Loading...
Larger font
Smaller font
Copy
Print
Contents
الاباء والانبياء - Contents
  • Results
  • Related
  • Featured
No results found for: "".
  • Weighted Relevancy
  • Content Sequence
  • Relevancy
  • Earliest First
  • Latest First
    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents

    الفصل الخامس والأربعون—سقوط أريحا

    لقد دخل العبرانيون كنعان ولكنهم لم يخضعوها ، وكان يبدو للعين البشرية أن الصراع في سبيل امتلاك الأرض سيكون طويلا وشاقا ومريرا ، إذ كان يقطن البلاد أقوام أشداء ، وقد وقفوا على تمام الأهبة لصد أي عدوان يقوم به الغزاة على أراضيهم . وقفت تلك القبائل صفا واحدا إذ وحد بينها الخوف من وقوع خطر شامل ، وكانوا متفوقين على الغزاة بخيلهم ومركباتهم الحربية الحديدية ومعرفتهم للبلاد وتدريبهم الحربي . زد على ذلك أن في البلاد معاقل وحصونا ( ومدنا عظيمة ومحصنة إلى السماء ) (تثنية 9 : 1) ولكن الإسرائيليين لم يكونوا يؤملون في النصرة والنجاح في ذلك الصراع الموشك أن ينشب إلا لكونهم واثقين بقوة خارجة عنهم ستهب لنجدتهم .AA 433.1

    ومن أمنع االمدن الحصينة في البلاد التي وقفت أمامهم تماما كانت مدينة أريحا العظيمة والغنية ، على مسافة قصيرة من محلتهم في الجلجال . فعلى أطراف سهل خصيب غني بمختلف ثمار المناطق الحارة ، حيث كانت القصور والهياكل التي كانت مباءة للترف والرذيلة وقف تلك المدينة المتشامخة خلف استحكاماتاها الهائلة تتحدى إله إسرائيل . كانت أريحا من المراكز الرئيسية لعبادة الأوثان وكانت مكرسة لعبادة عشتاروث إلهة القمر . وفي الهكيل تركزت كل القبائح ، وأشنع وأفسد وأحط ما كانت عليه عبادة الكنعانيين . إن بني إسرائيل الذين ما زالو يذكرون النتائج المخيفة الناجمة عن خطيتهم التي ارتكبوها عند بعل فغور كانوا ينظرون إلى هذه المدينة الوثنية باشمئزاز ورعب .AA 433.2

    وقد رأى يشوع أن الانتصار على أريحا سيكون الخطوة الأولى في غزو كنعان . ولكنه طلب قبل كل شيء التأكد من إرشاد الله . فمنح له ما طلب ، فإذ خرج من المحلة لأجل التأمل والصلاة طالبا من إله إسرائيل أن يسير في طليعة شعبه رأى أمامه رجل حرب مسلحا طويل القامة وله هيئة مهيبة ( وسيفه مسلول بيده ) وجوابا على سؤال يشوع القائل : ( هل لنا أنت أو لأعدائنا ؟ ) جاوبه بقوله : ( كلا ، بل أنا رئيس جند الرب . الآن أتيت ) (يشوع 5 : 13 — 15 و الإصحاحان 6 ، 7) وقد صدر إليه الأمر الذي صدر إلى موسى في حوريب . ( اخلع نعلك من رجلك ، لأن المكان الذي أنت واقف عليه هو مقدس ) . وهكذا انكشفت ليشوع حقيقة ذلك الغريب المجهول . لقد كان المسيح الممجد هو الذي كان واقفا قبالة قائد إسرائيل ، فسقط يشوع على وجهه وهو مرتعب وسجد له . فسمعه يقول له مؤكدا : ( انظر ، قد دفعت بيدك أريحا وملكها ، جبابرة البأس ) . ثم أعطاه التعليمات اللازمة للاستيلاء على المدينة .AA 433.3

