Loading...
Larger font
Smaller font
Copy
Print
Contents
الاباء والانبياء - Contents
  • Results
  • Related
  • Featured
No results found for: "".
  • Weighted Relevancy
  • Content Sequence
  • Relevancy
  • Earliest First
  • Latest First
    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents

    الفصل الرابع عشر—هلاك سدوم

    ----------------------

    كانت سدوم أجمل مدن وادي الأردن ، واقعة في سهل كان « كجنّة الرب » (تكوين 13 : 10) في خصوبته وجماله ، هنا ازدهرت خضرة المناطق الحارة اليانعة ، هنا كان موطن النخلة والزيتونة والكرمة ، وكانت رائحة الأزهار تعطّر الأرجاء على مدار السنة ، وقد ملأت المحاصيل الغنية الحقول ، واكتست بقطعان الغنم والبقر سفوح التلال الغنية بمراعيها الدسمة . ولقد ساهم الفن والتجارة في جعل تلك المدينة المتكبرة بين مدن السهل غنية ، وازدانت قصورها بكنوز الشرق ، كما أن القوافل التي كانت تقطع الصحراء كانت تأتيها بكثير من الأشياء الثمينة النادرة لتمتلئ أسواقها بأصناف السلع المختلفة ، وبقليل من التفكير والتعب كانت تسد مطاليب الحياة ، فكانت أيام السنة كلها أفراحا وأعيادا .AA 131.1

    عن وفرة الغنى نتج الترف والكبرياء . والقلب الذي لم تضغطه الحاجة ولا تقسى بالأحزان يتقسى بالبطالة والغنى ، وأعانت الثروة والراحة على حب الملذات ، فانغمس الناس في الشهوات . يقول النبي حزقيال : ( هذا كان إثم أختك سدوم : الكبرياء والشّبع من الخبز وسلام الاطمئنان كان لها ولبناتها ، ولم تشدّد يد الفقير والمسكين ، وتكبّرن وعملن الرّجس أمامي فنزعتهنّ كما رأيت ) (حزيقال 16 : 49 ، 50) . ليس هنالك ما يشتهيه الناس أكثر من الغنى والراحة ، ومع ذلك فقد نتج عن هذه الأشياء الخطايا التي جلبت الهلاك على مدن السهل . إن حياة الكسل العديمة النفع جعلت منهم فرائس لتجارب الشيطان ، فشوهوا صورة الله وصاروا أقرب شبها بالشيطان . والكسل هو أقسى لعنة يمكن أن تحل بالإنسان ، لأن الرذائل والجرائم تسير في أثره ، إنه يضعف العقل ويفسد الإدراك ويذل النفس ، والشيطان يقف بالمرصاد مستعدا لإهلاك غير الحذرين الذين تعطيه راحتهم فرصة للتسلل إليهم وهو متنكر في ثوب جذاب ، إن أعظم نجاح يحرزه يتم له حين يأتي إلى الناس في ساعات البطالة .AA 131.2

    كان في سدوم طرب وعربدة وولائم ومجون وسكر ، وأطلقوا العنان لأحط الانفعالات النفسية وأشدها وحشية ، وتحدى الناس الله وشريعته علنا ، كما ابتهجوا بأعمال القسوة والظلم ، ومع أن عبرة هلاك الناس الذين عاشوا قبل الطوفان كانت ماثلة أمامهم ، وعرفوا كيف أن غضب الله قد تجلى في هلاكهم فإنهم مع ذلك سلكوا نفس طريق الشر الذي سلك فيه أولئك .AA 132.1

