Loading...
Larger font
Smaller font
Copy
Print
Contents
الاباء والانبياء - Contents
  • Results
  • Related
  • Featured
No results found for: "".
  • Weighted Relevancy
  • Content Sequence
  • Relevancy
  • Earliest First
  • Latest First
    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents

    الفصل الرابع—تدبير الفداء

    ملأ نبأ سقوط الإنسان أرجاء السماء حزنا ، فالعالم الذي خلقه الله ضربته لعنة الخطية ، وأمسى ساكنوه خلائق محكوما عليها بالشقاء والموت ، لم ير باب لنجاة من قد تعدوا الشريعة ، وكف الملائكة عن ترديد أغاني الحمد ، وفي أرجاء السماء ساد الحزن والنوح بسبب الدمار الذي أحدثته الخطية .AA 44.1

    وابن الله ، رب السماء المجيد ، امتلأ قلبه بالإشفاق على البشرية الساقطة ، فإذ رأى هول الويلات التي حلت بالعالم الهالك تحرك قلبه باللطف الذي لا يحد ، وابتكرت محبة الله تدبيرا به يمكن افتداء العالم . إن شريعة الله التي انتهكت كرامتها تطلب موت الخاطئ ، وفي كل الكون لم يكن غير واحد يمكنه أن يتمم مطاليب الشريعة كنائب عن الإنسان ، وحيث أن شريعة الله مقدسة مثله تماما فالذي يكفر عن خطايا العالم ينبغي أن يكون معادلا لله ، ولم يكن أحد غير المسيح يستطيع أن يفتدي الإنسان الساقط من لعنة الناموس ويعيده إلى حالة الوفاق مع السماء . وقد رضي المسيح أن يأخذ على نفسه ذنب الخطية وعارها — الخطية الكريهة لدى إله قدوس إلى حد أنها تفصل الآب عن ابنه ، ورضي أن ينحدر إلى عمق أعماق الشقاء لينقذ البشرية الهالكة .AA 44.2

    رافع المسيح عن الإنسان الخاطئ أمام الآب ، بينما انتظر جند السماء النتيجة باهتمام بالغ لا يمكن التعبير عنه بالكلام ، واستغرقت تلك المشاورة السرية وقتا طويلا - وهي « مشورة السلام » (زكريا 6 : 13). لأجل بني الإنسان الساقطين . على أن تدبير الخلاص هذا كان قد أعد قبلما خلقت الأرض ، لأن المسيح هو « الحمل المذبوح منذ إنشاء العالم » (رؤيا 13 : 8) ** طبعة سنة 1878 . ومع هذا فقد كان ذلك صراعا مع ملك الكون نفسه ، أن يبذل ابنه ليموت عن جنسنا . « لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية » (يوحنا 3 :16) . آه ما أعظم سر الفداء ، وما أعجب محبة الله لعالم لم يحببه ! من ذا الذي يستطيع ان يسبر أعماق هذه المحبة « الفائقة المعرفة » ؟ ومدى أجيال لا نهاية لها إذ تحاول إفهام الأبرار في سماء الخلود إدراك سر تلك المحبة الفائقة لإدراك سيتعجبون ويقدمون للعلي عبادتهم وسجودهم .AA 44.3

    كان لا بد أن يتجلى الله في المسيح « مصالحا العالم لنفسه »(2 كورنثيوس 5 : 19) . لقد انحدر الإنسان إلى أدنى دركات الانحطاط بسبب الخطية ، بحيث صار من المستحيل عليه العودة بقوته الذاتية إلى حال الانسجام والوفاق مع ذاك الذي طبعه الطهارة والصلاح ، ولكن المسيح بعدما افتدى الإنسان من دينونة الشريعة أمكنه أن يضيف إلى مجهود الإنسان قدرته الإلهية ، وهكذا بالتوبة إلى الله والإيمان بالمسيح أمكن أبناء آدم الساقطون أن يصيرو « أولاد لله » (1 يوحنا 3 : 2) .AA 45.1