    وامتثالا للأمر الإلهي صف يشوع جيوش إسرائيل الذين لم يكن عليهم أن يقوموا بأي هجوم ، بل كل ما طلب منهم هو أن يدوروا دائرة في المدينة حاملين تابوت الله ونافخين في الأبواق . سار المحاربون في المقدمة وكانوا جماعة منتخبة ، لا ليغزوا المدينة الآن بمهارتهم أو شجاعتهم بل ليطيعوا الأوامر الصادرة إليهم من الله ، ويتبع هؤلاء سبعة كهنة يحملون أبواق الهتاف ، وبعد ذلك أتى تابوت الله تحيط به هالة من المجد الإلهي وهو محمول على أكتاف الكهنة اللابسين اللباس الرسمي الذي يدل على وظيفتهم المقدسة . وتبع هؤلاء جيش إسرائيل ، وكل سبط يسير تحت رايته . هذا هو الموكب الذي دار حول المدينة المحكوم عليها بالهلاك . ولم يكن يسمع سوي وقع أقدام الجبابرة وأصوات الأبواق التي كان يرن صداها في جوانب التلال وفي شوراع أريحا . فلما أتموا الدورة عاد رجال الجيش إلى خيامهم صامتين ووضع التابوت في مكانه في خيمة الاجتماع .AA 434.1

    كان حراس المدينة يراقبون كل حركة بدهشة وهلع وأخبروا السلطات الحاكمة بكل شيء . ولم يكونوا يدرون شيئا عن معنى كل هذا العرض ، ولكنهم عندما شاهدوا الجيش العظيم يدور حول المدينة مرة كل يوم ومعهم التابوت والكهنة الملازمون له ملأ سر المشهد قلوب كهنة المدينة وشعبها رعبا . ومرة أخرى فصحوا مراكز دفاعهم واثقين بأنها ستصمد أمام أعنف الهجمات . وقد سخر كثيرون منهم من الظن بأن أي ضرر يمكن أن يلحق بهم من هذه المظاهرات الشاذة ، بينما خاف آخرون وهم يرون الموكب يدور دائرة المدينة مرة كل يوم . لقد ذكروا أن البحر الأحمر قد انشق يوما أمام هذا الشعب ، وأن مياه نهر الأردن قد انفلقت فانفتح لهم فيه طريق وعبروا على اليابسة . ولم يكونوا يعلمون أية عجائب أخرى يمكن أن يصنعها الله لهم .AA 434.2

    وطوال ستة أيام ظل الشعب يدورون حول المدينة مرة كل يوم . فلما بزغ فجر اليوم السابع صف يشوع جيوش الرب . وفي هذا اليوم قيل لهم أن يدوروا دائرة أريحا سبع مرات ، وعندما يسمعون أصوات الأبواق العظيمة ، عليهم أن يهتفوا بصوت عظيم لأن الرب قد أعطاهم المدينة .AA 435.1

    دار ذلك الجيش العظيم بوقار حول الأسوار المرصدة ، وكان الجميع صامتين ، فلم يكن يسمع غير وقع أقدامهم المنتظم وصوت البوق ، في أحيان ، مزعجا سكون ساعات الصباح الباكر . وقد بدا كأن أسوار الميدنة المبنية من الأحجار المتينة تتحدى أولئك المحاصرين . وكان حراس الأسوار يراقبون ، وقد وقفوا على أطراف أصابعهم ليروا الشعب بعد ما داروا حول المدينة الجولة الأولى وإذ بهم يدورون حولها مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة . ترى ما الغرض من هذه الحركات الغامضة ؟ وأية حادثة عظيمة تتهددهم ؟ لم يكن لهم أن ينتظروا وقتا أطول ففي نهاية الجولة السابعة توقف الموكب . وإذا بالأبواق التي صمتت أصواتها بعض الوقت تنطلق أصواتها عالية مدوية فتزلزل الأرض ، وإذا بالأسوار المبنية بالأحجار المتينة وما فيها من حصون هائلة واستحكامات تهتز وتسقط من أساسها وبصوت تحطيم هائل تصير حطاما ، فشل الرعب تفكير سكان أريحا وقواهم ، وتقدمت جيوش إسرائيل وامتلكت المدينة .AA 435.2

