وعندما سمع العشرة بطلب يعقوب ويوحنا اغتاظوا . إن أرفع مركز في الملكوت كان هو بغية كل التلاميذ الذي كانوا يعلمون به وكان كل منهم يطلبه لنفسه . وقد غضبوا لأن هذين التلميذين حصلا على ما بدا أنه امتياز دونهم جميعا . ML 515.1
ومرة أخرى بدا وكأن المشاجرة عمن يكون الأعظم ستعود للظهور مجددا ، وإذ بيسوع يدعو إليه أولئك التلاميذ الغاضبين ليقول لهم: “أنتم تعلمون أن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم يتسلّطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم” (مرقس 10 : 42، 43). ML 515.2
في ممالك العالم نجد أن المركز الرفيع معناه تعظيم الذات . وكان مفروضا أن الشعب موجود لأجل منفعة الطبقات الحاكمة . فالنفوذ والثروة والتهذيب كانت من ضمن الوسائل الكثيرة للسيطرة على عامة الناس لأجل منفعة الرؤساء . كان للطبقات الراقية الحق في أن تفكر وتقرر وتتمتع وتحكم ، أما الطبقات الدنيا فكان عليها أن تطيع وتخدم . وقد كان الدين كأي شيء آخر مسألة سلطة ، وكان على أفراد الشعب أن يعتقدوا ويعملوا بموجب ما يمليه عليهم سادتهم . أما حق عامة الشعب في أن يفكروا ويتصرفوا لأنفسهم كأناس عقلاء مسؤولين فكان أمرا غير معترف به. ML 515.3
ولكن المسيح كان يؤسس ملكوته على مبادئ تختلف عن ذلك . فقد دعا الناس لا ليتقلدوا السلطة بل ليخدموا . دعا الأقوياء ليحتملوا أضعاف الضعفاء . فالسلطان والمركز والمنصب والمواهب والتهذيب تجعل أصحابها تحت التزام أعظم بأن يخدموا بني جنسهم ويمكن أن يقال حتى لأبسط تلاميذ المسيح: “لأن جميع الأشياء هي من أجلكم” (2 كورنثوس 4 : 15). ML 515.4
وبموجب كلام المسيح القائل: “كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (متى 20 : 28). هكذا كان هو بين تلاميذه كالحارس وحامل الأثقال بكل معاني الكلمة . لقد قاسمهم الفقر ، وأنكر نفسه لأجلهم ، وكان يسير في طليعتهم ليمهد ويعبد الأماكن الوعرة في الطريق . وبعد قليل كان عليه أن يكمل عمله على الأرض ببذل حياته للموت . إن المبدأ الذي سار عليه المسيح هو حث وتحميس أعضاء الكنيسة التي هي جسده . إن أساس تدبير الخلاص هو المحبة . ففي ملكوت المسيح نرى أن أولئك الذين يتبعون المثال الذي قدمه ويتصرفون كرعاة للرعية هم الأعظم. ML 515.5
إن كلام بولس يكشف لنا عن العظمة والكرامة الحقيقيتين للحياة المسيحية ، إذ يقول: “فإني إذ كنت حراً من الجميع، استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين”، وأنا “أرضي الجميع في كل شيء، غير طالب ما يوافق نفسي، بل الكثيرين، لكي يخلصوا” (1 كورنثوس 9 : 19 ؛ 10 : 33). ML 516.1
ولكن فيما يختص بالضمير ينبغي أن تترك للنفس الحرية فلا تتقيد بشيء . فينب غي ألا يسيطر أي إنسان على عقل إنسان آخر أو يقرر له أو يفرض عليه القيام بأي واجب . إن الله يعطي لكل إنسان كامل الحرية ليفكر ويتبع اعتقاداته الخاصة. “كل واحد منا سيعطي عن نفسه حساباً لله”. لا حق لإنسان أن يدمج شخصيته في شخصية إنسان آخر . ففي كل أمر له مساس بالمبدأ “ليتقين كل واحد في عقله” (رومية 14 : 12، 5). وفي ملكوت المسيح لا ظلم يفرضه السادة الأشراف ، ولا إرغام في العادات أو التصرفات . إن ملائكة الله لا ينزلون إلى الأرض لكي يحكموا ويفرضوا على الناس الولاء . بل يأتون كرسل الرحمة ، وليتعاونوا مع الناس رفع شأن البشرية. ML 516.2
إن مبادئ المخلص ونفس الأقوال التي نطق بها في تعاليمه بجمالها الإلهي رسخت في أذهان التلاميذ المحبوبين . إن عبء شهادة يوحنا الذي اضطلع به إلى أخريات أيامه كان هكذا “لأن هذا هو الخبر الذي سمعتموه من البدء: أن يحب بعضنا بعضاً”، “بهذا قد عرفنا المحبة: أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أنا نضع نفوسنا لأجل الإخوة” (1 يوحنا 3 : 11 و 16). ML 516.3
كانت هذه هي الروح التي سادت في قلوب أعضاء الكنيسة الأولى . فبعدما انسكب الروح القدس “وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له”، “إذ لم يكن فيهم أحد محتاجاً”، “وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم” (أعمال 4 : 32 و 34 و 33). ML 516.4