    إن التدبير الذي به ، دون سواه ، يمكن أن يتم الخلاص قد شمل كل السماء في تضحيتها غير المحدودة ، فالملائكة لم يستطيعوا أن يفرحوا أو يتهللوا حين بسط المسيح أمامهم تدبير الفداء ، لأنهم رأوا أن خلاص الإنسان لا بد من أن يكبد قائدهم الحبيب ويلات هائلة لا يمكن وصف قسوتها ، ففي حزن ودهشة أصغوا إليه يحدثهم كيف أنه سينزل من سماء الطهارة والسلام والفرح والمجد والخلود ليحتك بانحطاط الأرض ، ليتحمل أحزانها وأقذارها ويكابد عارها وموتها ، كان لا بد له أن يحول بين الخاطئ وقصاص خطيته ، ومع ذلك فقليلون هم الذين سيقبلونه على أنه ابن الله ، كان عليه أن يتخلى عن مركزه كمن هو سلطان السماء وبهاؤها وجلالها ويظهر على الأرض في حالة وضيعة كإنسان ، ويختبر بنفسه الأحزان والتجارب التي كان على الإنسان أن يحتملها . كان كل ذلك لازما وضروريا له لكي يقدر أن يعين المجربين (عبرانيين ٢ :١٨) ومتى انتهت مهمته كمعلم يجب أن يُسلم لأيدي الأشرار ويتعرض لكل صنوف الإهانة والتعذيب التي لا يمكن أن يوحي إليهم الشيطان بإيقاعها عليه ، ويموت أقسى ميتة ، معلقا على صليب بين السموات والأرض كخاطئ مجرم ، ويمر في ساعات عذاب طويلة ورهيبة جدا حتى أن الملائكة لا يستطيعون مشاهدة ذلك المنظر ، فيغطون وجوههم حتى لا يروه. وعليه أن يجوز في عذاب نفسي رهيب إذ يحجب الآب وجهه عنه حين يستقر عليه جرم الخطية — أي أحمال خطايا العالم كله .AA 45.2

    سجد الملائكة عند قدمي سيدهم ورئيس جندهم ، وقدموا أنفسهم ليكونوا ذبيحة لأجل الإنسان ، ولكن حياة أي ملاك لا يمكنها أن تفي الدين ، أما ذاك الذي جبل الإنسان فهو وحده الذي يستطيع أن يفتديه . ومع ذلك فقد كان على الملائكة أن يقدموا بعض الخدمات في تدبير الفداء . وكان لا بد أن يوضع المسيح « قليلا عن الملائكة .. من أجل ألم الموت » (عبرانيين 2 : 9) وحيث أنه سيتخذ طبيعة بشرية فقوته لن تكون في مثل قوة الملائكة ، فعليهم أن يخدموه ويقووه ويسكنوا اضطراب نفسه حين يقاسي الآلام ، كما كان عليهم أن يكونوا أرواحا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثو الخلاص (عبرانيين 1 : 14) ولا بد لهم أن يحرسوا أبناء النعمة من قوة الملائكة الأشرار ومن الظلمة التي ينشرها الشيطان حولهم .AA 46.1

    إن الملائكة حين يشاهدون آلام سيدهم وإذلاله تمتلئ قلوبهم حزنا ويتملكهم الغضب ويتمنون لو يسمح أن ينقذوه من أيدي قاتليه . ولكنه غير مسموح لهم أن يتدخلوا ليمنعوا وقوع شيء مما يرونه . فإن هذا كله جزء من تدبير الفداء ، إن المسيح ينبغي له أن يتحمل الازدراء والإهانة من الأشرار ، وقد ارتضى هو نفسه بذلك كله حين صار فادي البشر .AA 46.2

    أكد المسيح لملائكته أنه بموته سيتفتدي كثيرين ، وسيبيد ذاك الذي له سلطان الموت ، وسيسترجع الملك الذي أضاعه الإنسان بعصيانه ، وسيرثه المفديون مع سيدهم ويسكنون هناك إلى الأبد ، ولن تعود الخطية والخطاة بعد يعكرون صفاء السماء أو يزعجون سلام الأرض ، لأن الخطية والخطاة سيمحون إلى الأبد ، وقد أمر المسيح الجند السماويين أن يكونوا على وفاق مع التدبير الذي قبله الآب ، وأن يفرحوا لأنه بموته سيتصالح الإنسان الخاطئ مع الله .AA 46.3