    إن الإسرائيليين لم يحرزوا الانتصار بقوتهم ولكن النصرة كانت بجملتها من الرب . وكباكورة الأرض كان ينبغي أن تكرس المدينة بكل ما فيها ذبيحة لله ، كما كان ينبغي أن ينطبع هذا الفكر على عقول بني إسرائيل وهو أنهم في غزوهم لكنعان لم يكونوا يحاربون لأجل أنفسهم ، ولكن على اعتبار أنهم مجرد آلات لتنفيذ إرادة الله ، لا سعيا وراء الغنى وتمجيد الذات ، بل ليطلبوا مجد الرب ملكهم . وقبل احتلال المدينة صدر أمر إلى الشعب يقول : ( فتكون المدينة وكل ما فيها محرما للرب ... فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا ... وتجلعوا محلة إسرائيل محرمة وتكدروها ) .AA 435.3

    وقد حرم كل سكان المدينة مع كل الكائنات الحية فيها ( من رجل وامرأة ، من طفل وشيخ ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف ) ، ولم يبق غير راحاب الأمينة وبيتها إنجازا لوعد الجاسوسين لها . أما المدينة فقد أضرمت فيها النار فاحترقت فصورها وهياكلها ومساكنها الفخمة بكل ما تحتويه من نفائس وغنائم وبكل ما فيها من أنسجة غالية وحلل جميلة - هذه كلها ذهبت طعاما للنار وكل ما لا يمكن أن تحرقه النار . ( الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدسا للرب وتدخل في خزانة الرب ) . حتى نفس موقع المدينة حلت عليه اللعنة . فلم يكن ليعاد بناء أريحا مرة أخرى كمعقل حصين ، وقد نطق بويلات وتهديدات رهيبة على أي إنسان يجرؤ على إعادة بناء أسوراها التي قد هدمت بقوة الله . ثم نطق يشوع بهذا الإعلان على مسامع كل إسرائيل : ( ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا . ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها ( .AA 435.4

    كان الهلاك الشامل الذي حل بشعب أريحا إنجازا لأوامر الرب التي كان قد أصدرها إلى الشعب عن يد موسى من قبل والخاصة بسكان كنعان حيث يقول : وضربتهم ، فإنك تحرمهم ) ( وأما مدن هؤلاء الشعوب ... فلا تستبق منها نسمة ما ) (تثنية 7 : 2 ، 20) إن كثيرين يعتبرون هذه الأوامر مناقضة لروح المحبة والرحمة التي يأمرنا الرب بها في مواضع أخرى في الكتاب . ولكنها كانت بالحق أوامر تنطوي على الحكمة والصلاح الغير المحدودين . لقد كان الله مزمعا أن يثبت قدم إسرائيل في كنعان ، وأن ينشئ بينهم أمة وحكومة لتكون مظهرا لملكوته على الأرض . لم يكن مطلوبا منهم أن يكونوا ورثة الدين الحقيقي وحسب ، بل كان عليهم أن ينشروا مبادئ ذلك الدين في كل العالم . كان الكنعانيون قد انغمسوا في أحط العبادات الوثنية وأنجسها فكان من اللازم أن تنقى البلاد من كل ما يعطل إتمام مقاصد الله الرحيمة .AA 436.1