    في الوقت الذي انتقل فيه لوط إلى سدوم لم يكن الشر قد عم المدينة ، وسمح الله في رحمته أن تنير بعض أشعة النور في وسط تلك الظلمة الأخلاقية الداجية ، فحين خلّص إبراهيم الأسرى من أيدي العيلاميين اتجه اهتمام الناس إلى الإيمان الحقيقي . لم يكن إبراهيم غريبا في نظر شعب سدوم ، وكانت عبادته للإله الغير المنظور مثارا لسخريتهم ، إلا أن انتصاره على تلك الجيوش التي كانت تفوق جيشه إلى حد كبر ، وتصرفه الدال على كرم أخلاقه نحو الأسرى والغنيمة أثار فيهم الدهشة ، والإعجاب ، وبينما مجدوا مهارته وشجاعته اقتنعوا جميعهم أن قوة إلهية قد منحته النصرة . هذا ، وإن روحه النبيلة والمنكرة لذاتها والتي كانت أمرا غريبا بالنسبة لسكان سدوم الذين كانوا يطلبون ما لأنفسهم ، كانت دليلا آخر على سمو الديانة التي قد أكرمها إبراهيم بشجاعته وإخلاصه .AA 132.2

    إن ملكي صادق حين منح البركة لإبراهيم اعترف بالرب كمن هو مصدر قوته الذي منحه النصرة ، ( مبارك أبرام من الله العليّ مالك السّماوات والأرض ، ومبارك الله العليّ الّذي أسلم أعداءك في يدك ) (تكوين 14 : 19 ، 20) . لقد كان الله يكلم ذلك الشعب بعنايته ، ولكنهم رفضوا آخر أصوات الإنذار كما فعلوا من قبل .AA 132.3

    والآن ها قد اقتربت آخر ليلة من ليالي سدوم ، إن سحب النقمة كانت قد ألقت ظلالها على تلك المدينة الملعونة من قبل ولكن الناس لم يلاحظوا ذلك ، فإذ كان الملاكان يقتربان من المدينة للقيام بعملية التدمير كان الناس يحلمون بالمسرات والنجاح . كان آخر يوم ككل يوم آخر من الأيام الماضية ، وقد أقبل المساء على مشهد تجلى فيه الجمال والاطمئنان ، وسطعت أشعة الشمس قبيل غروبها على منظر غاية في الجمال ، وجعل المناخ المعتدل الجميل سكان المدينة يخرجون ليتمشوا في ذلك المساء ، فتلك الجماعات التي كانت تنشد السرور واللذة خرجت لتتنزه جيئة وذهابا بقصد التمتع بتلك الساعة .AA 132.4

    وفي نور الغسق الضئيل كان اثنان من الغرباء يقتربان من باب المدينة ، كان يبدو عليهما أنهما مسافران دخلا إلى المدينة ليبيتا ليلتهما ، ولم يكن أحد يعلم أن ذينك المسافرين المتواضعين هما رسولا دينونة الله القويان ، ولم يكن ذلك الجمهور السادر في مرحه ولهوه يدري أن في معاملته لذينك الرسولين القادمين من السماء سيصل إلى منتهى الإجرام التي ستقضي على مدينتهم بالهلاك في تلك الليلة عينها ، ولكن كان هنالك رجل أظهر شفقة واهتماما بذينك الغريبين فدعاهما إلى بيته . لم يكن لوط يعرف شخصيتهما الحقيقية ، ولكن كياسته وكرمه كانا من طباعه ومن مبادئه الدينية ، وهما من ضمن الدروس التي كان قد تعلمها من إبراهيم مثال الكرم وحسن الضيافة ، فلو لم تكن مبادئ الرقة والكرم قد غرست في قلبه ربما كان يترك ليهلك مع أهل سدوم ، وكثيرا ما تغلق عائلة بابها في وجه إنسان غريب ، فتكون بذلك قد طردت رسولا من رسل الله الذي كان يمكن أن يأتيها بالبركة والرجاء والسلام .AA 133.1

    كل عمل في الحياة مهما يكن صغيرا له نتائجه إن للخير أو للشر . إن الأمانة أو الإهمال فيما يبدو أنه أصغر واجب يمكن أن يفتح بابا يؤدى إلى أغنى بركات الحياة أو إلى أعظم النكبات . والأعمال الصغيرة هي محك الأخلاق ، فخدمات إنكار الذات غير المتصنعة التي نؤديها كل يوم بفرح وقلب راغب هي التي يسر بها الله . ينبغي أن نعيش لا لأنفسنا بل للآخرين ، وأننا إذ ننسى أنفسنا ونربي في دواخلنا روح المحبة والمعونة ، فبذلك وحده يمكن أن تكون حياتنا بركة ، إن أصغر خدمات الاهتمام واللطف والرقة هي التي تذهب بنا شوطا بعيدا لنيل سعادة الحياة ، بينما إهمال تلك الخدمات ينشأ عنه قدر من شقاء البشرية لا يستهان به .AA 133.2