    حينئذ ملأت أرجاء السماء أفراح لا يمكن وصفها . إن مجد وسعادة العالم المفتدى فاقت حتى آلام رئيس الحياة وموته ، وفي كل الأرجاء العلوية رن صوت ذلك اللحن وتلك الأغنية التي كانت ستسمع أنغامها فوق تلال بيت لحم «المجد لله في الأعالي ، وعلى الأرض السلام ، وبالناس المسرة » (لوقا 2 : 14) . وبنغمة فرح أعمق مما حدث عند الخليقة الجديدة «ترنمت كواكب الصبح معا ، وهتف جميع بني الله » (أيوب 38 : 7) .AA 46.4

    إن أول إشارة إلى الفداء قد أبلغت الإنسان في حكم الله الذي أوقعه على الشيطان في الجنة . فلقد أعلن الله قائلا : «وأضع عداوة بينك وبين المرأة ، وبين نسلك ونسلها . هو يسحق رأسك ، وأنت تسحقين عقبه» (تكوين 3 : 15) . فهذا القول الذي نطق به الله في مسامع أبوينا الأولين كانت بمثابة وعد بالنسبة لهما . فإذ أنبأ بقيام حرب بين الإنسان والشيطان أعلن أن قوة ذلك الخصم العظيم ستسحق نهائيا . لقد وقف آدم وحواء كمذنببين أمام الديان العادل ، منتظرين الحكم الذي أوجبه عليهما تحديهما ، ولكن قبلما حكم عليهما بحياة كلها كد وعناء وحزن وشقاء ، وقبلما حكم عليهما بأنهما سيعودان إلى التراب أصغيا إلى هذا الوعد الذي أنعش قلبيهما بالرجاء . فمع أنهما لا بد من أن يقاسيا من قوة عدوهما الجبار فقد كانا يتطلعان إلى النصرة النهائية .AA 47.1

    وحين سمع الشيطان أنه ستقوم عداوة بينه وبين المرأة وبين نسله ونسلها أيقن أن عمله في إفساد الجنس البشري سيتعطل ويتوقف ، وإذ أن الإنسان ، بوسيلة أو بأخرى ، سيكون قادرا على مقاومة سلطانه . ولكن حين أعلن تدبير الخلاص كاملا فرح الشيطان وجنوده لكونه ، إذ تسبب في سقوط الإنسان ، أمكنه أن ينزل ابن الله من مرتبته ومقامه العظيم ، وأعلن أن خطته ، حتى ذلك الحين ، قد نجحت في الأرض ، وأن ابن الله حين يتخذ طبيعة بشرية قد ينهزم هو أيضا ، وهكذا لن يتم فداء الجنس الساقط .AA 47.2

    وقد أعلن ملائكة السماء لأبوينا الأولين بوضوح أكثر التدبير الذي رسم لخلاص البشرية . وأكدوا لآدم وشريكته أنه بالرغم من خطيتهما العظيمة فالرب لن يتخلى عنهما تاركا إياهما لسلطان الشيطان ، لأنه قد تطوع ابن الله لأن يكفر عن معصيتهما ببذل حياته ، وأنه أعطيت لهما فترة امتحان ، وبالتوبة والإيمان بالمسيح يمكنهما أن يكونا ثانية من أولاد الله .AA 47.3

    إن الذبيحة التي أوجبها عصيانهما كشفت لآدم وحواء صفة القداسة التي لشريعة الله وقد رأيا ، كما لم يريا من قبل ، جرم الخطية ونتائجها الرهيبة ، وفي حزن وانسحاق طلبا ألا يقع القصاص على ذاك الذي كانت محبته نبع أفراحهما بل أن يقع بالحري عليهما وعلى نسلهما .AA 47.4

