ظل التلاميذ متعلقين بمعلمهم الحبيب بمحبة لا تخمد . ومع ذلك فقد كانت عقولهم مكتنفة بالشكوك وعدم اليقين . وفي عذابهم النف سي لم يذكروا أقوال المسيح التي أشار فيها الى آلامه وموته . فاذا كان يسوع الناصري هو مسيا الحقيقي فهل كانوا هم يغوصون الى أعماق الحزن و الخيبة ؟ هذا هو السؤال الذي عذب نفوسهم عندما كان المخلص مضطجعا في القبر في أثناء ساعات اليأس في يوم ذلك السبت الفاصل بين موته وقيامته. GC 384.3
ولكن مع أن ليل الحزن تجمع بظلماته حول أتباع يسوع اولئك فانهم لم يكونوا متروكين . لقد قال النبي: ”اذا جلست في الظلمة فالرب نور لي ... سيخرجني الى النور سأنظر بره“. ”الظلمة ايضا لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء . كالظلمة هكذا النور“. لقد تكلم الله قائلا: ”نور أشرق في الظلمة للمستقيمين“ ”وأسيَّر العمي في طريق لم يعرفوه ا. في مسالك لم يدروها أمشيهم . أجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة . هذه الامور أفعلها ولا أتركهم“ ( ميخا ٧ : ٨ و ٩ ؛ مزمور ١٣٩ : ١٢ ؛ ١١٢ : ٤ ؛ إشعياء ٤٢ : ١٦). GC 384.4
ان الاعلان الذي اطلقه التلاميذ باسم الرب كان صحيحا بكل تفاصيله، والحوادث التي كان يشير اليها كانت حادثة حينئذ. ”قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله“، هذه كانت رسالتهم . فعند انتهاء ”الزمان“ — التسعة والستين أسبوعا المذكورة في (دانيال ٩) التي كانت ستمتد الى مسيا ”الممسوح“ — قبل المسيح مسحة الروح القدس بعد معموديته على يدي يوحنا في الاردن . ”وملكوت الله“ الذي أعلنوا أنه قد اقترب توطدت دعائمه بموت المسيح . هذا الملكوت لم يكن ملكوتا ارضيا كما كانوا قد تعلموا واعتقدو ا. ولا ك ان هو ذلك الملكوت الدائم في المستقبل الموشك أن يقام عندما ”المملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تعطى لشعب قديسي العلي“، ذلك الملكوت الابدي الذي فيه ”جميع السلاطين اياه يعبدون ويطيعون“ (دانيال ٧ : ٢٧). ان ما يعبَّر عنه في الكتاب المقدس بالقول ”ملكوت الله“ يستخدم للدلالة على ملكوت النعمة وملكوت المجد كليهم ا. ان بولس يرينا ملكوت النعمة في الرسالة الى العبرانيين. فبعدما يشير الى المسيح الشفيع الرحيم الذي ”يرثي لضَعفاتنا“ يقول الرسول: ”فلنتقدم بثقة الى عرش ا لنعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة“ (عبرانيين ٤ : ١٥ و ١٦). ان عرش النعمة يرمز الى ملكوت النعمة، لان وجود عرش يتضمن وجود ملكوت . والمسيح في كثير من أمثاله يستعمل هذا التعبير ”ملكوت السموات“ ليدل على عمل النعمة الالهية في قلوب الناس . GC 385.1
وكذلك عرش المجد يرمز الى ملكوت المجد، وهذا الملكوت يشار اليه في قول المسيح: ”ومتى جاء ابن الانسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب“ (متى ٢٥ : ٣١ و ٣٢). هذا الملكوت سيأتي في المس تقبل. ولن يقام حتى يجيء المسيح ثانية. GC 385.2
لقد تأسس ملكوت النعمة حالما سقط الانسان عندما تم تدبير خطة الخلاص لفداء جنسنا الساقط . وقد وُجد هذا الملكوت في قصد الله وبواسطة وعده . وبواسطة الايمان أمكن الناس أن يكونوا ضمن رعاياه . إلا أنه لم يؤسَّس فعلا الا بعد موت المسيح . فحتى بعد دخول المخلص خدمته الارضية، كان يمكنه، وقد ضجر من عناد الناس وجحودهم، أن ينسحب من ذبيحة جلجثة فلا يموت . فعندما كان في جثسيماني كانت كأس الويل والعذاب ترتجف في يده. كان في وسعه آنئذ أن يمسح عرقه المتساقط كقطرات الدم تارك ا جنسنا المذنب ليهلكوا في اثمهم . فلو فعل ذلك لما كان هنالك فداء للناس الساقطين . ولكن عندما أسلم المخلص روحه وصرخ وهو يموت قائلا: ”قد أكمل“ حينئذ تحقق اتمام تدبير الفداء . وقد صودق على الوعد الذي قُدم الى أبوينا المذنبين في عدن . فملكوت النعمة الذي كان قد وُجد بناء على وعد الله قبلا توطدت أركانه حينئذ. GC 385.3
وهكذا كان موت المسيح — الحادث نفسه الذي كان التلاميذ ينظرون اليه بمثابة دمار وانهيار لرجائهم — هو الذي حقق ذلك الرجاء . ففي حين أنه أصابهم بخيبة أمل قاسية ومريرة كان هو ذروة البرهان على أن اعتقادهم صحيح . ذلك الحادث الذي جعلهم ينوحون وييأسون كان هو الذي فتح باب الرجاء لكل بنى آدم، وفيه تركزت الحياة العتيدة والسعادة الابدية لكل عبيد الله الامناء في كل الاجيال. GC 386.1
كانت مقاصد الرحمة غير المحدودة في طريقها الى الاتمام حتى عبر خيبة آمال التلاميذ. ففيما رُبحت قلوبهم الى النعمة الالهية والى قوة تعليمه اذ ”لم يتكلم قط انسان“ مثله فقد اختلط بالذهب النقي، ذهب محبتهم يسوع، زغل الكبرياء العالمية والطموح الاناني . وحتى في العلية التي مورست فيها فريضة الفصح، في تلك الساعة الخطيرة عندما كان معلمهم قد بدأ يجوز في ظلمة جثسيماني، فقد ”كانت بينهم ايضا مشاجرة من منهم يظن أن يكون أكبر“ (لوقا ٢٢ : ٢٤). كانت رؤياهم ممتلئة بالعرش والاكليل والمجد، في حين كان أمامهم العار وآلام البستان ودار المحاكمة وصليب جلجثة . ان كبرياء قلوبهم وتعطشهم الى مجد العالم هو ما جعلهم يتشبثون بقوة تعاليم زمانهم الكاذبة فلا يعيرون أقوال المخلص الالتفات اللائق، وهي التي توضح طبيعة ملكوته الحقيقية وتشير الى آلامه وموته . وهذه الاخطاء نتجت عنها التجربة — وهي حادة وقاسية ولكنها لازمة — وقد سُمح بها لاجل تأديبهم . ومع أن التلاميذ أخطأوا في فهم معنى رسالتهم وأخفقوا في تحقيق انتظاراتهم فانهم كرزوا بالانذار المعطى لهم من الله، وقد كافأ الرب ايمانهم وأكرم طاعتهم . قد استؤمنوا على المناداة بانجيل سيدهم المجيد لكل الأمم . فلكي يعدّهم لهذا العمل سُمح لهم بالمرور في ذلك الاختبار الذي بدا لهم مؤلما ومريرا. GC 386.2