أخيراً رأى من بُعد المدينة المبنية على سبع تلال . فانطرح على الأرض هاتفاً بانفعال عميق: ”يا روما المقدسة، أني احييك“ (٥٠). ثم دخل المدينة وبدأ يزور الكنائس وكان يصغي الى القصص العجيبة التي كان يرددها الكهنة والرهبان، ثم قام بممارسة الطقوس المفروضة . وانى ذهب كان يرى المناظر التي ملأته دهشة ورعبا اذ رأى الاثم متفشيا بين كل طبقات الاكليروس، وسمع من الاساقفة نكاتا شائنة فامتلأت نفسه رعبا اذ رأى نجاستهم حتى في أثناء اقامة القداس . واذ اختلط بالرهبان والشعب رأى الاسراف والدعارة . وأينما يتجهِّه لا يستطيع أحد أن يجدْ النجاسة في موضع القداسة . وقد كتب يقول: ”يتصور مقدار شناعة الأمور المخجلة التي تُرتكب في روما، ولا يصدق بوجودها الا من رأوها بأعينهم . وقد صار أمرا عاديا أن يقول الناس : اذ كان هنالك جحيم فان روما مبنية فوقها. انها بؤرة تخرج منها كل الخطايا“ (٥١). GC 139.1
وكان قد صدر مرسوم بابوي بمنح الغفران لكل من يصعدون ”سلم بيلاطس“ على ركبهم، تلك السلم التي قيل ان المخلص نزل دركاتها عندما خرج من دار الولاية الروماني، وأنها قد نُقلت من اورشليم الى روما بمعجزة . وفي أحد الايام كان لوثر يرقى درج اتها بخشوع، وفجأة دوى صوت كالرعد بدا كأنه يقول: ”البار بالايمان يحيا“ (رومية ١ : ١٧). فنهض على قدميه وأسرع خارجا من ذلك المكان في خزي ورعب . ولم تفقد تلك الآية قوتها أو سلطانها على نفسه ابد ا. ومن ذلك الحين رأى بكل جلاء، أكثر مما سبق له أن رأى، ضلالة الإركان الى الاعمال البشرية لأجل الخلاص، ولزوم الايمان الدائم باستحقاقات المسيح . لقد انفتحت عيناه ولم تغلقا ابدا بعد ذلك على تضليل خدع البابوية . وعندما حوَّل وجهه بعيدا من روما حول قلبه كذلك عنها، ومنذ ذلك الحين زاد الانفصال اتساعا الى أن انفصمت وقُطعت كل علاقة له بالكنيسة البابوية. GC 139.2
بعدما عاد لوثر من روما حصل من جامعة وتنبرغ على درجة دكتوراه في اللاهوت. والآن صارت له الحرية في أن يكرس نفسه للكتاب المقدس الذي أحبه تكريسا أشد من ذي قبل . لقد أخذ على نفسه عهدا مقدسا بأن يدرس بعناية كلمة الله ويبشر بأمانة بها لا بأقوال البابوات وتعاليمهم، وأن يفعل ذلك مدى أيام حياته. فلم يعد مجرد راهب أو استاذ بل الناطق المفوّض بإسم الكتاب . وكراعٍ دُعي الى إطعام القطيع اذ كانت تلك الخراف جائعة وظامئة الى الحق . وقد أعلن بكل ثبات أن على المسيحيين الا يقبلوا تعاليم لا تستند الى سلطان الكتب المقدسة. وكانت هذه الأقوال ضربة أصابت سيادة البابا، واشتملت على مبدأ الاصلاح. GC 140.1
رأى لوثر خطر تعظيم النظريات البشرية فوق كلمة الله . ومن دون خوف هاجم النظريات الالحادية التي يعتنقها ويعلم بها رجال التعليم . وقاوم الفلسفة والعلوم اللاهوتية التي ظلت مسيطرة على الش عب طويلا . وفضح مقولاتهما التي كانت وبيلة في تأثيرها، فضلاً عن تفاهتها وعدم جدواه ا. وحاول أن يحول عقول سامعيه عن سفسطات الفلاسفة واللاهوتيين الى الحقائق الابدية المدونة في كتب الانبياء والرسل. GC 140.2
كانت الرسالة التي ابلغها الى الجموع المتلهفة المتعلقة بأقواله ثمينة ومحيية. لم يسبق لهم أن سمعوا مثل تلك التعاليم . ان بشرى محبة المخلص ويقين الغفران والسلام بدمه المكفر ملأت قلوبهم فرحا والهمتهم رجاء أبدي ا. لقد أشعل في وتنبرغ نور كان مقدَّرا له أن يمتد الى أقصى الأرض ويزيد لمعانا ولألاء الى انقضاء الدهر. GC 140.3
لكنّ النور و الظلمة لا ينسجمان، فبين الحق والضلال يشتعل أوار حرب لا تخمد أبد ا. وإن رفع انسان راية أحدهما ودافع عنه فلا بد أن يهاجم الآخر ويهدمه. ولقد أعلن مخلصنا نفسه قائلا: ”ما جئت لالقي سلاما بل سيفا“ (متى ١٠ : ٣٤). وقال لوثر بعد بدء الاصلاح بسنين ق ليلة: ”ان الله لا يقودني بل يدفعني الى الامام . انه يحملني بعيد ا. فأنا لست سيد نفسي . أنا أحب أن اعيش في راحة وسكون، ولكني قد ألقي بي في وسط الشغب والضوضاء والثورات“ (٥٢). وكان مقيَّضا له وقتئذ أن يُزج به في وسط المعمعة. GC 140.4