    إن سكان كنعان قد أعطيت لهم فرصة كافية للتوبة ، إذ قبل ذلك بأربعين سنة شهد انشقاق البحر الأحمر والضربات التي حلت بمصر على قدرة إله إسرائيل الفائقة . والآن فقد برهنت هزيمة ملوك مديان وجلعاد وباشان على أن الرب علي فوق كل الآلهة . ثم أن قداسة صفاته وكراهيته للنجاسة برهنت عليها العقوبات التي حلت بشعب إسرائيل جزاء اشتراكهم في الطقوس الرجسة الخاصة ببعل فغور . كل هذه الحوادث كانت معروفة لدى أهل أريحا . وقد كان هنالك كثيرون ممن شاركوا راحاب في اقتناعها مع أنهم رفضوا إطاعته وهو أن إله إسرائيل ( هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت ) فكان أولئك الكنعانيون قريبي الشبه بالعالم الذي عاش قبل الطوفان في كونهم عاشوا فقط ليجدفوا على السماء وينجسوا الأرض . فالمحبة والعدل كلاهما كانا يتطلبان الهلاك السريع لأولئك القوم الذين كانوا متمردين على الله وأعداء لبني الإنسان .AA 436.2

    ما أعظم السهولة التي بها أسقطت أجناد السماء أسوار أريحا ، تلك المدينة المتكبرة التي منذ أربعين سنة مضت ألقت متاريسها وحصونها الرعب في قلوب الجواسيس العديمي الإيمان ! قال قدوس إسرائيل القدير : ( قد دفعت بيدك اأريحا ) وأمام كلمة الله هذه وقفت القوة البشرية عاجزة .AA 437.1

    ( بالإيمان سقطت أسوار أريحا ) (عبرانيين 11 : 30) . إن رئيس جند الرب لم يكن يتصل بغير يشوع . لم يعلن نفسه للجماعة كلها ، وقد كان عليهم إما أن يصدقوا أقوال يشوع أو يشكوا فيها ، أن يطيعوا أوامره التي يصدرها إليهم باسم الرب أو أن ينكروا عليه سلطانه . إنهم لم يستطيعوا رؤية أجناد الملائكة الذين كانوا يلازمونهم تحت قيادة ابن الله ، فكان يمكنهم أن يتحاجوا قائلين : ( ما هذه التحركات التي لا معنى لها ، وكم هو أمر موجب للهزء أن ندور حول أسوار هذه المدينة كل يوم ضاربين بأبواق من قرون الكباش ؟ إن هذا لا يؤثر أبدا في هذه الاستحكامات الهائلة ) . ولكن هذا التدبير عينا القائم على مواصلة هذا الإجراء حول المدينة وقتا طويلا قبيل سقوط الأسوار نهائيا أعطى الإسرائيليين فرصة كافية فيها نما إيمانهم وتقوى . وكان الرب يريد أن يطبع في عقولهم أن قوتهم ليست في الحكمة أو القوة البشرية بل في إله خلاصهم ، فكان عليهم بهذه الكيفية أن يعتادوا الاعتماد الكلي على قائدهم الإلهي .AA 437.2

    إن الله لا بد من أن يصنع عظائم لمن يثقوا به . إن السبب الذي لأجله نجد المدعوين شبعه لا يملكون قوة أعظم هو أنهم يركنون كثيرا إلى حكمتهم ولا يعطون للرب فرصة ليعلن قدرته لخيرهم . إذ لا بد من أن يساعد أولاده المؤمنين به في كل طارئ إذا كانوا يضعون ثقتهم الكاملة فيه ويطيعونه بأمانة .AA 437.3

    على إثر سقوط أريحا عول يشوع على مهاجمة عاي ، وهي مدينة صغيرة تقع في واد ضيق بين الجبال على مسافة بضعة أميال غربي وادي الأردن . وقد عاد الجواسييس الذين أرسلو إليها يقولون إن سكان المدينة قليلون وإن الأمر لا يحتاج إلا إلى قوة صغيرة لتخريب المدينة .AA 437.4

    إن الانتصار العظيم الذي أحرزه الله لهم جعل الإسرائيليين يثقون بأنفسهم ، ولكونه قد وعد أن يعطيهم أرض كنعان أحسوا بالطمأنينة ، غير أنهم أخفقوا في التأكد من أن معونة الله هي وحدها التي تعطيهم النجاح . وحتى يشوع نفسه رسم الخطة لغزو عادي دون استشارة الله .AA 437.5

    بدا الإسرائيليون يمجدون قوتهم الذاتية ، ناظرين إلى أعدائهم بكل ازدراء . فكانوا ينتصرون انتصارا هينا ، ظانين أن قوة قومها ثلاثة آلاف رجل كافية لأخذ المدينة . وهؤلاء اندفعوا في هجومهم قبل التأكد من أن الله سيكون معهم ، وتقدموا إلى أن كادوا يصلون إلى باب المدينة ، وإذا بهم يواجهون بأعنف مقاومة عنيدة ، وإذ أصابهم الرعب لدى رؤيتهم كثرة عدد أعدائهم واستعدادهم العظيم فروا بغير انتظام في ذلك المنحدر السحيق الانحدار ، وقد جد الكنعانيون في تعقبهم . ( ولحقوهم من أمام الباب ... وضربوهم في المنحدر ) . ومع أن خسارتهم في الأرواح كانت طفيفة — إذ لم يقتل غير ستة وثلاثين رجلا - فإن الهزيمة أضعفت قلوب كل الجماعة ( ذاب قلب الشعب وصار مثل الماء ) . لقد كانت هذه أول مرة يواجعون فيها الكنعانيين في معركة حامية ، فإذا كانوا يهربون أمام حماة هذه المدينة الصغيرة فماذا تكون نتيجة المعارك العظمى التي تنتظرهم ؟ رأى يشوع في هزيمة أولئك الرجال دليلا على سخط الله ، ففي ضيقته وخوفه ( مزق ... ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى السماء ، هو وشيوخ إسرائيل ، ووضعوا ترابا على رؤوسهم ) .AA 438.1

    وصرخ يشوع قائلا : ( آه يا سيد الرب ! لماذا عبرت هذا الشعب الأردن تعبيرا لكي تدفعنا إلى يد الأموريين ليبيدونا ؟ ... أسألك يا سيد : ماذا أقول بعدما حول إسرائيل قفاه أمام أعدائه ؟ فيسمع الكنعانيون وجيمع سكان الأرض ويحيطون بنا ويقرضون اسمنا من الأرض . وماذا تصنع لاسمك العظيم ؟ ) .AA 438.2

    فجاءه جواب الرب يقول : ( قم ! لماذا أنت ساقط على وجهك ؟ قد أخطأ إسرائيل ، بل تعدوا عهدي الذي أمرتهم به ) . لقد كان ذلك الوقت وقت عمل سريع حاسم ، لا وقت يأس أو رثاء . كانت خطية خفية في المحلة ، وكان لا بد من اكتشافها والتخلص منها قبلما يضمنون حضور الرب بينهم وحلول بركته عليهم ( ولا أعود أكون معكم إن لم تبيدوا الحرام من وسطكم ) .AA 438.3

    إن واحدا ممن أسند إليهم أمر تنفيذ أحكام الله استخف بأمر الرب فوقعت الأمة كلها تحت مسؤولية جريمة ذلك المذنب . ( أخذوا من الحرام ، بل سرقوا ، بل أنكروا ) أعطى الرب تعليماته ليشوع بشأن اكتشاف ذلك المجرم وإدانته . وكان لا بد من أن تلقى القرعة لمعرفة المجرم . إن ذلك الخاطئ لم يكتشف في الحال ، إذ ترك الأمر موضع شك بعض الوقت لكي يحس الشعب بمسئوليتهم حيال الخطايا في وسطهم . وهذا يقودهم بالطبع إلى فحص قلوبهم والتذلل أمام الله .AA 438.4

    فبكر يشوع في صبيحة اليوم التالي وقدم إسرائيل بأسباطه ، وبدأ ذلك الاجتماع المقدس المؤثر . سارت عملية الفحص خطوة فخطوة ، وظلت دائرة الفحص المخيف تضيق شيئا فشيئا ، فبدأت أولا بالسبط ثم بالعشيرة ثم بالبيت ، وأخيرا أخذ الرجل ، إذ أشار إصبع الله إلى عخان بن كرمي من سبط يهوذا على أنه هو مكدر إسرائيل .AA 439.1

    ولكي تثبت إدانته فوق كل شك أو تساؤل ، وحتى لا يبقى هنالك مجال للطعن في الحكم بأنه حكم جائر استحلف يشوع عخان أن يعترف بالحق ، فذلك الرجل التعس اعترف كاملا بجريمته إذ قال : ( حقا إني قد أخطأت إلى الرب إله إسرائيل ... رأيت في الغنيمة رداءً شنعاريا نفيسا ، ومئتي شاقل فضة ، ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلا ، فاشتهيتها وأخذتها . وها هي مطمورة في الأرض في وسط خيمتي ، والفضة تحتها ) فأرسل رسل في الحال إلى الخيمة وأزاحوا التراب عن المكان المعين ( وإذا هي مطمورة في خيمته والفضة تحتها . فأخذوها من وسط الخيمة وأتوا بها إلى يشوع ... وبسطوها أمام الرب ) .AA 439.2

    فحكم عليه ونفذ الحكم في الحال . قال له يشوع : ( كيف كدرتنا ؟ يكدرك الرب في هذا اليوم ! ) وحيث أن جميع الشعب اعتبروا مسؤولين عن خطية عخان وتألمو من نتائجها فقد اشتركوا في إيقاع القصاص عليه عن طريق ممثليهم ، ( فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة ) .AA 439.3

    وبعد ذلك أقامو فوقه رجمة حجارة عظيمة شهادة على الخطية وعقابها ( لذلك دعي اسم ذلك المكان « وادي عخور» (وادي التكدير) . وفي سفر الأخبار الأول (2 : 7) يذكره الكتاب قائلا : ( عخار مكدر إسرائيل ) .AA 439.4

    إن خطية عخان ارتكبت في تحد سافر لأخطر الإنذارات المباشرة البالغة الخطورة ولأعظم مظاهر قدرة الله . فالإنذار الذي وصل إلى مسامع كل إسرائيل هو هذا . ( احترزوا من الحرام لئلا تحرموا ( وقد أعطي لهم هذا الإنذار حالا عقب عبورهم الأردن بكيفية عجائبية ، وعقب الاعتراف بعهد الله في إجراء فرضية الختان لشعب كله ، وبعد ممارسة الفصح ، وبعد ظهور ملاك العهد أي رئيس جند الرب ، ثم تبع ذلك سقوط أريحا كبرهان على السقوط الذي سيحل بكل من يتعدون شريعة الله . وإن حقيقة كون قدرة الله هي وحدها التي أعطت النصرة لإسرائيل ، وأنهم لن يستولوا على أريحا بقوتهم أعطت قوة ووزنا للنهي الذي به نهاهم الرب عن أخذ شيء من الغنائم . وحيث أن الله بقوة كلمته هو الذي أسقط ذلك الحصن المنيع إذا فالغلبة له ، وله وحده تخصص المدينة وكل ما فيها .AA 439.5

    ومن بين ملايين شعب إسرائيل لم يكن غير رجل واحد قد تعدى أمر الله في تلك الساعة المقدسة ، ساعة النصرة والدينونة ، إذ أثار جشع عخان منظر ذلك الرادء الشنعاري النفيس . وحتى حين واجه بسببه الموت ، دعاه ( رداءا شنعاريا نفيسا ) إن ساقته إلى أخرى فوضع يده على الذهب والفضة المكرسين لخزانة الرب ، فسلب حق الله في باكورات كنعان .AA 440.1

    إن الخطية القاتلة التي أدت إلى هلاك عخان كان أصلها الطمع ، الذي هو من أكثر الخطايا تفشيا ، ومع ذلك فالناس يستخفون أكثر ما يستخفون به . وبينما الخطايا الأخرى تكتشف ويعقاب فاعلها ، فما أندر أن يوبخ من يتعدون الوصية العاشرة ! وهول هذه الخطية ونتائجها الفظيعة هي الدروس التي نتعلمها من تاريخ عخان .AA 440.2

    إن الطمع هو شر ينمو تدريجا . لقد ربى عخان في قلبه خطية الطمع في الكسب حتى غدت عادة قيدته بقيودها فصار من الصعب عليه تحطيمها . وإذ ظل مراعيا هذا الشر في قلبه ، كان ينبغي أن فكرة كونه يتسبب في جلب أية كارثة على إسرائيل تملأه رعبا . ولكن الخطية أماتت إحساسه ، فلما هاجمته التجربة سقط فريسة سهلة أمامها .AA 440.3

    ألا ترتكب خطايا أخرى مشابهة لهذه مع وجود الإنذارات الخطيرة والقاطعة ؟ إن الرب ينهانا نهيا مباشراً عن الطمع كما قد نهى عخان عن أخذ أي شيء من غنائم أريحا . لقد أعلن الرب أن الطمع هو عبادة أوثان ، وهو يحذرنا بقوله : ( لا تقدرون أن تخدموا الله والمال ) (كولوسي 3 : 5 ، متى 6 : 24) . ثم نجد في (لوقا 12 : 15) قول السيد ( تحفظوا من الطمع ) . والرسول يقول عنه : ( لا يسم بينكم ) (إفسس 5 : 3) إن أمامنا الدينونة الرهيبة التي حلت بعخان ويهوذا وحنانيا وسفيرة . وقبل هذا كله نجد ما أصاب لوسيفر ( زهرة ، بنت الصبح ،) الذي لما اشتهى مركز أسمى أضاع إلى الأبد حقه في بهاء السماء وسعادتها . ومع كل هذه الإنذارات فإن الطمع لا يزال متفشيا .AA 440.4

    في كل مكان ترى آثار الطمع الموحلة ، وهو الذي يخلق السخط والشقاق في العائلات ويثير الحسد والبغضة في قلوب الفقراء ضد الأغنياء ويدفع الأغنياء إلى أن يظلموا الفقراء ويسحقوهم . إن هذا الشر لم يقتصر على العالم الخارجي وحده ولكنه تغلغل في داخل الكنيسة . وكم هو أمر شائع حتى في الكنيسة أن نجد الأنانية والطمع والخداع وإهمال عمل الإحسان وسلب حقوق الله ( في العشور والتقدمة ) ! إننا نقول والحسرة تملأ قلوبنا بأن هناك بين أعضاء الكنائس بعض من يشغلون مراكز مرموقة وهم أمثال عخان . يحدث كثيرا أن يأتي رجال إلى الكنيسة بانتظام ويشترك في مائدة الرب بينما لديه أموال مخبوءة وهي غير محللة أو مشروعة ، أرباح لعنها الله . إن كثيرين في سبيل إحراز الرداء الشنعاري النفيس يضحون بسلام الضمير والرجاء في السماء . وكثيرون يبادلون عن استقامتهم ونزاهتهم ونفعهم بكيس به حفنة من شواقل الفضة . إن صرخات المساكين المتألمين قلما يتلفت إليها ، ونور الإنجيل يحجز ، وسخرية أهل العالم تشتعل في ممارسات تظهر كذب المجاهرة بالمسيحية . ومع ذلك فإن مدعي المسيحية الجشع يظل يكوم الأموال . يقول الرب : ( أيسلب الإنسان الله ؟ فإنكم سلبتموني ) (ملاخي 3 : 8) .AA 441.1

    إن خطية عخان أوقعت كارثة على الأمة كلها . فبسبب خطية إنسان واحد يحل سخط الله على الكنيسة حتى تكشف الخطية وتنتزع . فالتأثير الذي يخشى على الكنيسة منه أكثر من غيره ليس هو تأثير من يجاهرون بعدوانهم لها ولا تأثير الملحدين أو المجدفين ، بل هو تأثير المتقلبين وغير الثابتين ممن يعترفون بالمسيح . هؤلاء هم الذين يعطلون انسكاب بركة الله على شعبه ويضعفون من قوتهم .AA 441.2

    وحين تعترض الكنيسة مشكلة ، وحين يستولي على أعضائها الفتور والانحطاط الروحي ، الأمر الذي يعطي المجال لأعداء الله أن ينتصروا ، حينئذ بدلا من أن يقف الأعضاء مكتوفي الأيدي وينبدوا سواء حالهم فليسألوا عما إذا كان هنالك عخان بين جماعة الرب . ففي تذلل واختبار للنفس ليحاول كل عضو أن يكتشف خطاياه المحببة التي تمنع حضور الله .AA 441.3

    لقد اعترف عخان ولكنه اعتراف جاء متأخرا جدا بحيث لم يجده نفعا . رأى جيوش إسرائيل ترتد على عاي منهزمة وخائفة وخائرة ومع ذلك لم يتقدم ليعترف بخطيته . رأى يشوع وشيوخ إسرائيل منحنين ومنسحقين من فرط الحزن الذي لا يعبر عنه ، فلو اعترف حيئنذ لكان قد برهنا على صدق توبته ، ولكنه ظل صامتا ، ثم أصغى إلى الإعلان القائل بأن جريمة هائلة قد ارتكبت وسمع الأوصاف التي تحدد تلك الجريمة ، ولكنه ظل سادرا في صمته وانكاره . وحينئذ جاء الفحص الرهيب ، ويا لهول الرعب الذي استولى على نفسه حين رأى سبطه يؤخذ ثم عشريته ثم بيته ! ومع ذلك فلم يعترف حتى أشارت إليه إصبع الله وحيئنذ لما لم يسعه إنكار خطيته أو سترها اعترف بالحق . فكم من مرة يقدم الناس اعترافات شبيهة بهذا الاعتراف ! هنالك فرق عظيم بين أن يعترف الإنسان بالحقائق بعدما قدم عنها البرهان الساطع ، وبين الاعتراف بها حين لا يعرفا أحد غيرنا نحن وغير الله . ولولا أن غخان كان يرجو أنه باعترافه سيتفادى عواقب جريمته لما كان اعترف إطلاقا . ولكن اعترافه دل فقط على أن قضاء الله كان عادلا . فلم تكن هنالك توبة صادقة عن الخطية ولا انسحاق ولا تغيير لمقاصده ولا كراهية الشر .AA 442.1

    هكذا سيقدم الأشرار اعترافاتهم حين يقفون أمام عرش دينونة الله بعدما يتقرر مصير كل إنسان إن للحياة أو للموت . ومن نتائج ذلك للخاطئ أنه سيلتزم بأن يعترف بخطيته . وسيقسر الناس على ذلك الاعتراف إحساسها بهول الدينونة المخيفة وانتظارها . إلا أن مثل تلك الاعترافات لن تخلص الخاطئ .AA 442.2

    إن كثيرين كعخان يظنون أنهم في أمان ما داموا قادرين على كتمان خطاياهم عن الناس ، وخداع نفوسهم بالقوة إن الله لن يدقق في مراقبة الإثم . وبعد فوات الأوان ستكتشفهم خطاياهم في ذلك اليوم الذي فيه لا يكفر عنها بذيحة أو تقدمة إلى الأبد . وحين تفتح الأسفار فالديان لن يعلن للإنسان جريمتته بالكلام ولكنه سيصوب إليه فقط نظرة فاحصة تثبت جريمته . وحيئنذ سينطبع على ذاكرة المجرم كل عمل وكل صفقة عقدها في الحياة . ولن يحتاج الأمر كما في أيام يشوع اإلى تعقب الخاطئ من سبط الى عشيرة . ولكن شفتيه ستعلنان عاره . والخطايا المستورة عن عيون الناس ستعلن على ملأ من كل العالم .AA 442.3

    * * * * *

    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents