الفصل الثالث والستون —داود وجليات
إن الملك شاول عندما أدرك أن الـلــه قد رفضه ، وعندما أحس بقوة كلمات التشهير التي قد خاطبه النبي بها امتلأ قلبه تمردا ويأسا مريرين ، فلم تكن توبة حقيقية تلك التي جعلت رأس ذلك الملك المتكبر ينحني ، ولم يكن يدرك إدراكا واضحا مقدار خبث خطيته ، ولم يبنيه لإصلاح حياته بل جعل يطيل التأمل في ما ظن أنه ظلم من الـلــه إذ جرده من عرش إسرائيل ، وحرم نسله من حق وراثة الملك . كان دائم التفكر في الخراب المتوقع الذي حل ببيته ، وشاعرا أن الشجاعة التي قد أبداها في منازلة أعدائه ، كان ينبغي أن تعوض عن خطية العصيان التي قد ارتكبها . إنه لم يقبل بوداعة تأديب الـلــه ، بل إن روحه المتكبرة أمست يائسة قانطة حتى أوشك أن يفقد عقله ، فنصحه مشيروه أن يبحث عن موسيقار ماهر لينتفع بعزفه على أمل أن نغمات الموسيقى المهدئة الملطفة تسكن اضطراب روحه . وقد شاءت عناية الـلــه أن يشل داود الذي كان يحسن الضرب على العود ، أمام الملك . وكان لألحانه السامية الجميلة التي كانت بإلهام من الـلــه ، التـأثـيــر المطلوب ، إذ أن أفكار الملك المحزنة وكآبته الخرساء التي جثمت على عقله كسحابة مظلمة انقشعت أمام تلك الموسيقى الساحرة .AA 578.1
وعندما كان يستغني عن خدمات داود في بلاط الملك كان يعود لرعاية قطعانه بين التلال ، وظل محتفظا ببساطة روحه في كل تصرفاته . إلا أنهم كانوا ، كلما دعت الحاجة ، يستدعونه ليعزف للملك ليهدئ اضطراب عقله ، ويرتاح حتى يذهب عنه الروح الرديء . ولكن مع أن شاول كان يعبر عن سروره بداود وموسيقاه فإن ذلك الراعي الشاب كان يعود من بيت الملك إلى حقوله ومراعيه في الجبال ، شاعرا بالراحة والفرح ومتنفسا الصعداء .AA 578.2
كان داود ينمو ويزيد كل يوم في النعمة عند الـلــه والناس . لقد تعلم في طريق الرب ، فوضع في قلبه ووطد عزمه كليا على أن يفعل إرادة الـلــه الآن أكثر مما في أي وقت مضى ، كما كانت أمامه آنئذ مواضيع جديدة ليتأمل فيها . كان في بلاط الملك ورأى مسؤوليات الملك ، واكتشف بعض التجارب التي كانت تكتنف نــفـــس شاول ، كما تغلغل بفكره لاكتشاف بعض الأسرار التي في أخـــلاق أول ملوك إسرائيل ومعاملاته . لقد رأى مجد الملك وقد غشيته سحابة حزن سوداء ، كما عرف أن عائلة شاول في حياتها الخاصة لم تكن من السعادة على شيء . كل تلك الحقائق جلبت الاضطراب على نــفـــس ذاك الذي مسح ليكون ملكا على إسرائيل . ولكنه فيما كان غارقا في تأملاته العميقة وقد ضايقه جزعه كان يحتضن عوده ويداعب أوتاره فكانت تخرج ألحان تسمو بأفكاره إلى الـلــه نبع كل خير وصلاح ، وإذا بالسحب السوداء التي بدا كأنها تظلم سماء المستقبل تنقشع في الحال .AA 578.3
كان الله يعلم داود دروس الاتكال والثقة . فكما تدرب موسى لكي يقوم بعمله . كذلك كان الرب يؤمل ابن يسى ليصير قائدا لشعبه المختــار . وفي حراسته لقطعانه ورعايته إياها كان يزداد يوما فيوما تقديرا للرعاية التي يبديها راعي الخراف العظيم لغنم مرعاه .AA 579.1
إن التلال الموحشة والمهاوي الوعرة التي كان داود يتجول فيها بقطعانه كانت مخابئ تكمن فيها الوحوش . ومرارا كثيرة كان يخرج الأسد من الغابة عند نهر الأردن ، أو الدب من مكمنه بين التلال وقــد زادت شراستهما فيهاجمان القطعان . وكما كان مألوفا في تلك الأيام ، لم يكن بيد داود غير المقلاع وعصا الرعاية ، ومع ذلك فقد برهن منذ صباه على قوته وشجاعته في حراسة أغنامه . وبعد ذلك حين كان يصف إحدى تلك المعارك قـــال . ( جاء أسد مع دب وأخذ شاة من القطيع ، فخرجت وراءه وقتلته وأنقذتها من فيه ، ولما قام علي أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته ) (1 صموئيل 17 : 34 ، 35) إن اختباره في هذه الأمـــور كان فاحصا لقلبه ونمى في نفسه روح الشجاعة والثبات والإيمان .AA 579.2
واشتهر داود بالشجاعة وأعمال البطولة حتى قبلما استدعي إلى بلاط شاول ، كما أعلن عنه الضابط الذي ذكره للملك قـائــلاً عنه : ( هو جبار بأس ورجل حرب ، وفصيح ... والرب معه ) (1 صموئيل 16 : 18) .AA 579.3
لما أعلن إسرائيــل الحرب على الفلسطينيين ذهب ثلاثة من أبناء يسى لينضموا إلى الجيش تحت قيادة شاول ، أما داود فبقي في البيت ، إلا أنه بعد قليل ذهب لزيارة معسكر شاول . وامتثالا لأمر أبيه كان عليه أن يحمل إلى إخوته الكبار رسالة وهدية ويستعلم عن سلامتهم وصحتهم . ولكن على غير علم يسى كان ذلك الراعي الشاب مكلفا برسالة أسمى وأعظم ، إذ قد أرشـد ملاك داود أن يخلص شعبه حيث كانت جيوش إسرائيل في خطر وحينما اقترب داود من الجش سمع أصوات هرج ومرج كما لو كان الجيشان مزمعين أن يشتبكا في معركة ، )والجيش خارج إلى الاصطفاف وهتفوا للحرب ( (انظر 1 صموئيل 17) واصطف إسرائيل والفلسطينيون صفا مقابل صف . فركض داود إلى الجيش وأتى وسأل عن سلامة إخوته . وفيما هو يكلمهم إذا برجل مبارز فلسطيني اسمه جليات قد خرج وجعل يتحدى إسرائيل بكلام مهين ويدعوهم لمنازلته ، قائـلاً أن يعطوه رجلا من بين صفوفهم ينازله في صراع . ثم كرر هــذه الدعوة للنزال . فلما رأى داود بني إسرائيل وإذا هم جميعا خائفون ومرتعبون ، وعلم أن ذلك الفلسطيني ظل يلاحقهم بتحديه يوما بعد يوم دون أن يتقدم مبارز من إسرائيل ليسكت ذلك الرجل الفخور احتدت روحه فيه ، والتهب قلبه غيرة على حفظ كرامة الـلــه الحي وسمعة شعبه .AA 579.4
اكتأبت جيوش إسرائيــل وخانتهم شجاعتهم وقال أحدهم للآخر : ( أرأيتم هذا الرجل الصاعد ؟ ليعير إسرائيــل هو صاعد ! ) فصاح داود في خزي وغضب قائلا : ( من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعير صفوف الله الحي ؟ ) .AA 580.1
ولما سمع ألياب أخو داود الأكبر هذه الكلمات عرف جيدا الأحاسيس التي كانت تعتمل في نــفـــس ذلك الشاب . ومع أن داود كان راعيا فقد أبدى جرأة وشجاعة وقوة تندر مشاهدة مثلها ، ثم إن زيارة صموئيل الغامضة لبيت أبيهم وذهابه دون أن يتكلم ، كل ذلك أيقظ في عقول إخوته الشكوك فيما عسى أن تكون الغاية الحقيقية من زيارته ، فثارت غيرتهم حين رأوا داود يحصل على كرامة أعظم منهم ، ولذلك لم يعاملوه بالإكرام والمحبة اللائقين باستقامته ورقته الأخوية ، ونظروا إليه على أنه راع مراهق . ثم إن ألياب اعتبر أن السؤال الذي سأله داود هو توبيخ له على جبنه ، إذ لم يحاول إسكات جبار الفلسطينيين ، فصاح في أخيه قائلا : )لماذا نزلت ؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية ؟ أنا علمت كبريائك وشر قلبك ، لأنك إنما نزلت لكي ترى الحرب ) ، كان جواب داود الذي بدا فيه الاحترام والجزم هو قوله : ( ماذا عملت الآن ؟ أما هو الكلام ؟ ) .AA 580.2
وصل كلام داود إلى مسامع الملك الذى استدعى إليه ذلك الشاب وقــد أصغى شاول بدهشة إلى كلام ذلك الراعي حين قـــال : ( لا يسقط قلب أحد بسببه . عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني ) حاول شاول أن يثني داود عن عزمه ، ولكن ذلك الشاب لم يكن ليتزحزح عما انتواه . فأجابه داود جوابا بسيطا متواضعا مخبرا إياه باختباره حين كان يرعى غنم أبيه إذ قـــال له : ( الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني . فقال شاول لداود : اذهب وليكن الرب معك ) .AA 581.1
لقد ظل رجال إسرائيــل خائفين ومرتعبين أربعين يوما وهم يسمعون التعييرات المتعجرفة التي كان ينطق بها ذلك الفلسطيني ، فذابت قلوبهم وهم ينظرون إلى جسمه الضخم الهائل إذ كان طوله ست أذرع وشبر ، وكان يلبس على رأسه خوذة من نحاس ودرعا حرشفيا وزنه خمسة آلاف شاقل نحاس ، وكان على رجليه جرموقا نحاس ودرعه من نحاس متداخل في بعضه كحراشف السمك ، كما كانت كل أجزائه متماسكة بحيث لا يمكن بأي حال أن تخترقه طعنات الرماح . وكذلك كان بين كتفيه مزراق نحاس ( وقناه رمحه كنول النساجين ، وسنان رمحه ست مئة شاقل حديد ، وحامل الترس كان يمشي قدامه ) .AA 581.2
كان جليات يقترب من معسكر إسرائيــل صباحا ومساء ويقول لهم بصوت عال : ( لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب ؟ أما أنا الفلسطيني ، وأنتم عبيد لشاول ؟ اختاروا لأنفسكم رجلا ولينزل إليّ . فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيداً ، وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم عبيداً وتخدموننا . وقال الفلسطيني : أنا عيرت صفوف إسرائيل هذا اليوم . أعطوني رجلاً فنتحارب معاً ) .AA 581.3
ومع أن شاول أعطى داود إذنا بقبول تحدى جليات إلا أن أمله بانتصار داود في ذلك العمل الباسل كان ضئيلا ، غير أنه أمر بأن يلبسوا داود عدة الملك نفسه ، فألبس خوذة النحاس الثقيلة على رأسه ، ووضع الدرع الحرشفي على جسمه وتقلد سيف الملك . وإذ لبمس عدة الحرب تقدم لمنازلة الجبار . ولكن سرعان ما بدأ يتراجع . وأول ما خطر للمشاهدين الجزعين حين رأوه يفعل هكذا هو أن داود قــــد عدل عن المخاطرة بحياته في منازلة خصم لس هو ندا له . إلا أن هذا لم يكن ليخطر على بال ذلك الشاب الشجاع ، إذ حين عاد إلى شاول التمس منه أن يسمح له بنزع تلك الأسلحة الثقيلة قـائــلاً : ( لا أقدر أن أمشي بهذه ، لأنـــي لم أجربها ) وعندما نزع عنه سلاح الملك استبدله بعصاه وكنف الرعاة ومقلاع . ثم انتخب خمسة حجارة ملس من الوادى ووضعها في الكنف وأخذ عصاه بيده واقترب من الفلسطيني . سار الجبار بشجاعة إلى الأمام وهو يتوقع أن خصمه سيكون أقوى محاربي إسرائيــل ، كما كان حامل سلاحه يسير أمامه وقــد تراءى له أنه لا يمكن أن أية قوة تثبث أمامه . وحينما اقترب من داود لم ير غير شاب مراهق يمكن أن يدعى غلاما لصغر سنه ، إلا أن محياه كان موفور الصحة ، كما كان ذا قوام مفتول ، وكونه أعزل يجعل الأمر في صالح ذلك الجبار ، كما كان الفرق عظيما جدا بين ضآلة جسمه وضخامة جسم ذلك الفلسطيني .AA 581.4
امتلأ جــليات دهشة وغيظا فصاح ( ألعلي أنا كلب حتى أنك تأتي إلي بعصي ؟ ) ثم جعل يصب أفظع لعناته على داود باسم كل الآلهة التي عرفها ، وفي سخرية واحتقار . قـــال له : ( تعال إلي فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية ) .AA 582.1
لكن داود لم يضعف أمام ذلك المبارز الفلسطيني ، بل إذ تقدم إلى الأمام قـــال لخصمه : ( أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس ، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيّرتهم . هذا اليوم يحبسك الرب في يدي ، فأقتلك وأقطع رأسك . وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض ، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل . وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلّص الرب ، لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا ) .AA 582.2
كان داود يتكلم بكل شجاعة وكانت ترى على وجهه لوائح النصر ، والفرح ، فنطق بهذا الكلام بصوته الموسيقي الجلي الذي حمل على أجنحة الهواء ، وسمعته بكل وضوح ألوف الرجال المصطفين للحرب إذ كانوا يصيحون السمع إلى ما قـــال . لقد بلغ غضب جليات أقصى حدوده . وفي غضبه أزاح الخوذة التي كانت تقي جبهته واندفع إلى الأمام ليثأر من خصمه ، حيث كان ابن يسى متأهبا لمنازلة عدوه ، ( وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني . ومدّ داود يده إلى الكنف وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع ، وضرب الفلسطيني في جبهته ، فارتز الحجر في جبهته ، وسقط على وجهه على الأرض ) .AA 582.3
عقدت الدهشة ألسنة كل رجال الجيشين الذين كانوا موقنين أن داود سيقتل ، ولكن عندما انطلق الحجر يصفو في الهواء إلى هدفه مباشرة ، تطلع رجال الجيش وإذا بالجبار يرتجف ويمد يده إلى الأمام كما لو كان قــــد أصيب بالعمى المفاجئ ، ثم صار الجبار يتمايل ويترنح حتى سقط على الأرض كما لو كان شجرة بلوط . لم يتوان داود برهة واحدة ، بل وثب على جسم ذلك الفلسطيني المجندل ، وبكلتا يديه أمسك بسيف جليات الثقيل . لقد كان ذلك الجبار يفتخر قبل ذلك بلحظة أنه بذلك السيف سيفصل رأس داود عن جسده ويعطي لحمه لطيور السماء . ولكن ها هو السيف يرتفع في الهواء وإذا برأس ذلك الفلسطيني المتعجرف ينفصل عن جسده ، فيرتفع صوت الهتاف والابتهاج من معسكر إسرائيــل .AA 583.1
حينئذ شمل جيوش الفلسطينيين رعب عظيم وأصابهم الارتباك فولوا الأدبار ، واندفعوا هاربين . وقــد رددت قمم الجبال صدى صيحات انتصار العبرانيين وهم يندفعون لمطاردة أعدائهم الهاربين ، ( لحقوا الفلسطينيين حتى مجيئك إلى الوادي ، وحتى أبواب عقرون . فسقطت قتلى الفلسطينيين في طريق شعرايم إلى جت وإلى عقرون . ثم رجع بنو إسرائيل من الاحتماء وراء الفلسطينيين ونهبوا محلتهم . وأخذ داود رأس الفلسطيني وأتي به إلى أورشليم ، ووضع أدواته في خيمته ) .AA 583.2
* * * * *