    وقد قيل لهما أنه حيث أن شريعة الرب هي أساس حكمه في السماء كما على الأرض ، فحتى حياة ملاك لا يمكن قبولها ذبيحة عن التعدي عليها . ولا يمكن تغيير أو إلغاء جزء ولو صغير من تلك الشريعة ليناسب الإنسان في حالته بعد السقوط ، ولكن ابن الله الذي خلق الإنسان يمكنه أن يصنع كفارة عنه ، فكما أن معصية آدم قد جلبت الشقاء والموت ، فكذلك ذبيحة المسيح ستأتي بالحياة والخلود .AA 47.5

    وليس الإنسان وحده هو الذي وقع تحت سلطان الشرير ، ولكن حتى الأرض أيضا بسبب الخطية خضعت لسلطانه ، وكان لا بد أن ترد بالفداء . إن آدم بعدما خلق أقيم سيدا على الأرض ، ولكنه إذ انهزم أمام التجربة صار تحت سلطان الشيطان ، « لأن ما انغلب منه أحد ، فهو له مستعبد أيضا »(2 بطرس 2 : 19) وبعدما صار الإنسان أسيرا للشيطان انتقلت السيادة منه إلى آسره ، وهكذا صار الشيطان «إله هذا الدهر » (2 كورنثوس 4 : 4) لقد اغتصب السلطان الذي كان قد أعطي لآدم على الأرض ، ولكن المسيح إذ حمل قصاص الخطية بذبيحته فهو لا يفتدي الإنسان فقط بل سيعيد إليه سلطانه الذي قد أضاعه ، فكل ما خسرناه في آدم الأول سنسترجعه في آدم الثاني . يقول ميخا النبي «وأنت يا برج القطيع ، أكمة بنت صهيون إليك يأتي ، ويجيء الحكم الأول» (ميخا 4 : 8) وبولس الرسول يشير إلى المستقبل إلى ) فداء المقتنى » (أفسس 1 : 14) لقد خلق الله الأرض لتكون مسكنا للخلائق المقدسة السعيدة . إن الرب هو « مصور الأرض وصانعها . هو قررها . لم يخلقها باطلا . للسكن صورها » (إشعياء 45 : 18) وسيتم ذلك القصد حينما تصبح الأرض مسكن المفديين الأبدي بعدما تتحرر ، بقوة الله ، من الخطية والحزن : «الصدّيقون يرثون الأرض ويسكونونها إلى الأبد » (مزمور 37 : 29) « ولا تكون لعنة ما في ما بعد . وعرش الله والخروف يكون فيها ، وعبيده يخدمونه » (رؤيا 22 : 3) .AA 48.1

    لقد تمتع آدم وهو في حال الطهارة باتصال مباشر بجابله ، ولكن الخطية فصلت بين الله والإنسان . إلا أن كفارة المسيح أقامت جسرا على تلك الهوة ، وجعلت من الممكن إيصال البركة والخلاص من السماء إلى الأرض . كان الإنسان لا يزال محظورا عليه الدنو المباشر من خالقه ، ولكن الله أراد أن يتصل به عن طريق المسيح والملائكة .AA 48.2

    وهكذا أعلنت لآدم حوادث هامة في تاريخ البشرية منذ الوقت الذي فيه نطق الله بحكمه في الجنة إلى الطوفان ، ثم إلى مجيئ ابن الله أول مرة . وقيل له إنه مع كون ذبيحة المسيح ذات قيمة عظيمة كافية لتخليص العالم كله فإن كثيرين سيفضلون حياة الخطية على حياة التوبة والطاعة . وستزيد الجرائم في الأجيال المتعاقبة ، وستستقر لعنة الخطية بأكثر قوة وقسوة على الجنس البشري ، وعلى البهائم والأرض ، وستقصر أيام حياة الإنسان بسبب الخطية التي سيختارها ، وسيصيب جسمه التشويه والضعف ، كما ستضعف قواه الأدبية والذهنية ، وقوته على الاحتمال ، حتى تمتلئ الأرض من كل ألوان الشقاء وبسبب انغماس الناس في النهم والشهوات لن يقدّروا الحقائق العظيمة الخاصة بتدبير الفداء ، ومع ذلك فالمسيح لكونه أمينا وحريصا على إتمام القصد الذي لأجله ترك السماء سيظل على اهتمامه بالناس وسيواصل دعوته إياهم لأن يأتوا إليه ويخفوا ضعفاتهم ونقائصهم فيه . وهو سيسدد احتياجات كل من يأتون إليه بالإيمان . والذين يحفظون معرفة الله ويظلون طاهري الذيل في وسط تيار الإثم الجارف سيكونون قليلي العدد .AA 48.3

    وقد رسم الله نظام الذبائح الكفارية لتكون مذكرا دائما للإنسان واعترافا منه بتوبته عن خطيته وبإيمانه بالفادي الموعود به ، وكان القصد من تلك الذبائح ترسيخ هذا الحق في عقول الناس الساقطين وقلوبهم ، وهو أن الخطية هي علة الموت . وقد أحس آدم بألم وحزن بالغين عندما قدمت أول ذبيحة ، إذ كان لا بد ليده من أن ترتفع لتنتزع الحياة التي لا يعطيها غير الله . كانت تلك أول مرة شاهد فيها الموت ، وعرف أنه لو ظل مطيعا لله لما مات إنسان أو حيوان ، وعندما ذبح أول ذبيحة ارتجت نفسه عندما برق في ذهنه هذا الخاطر وهو أن خطيته لا بد أن تسفك دم حمل الله الذي بلا عيب . وهذا المنظر جعله يحس إحساسا أوضح وأعمق بهول معصيته التي لا يمكن أن يكفر عنها غير موت ابن الله الحبيب . وقد ملكته الدهشة وهو يتأمل في صلاح الله غير المحدود الذي يقدم هذه الفدية الفادحة الكلفة لكي يخلص الأثمة ، ولمع في سماء حياته نور الرجاء الذي بدد غياهب المستقبل المظلم المرعب وخفف من وحشته وكآبته .AA 49.1

    غير أن تدبير الفداء كان له غرض أوسع وأعمق من خلاص الإنسان . لم يكن هذا هو القصد الوحيد الذي لأجله أتى المسيح إلى الأرض ، لم يكن القصد الوحيد هو مجرد أن ينظر سكان كوكب الأرض الصغير هذا إلى شريعة الله بعين الاعتبار كما ينبغي ، ولكن القصد كان تبرير وتزكية صفات الله في أعين سكان الكون كلهم . ولأجل هذه الغاية من ذبيحته العظيمة - أي تأثيرها في عقول الكائنات العاقلة في كل العوالم كما في الإنسان ، كان المخلص ينظر إلى الأمام حين قال قبل صلبه : « الآن دينونة هذا العالم . الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجا . وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع » (يوحنا 12 : 31 ، 32) . إن عمل المسيح في كونه مات لأجل خلاص الإنسان ليس فقط يسهل طريق وصول الناس إلى السماء ، بل يبرر الله أمام سكان الكون جميعا ، يبرر الله وابنه في كيفية معاملتهما لعصيان الشيطان ، ثم أن موت المسيح يثبت دوام شريعة الله ويكشف عن طبيعة الخطية وعواقبها .AA 49.2

    لقد كان النزاع من البدء حول شريعة الله . فلقد حاول الشيطان أن يبرهن أن الله ظالم ، وأن شريعته مخطئة ، وأنه ينبغي تغييرها لأجل خير الكون . وفي مهاجمته للشريعة كان يرمي إلى هدم سلطان واضعها . وفي هذا النزاع لا بد من البت فيما إذا كانت شريعة الله ناقصة وعرضة للتغيير أم كاملة لا تتغير .AA 50.1

    ولما طرد الشيطان من السماء عول على جعل العالم مملكة له ، ولما جرب آدم وحواء وانتصر عليهما ظن أنه قد ملك زمام العالم قائلا : « إنهم قد اختاروني ملكا عليهم » وقد ادعى أنه لا يمكن أن يمنح الغفران للخاطئ ، ولذلك فكل الجنس البشري صاروا رعاياه الشرعيين ، وصار العالم ملكا له . ولكن الله بذل ابنه الحبيب المساوي له ، ليتحمل قصاص العصيان ، وبذلك أعد طريقة بها يستعيد الإنسان رضا الله فيعاد إلى بيته في جنة عدن . وقد أخذ المسيح على نفسه أمر فداء الإنسان وتحرير العالم من قبضة الشيطان . وذلك النزاع الذي بدا في السماء كان لا بد أن يتقرر في نفس العالم ونفس الميدان الذي ادعى الشيطان أنه ملكه .AA 50.2

    والذي أدهش الكون كله أن المسيح وضع نفسه لكي يخلص الإنسان الساقط ، فكون ذاك الذي سار من نجم إلى آخر ومن عالم إلى آخر وهو مشرف على الكل وبعنايته يسد أعواز كل خلائقه في الكون الواسع — كونه يرتضي التخلي عن مجده واتخاذ الطبيعة البشرية — كان هذا سرا تاقت عقول الأبرار في العوالم الأخرى أن تتفهمه وتسبر غوره . وحين أتى المسيح إلى عالمنا في صورة إنسان اهتم الجميع أعظم اهتمام في تأثر خطواته وهو يسير خطوة فخطوة في الطريق المخضب بالدم من المذود إلى جلجثة . وقد لاحظت السماء كل إهانة وكل سخرية وقعت عليه ، وعرفت أن ذاك كله بتحريض من الشيطان ، ولاحظوا أيضا عمل القوات المضادة يتقدم ، فكان الشيطان يضغط بالظلمة والأحزان والكلام على الجنس البشري ، بينما كان المسيح يعمل عكس هذا ، وكذلك لاحظوا المعركة بين النور والظلمة حين حمي وطيسها . وحين صرخ المسيح وهو يعاني سكرات الموت قائلا : « قد أكمل » (يوحنا 19 : 30) ارتفعت هتافات الانتصار من كل العوالم ومن السماء نفسها . وذلك النضال الذي طال أمده في هذا العالم تقرر الآن مصيره ، وانتصر المسيح ، الذي موته أعلن ما إذا كان في قلب الآب والابن محبة للإنسان كافية تدفعهما الى إنكار الذات والتضحية . وقد كشف الشيطان عن أخلاقه على حقيقتها ، فتبرهن أنه كذاب وقاتل ، وظهر أن نفس الروح التي كان قد سيطر بها على بني الإنسان الذين كانوا تحت سلطانه كان سيظهرها لو سمح له بأن يسيطر على الكائنات السماوية . فبصوت واحد اتحدت المسكونة المخلصة لله في تمجيد سياسته الإلهية .AA 50.3

    لو أمكن تغيير الشريعة لأمكن خلاص الإنسان بدون ذبيحة المسيح ، ولكن حقيقة كونه لازما جدا أن يبذل المسيح حياته لأجل الجنس الساقط تبرهن على أن شريعة الله لا يمكن أن تعفي الخاطئ من مسؤولية حفظها . ولقد أعلن أن أجرة الخطية هو موت ، فحين مات المسيح أصبح هلاك الشيطان أمرا مؤكدا ، ولكن لو أن الناموس أبطل عن الصليب كما يدعي كثيرون ، إذا فآلام ابن الله الحبيب وموته إنما كان القصد من احتماله إياها إعطاء الشيطان ما طلبه ، وأن سلطان الشر قد انتصر ، وثبتت كل اتهاماته لله في حكمه . إن نفس حقيقة كون المسيح حمل قصاص عصيان الإنسان هي حجة قوية للعقل البشري بأن الشريعة لم ولن تتغير ، وأن الله بار ورحيم ومنكر لنفسه ، وأن العدل والرحمة غير المحدودين يتلاقيان ويتحدان في سياسته وحكمه .AA 51.1

    * * * * *

    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents