بالصدق التام ليس أمراً هيناً. ونحن لا يمكننا أن ننطق بالصدق ما لم نعرفه، وكم من مرّة تمنع الآراء التي سبق تكوينها والتحيّز العقلي والمعرفة الناقصة والأخطاء في الحكم ـ كثيرا ما يحول ذلك كلّه دون الإدراك الصحيح للمسائل التي لنا دخل فيها! إنّنا لا نستطيع أن نتكلّم بالصدق ما لم تسترشد عقولنا على الدوام بذاك الذي هو الحق. ArMB 33.7
إنّ المسيح يأمرنا على لسان بولس الرسول قائلا: « لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ » (كُولُوسِّي 4: 6). « لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ » (أَفَسُس 4: 29). ففي نور هاتين الآيتين نجد أنّ كلام المسيح على الجبل يدين المزاح والعبث والكلام غير الطاهر. وهذا الكلام يتطلب أنّ كلامنا فضلا عن كونه صادقا يجب أن يكون طاهراً. ArMB 34.1
إنّ من قد تعلموا من المسيح لن تكون لهم شركة « فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ» (أَفَسُس 5: 11). ففي الكلام كما في الحياة يجب عليهم أن يكونوا بسطاء ومسالمين وأمناء صادقين، لأنّهم إنّما يتأهبون لمعاشرة أولئك القديسين الذين « فِي أَفْوَاهِهِمْ لَمْ يُوجَدْ غِشٌّ » (رؤيا 14: 5). ArMB 34.2