    إن لوطا ، إذ رأى الإهانات التي استهدف لها الغرباء في سدوم ، اعتبر أن من واجبه أن يحمي ذينك الغريبين عند دخولهما ، بإضافته إياهما في بيته . كان جالسا في باب المدينة حين اقترب منه ذانك المسافران ، فلما رآهما قام لاستقبالهما ، وإذ سجد بوجهه أمامهما إلى الأرض احتراما قال لهما : ( يا سيّديّ ، ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا ) (انظر تكوين 19) . وقد بدا كأنهما يتمنعان عن قبول ضيافته إذ قالا : ( لا ، بل في السّاحة نبيت ) . كانت غايتهما من جوابهما غاية مزدوجة - اختبار إخلاص لوط ، والظهور بمظهر الجاهلين لصفات أهل سدوم ، كأنهما يظنان أنهما سيأمنان على نفسيهما لو باتا في الساحة ، ولكن جوابهما زاد من عزم لوط على ألا يتركهما تحت رحمة السوقة والرعاع ، فألح عليهما جدا حتى خضعا وسارا إلى بيته .AA 133.3

    كان يرجو أن يخفي قصده عن الناس المتسكعين عند باب المدينة بالمجيء بضيفيه إلى بيته من طريق دائري ، ولكن ترددهما وتأخرهما وإلحاحه وإصراره ، كل ذلك اجتذب انتباه الناس ، فقبلما اضطجعا للمبيت عنده اجتمع جمهور من المتمردين والعصاة حول البيت ، كانوا جمهورا غفيرا من الشباب والشيوخ مدفوعين بأحط الانفعالات ، كان الغريبان يسألان عن أخلاق سكان المدينة ، فحذرهما لوط من تعريض نفسيهما للخطر بالخروج من بيته في تلك الليلة ، وإذا بهم يسمعون أولئك الرعاع يصيحون صيحات السخرية والاستهزاء ، وسمعهم لوط يأمرونه بإخراج ذينك الرجلين إليهم .AA 134.1

    عرف لوط أنه لو لجأ إلى العنف لتمكن أولئك الناس بسهولة من أن يدخلوا بيته عنوة ، لذلك خرج إليهم محاولا التأثير فيهم بقوة الإقناع ، فقال لهم : ( لا تفعلوا شرّا يا إخوتي ) وقد خاطبهم بقوله ( يا إخوتي (على أنهم جيرانه مؤملا تهدئتهم حتى يخجلوا من نياتهم الشريرة الخبيثة ، ولكن كلامه زاد النار اشتعالا ، فصار اهتياجهم مثل زئير العاصفة ، وسخروا من لوط لكونه جعل نفسه قاضيا عليهم ، وهددوه بأن يسيئوا إليه أكثر مما إلى ضيفيه ، وهجموا عليه ، وكادوا يمزقونه إربا لو لم ينقذه ملاكا الرب من أيديهم ، ذلك أن الرسولين السماويين مدا أيديهما ( وأدخلا لوطا إليهما إلى البيت ) ثم أن الحوادث التي جرت بعد ذلك كشفت للوط عن حقيقة الرجلين اللذين أضافهما ، إذ يقول الكتاب : ( وأمّا الرّجال الّذين على باب البيت فضرباهم بالعمى ، من الصّغير إلى الكبير ، فعجزوا عن أن يجدوا الباب ) . إن أولئك الرجال لو لم يكونوا قد ضربوا بالعمى المزدوج إذ أسلموا إلى قساوة القلب لجعلتهم ضربة الله لهم يخافون ويقلعون عن عملهم الشرير . إن خطاياهم في تلك الليلة الأخيرة لم تكن أعظم ولا أفظع مما ارتكبوه قبلا ، ولكن الرحمة التي استخفوا بها واحتقروها طويلا كفت أخيرا عن توسلاتها . إن سكان سدوم كانوا قد تجاوزوا حدود صبر الله وطول أناته - ( الحد المخفي بين صبر الله وغضبه ) وأن نيران انتقامه كانت مزمعة أن تشتعل في عمق السديم .AA 134.2

    أفضى الملاكان إلى لوط بالغرض من إرسال الله إياهما إلى المدينة قائلين : ( أنّنا مهلكان هذا المكان ، إذ قد عظم صراخهم أمام الرب ، فأرسلنا الله لنهلكه ) . إن ذينك الغريبين اللذين سعى لوط إلى حمايتهما يعدانه الآن بالحماية وبإنقاذ كل أفراد عائلته الذين يرغبون في الهروب من تلك المدينة الشريرة . كان الرعاع قد تعبوا باطلا من البحث عن الباب فانصرفوا ، فخرج لوط لينذر ذويه ، وقد أخبرهم بنفس كلام الملاكين إذ قال : ( قوموا اخرجوا من هذا المكان ، لأنّ الرب مهلك المدينة ) ، فكان كمازح في أعين أصهاره فضحكوا من أقواله قائلين إنها مخاوف خرافية ، وقد تأثرت بناته بأزواجهن . كانوا جميعا مستريحين وموفقين حيث كانوا ، لم يكونوا يرون أي دليل على وجود خطر ، فكل شيء كان باقيا كما كان قبلا ، وكانت لهم أملاك واسعة ، ولم يكونوا يصدقون أن مدينة سدوم الجميلة يمكن أن تهلك .AA 135.1

    عاد لوط إلى البيت حزينا وأخبر الملاكين بفشله ، فأمراه أن يأخذ امرأته وابنتيه الموجودتين في البيت ويخرج من المدينة ، إلا أن لوطا توانى ، فمع أنه كان يتعذب يوما فيوما من مشاهدته للأفعال الأثيمة إلا أنه لم يكن يدرك الإثم المشين الرجس الذي كان يرتكب في تلك المدينة الشريرة إدراكا تاما ، لم يكن متحققا من تلك الضرورة المروعة لقضاء الله للحد من الخطية . لقد تعلقت بعض بناته بسدوم ، كما رفضت زوجته الرحيل بدونهن . وإن فكرة كونه ملتزما بأن يترك أولئك الذين كانوا أعز لديه من كل ما على الأرض كانت فوق طور احتماله ، كما كان من الصعب عليه أن يترك بيته الفخم الجميل وكل ثروته التي كان قد جمعها بتعبه مدى الحياة ويخرج هائما على وجهه لا يملك شيئا ، فإذ أذهله الحزن وهول الموقف توانى وهو غير راغب في الرحيل ، ولولا وجود ملاكي الرب لكانوا كلهم قد هلكوا في وسط ذلك الانقلاب ، فأمسك الملاكان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه وأخرجاهم خارج المدينة AA 135.2

    هنا تركاهم الملاكان وعادا إلى سدوم ليتمما عملية تدمير المدينة ، وإن واحدا آخر - وهو ذاك الذي كان إبراهيم قد توسل إليه لأجل سدوم ، اقترب من لوط ، ففي كل مدن السهل لم يكن يوجد عشرة أبرار ، ولكن استجابة لصلاة إبراهيم الشيخ الجليل اختطف الرجل البار الوحيد من وسط الهلاك ، وصدر إليه الأمر بقوة مفزعة قائلا : ( اهرب لحياتك . لا تنظر إلى ورائك ، ولا تقف في كلّ الدّائرة . اهرب إلى الجبل لئلاّ تهلك ) . لقد بدا التأخير والتردد مهلكين الآن ، فإن إلقائهم نظرة متلكئة أخيرة على المدينة الملعونة ، وتأخرهم لحظة واحدة ليبدوا أسفهم على ترك بيتهم الجميل جدا يكلفانهم حياتهم . إن عاصفة غضب الله كانت تنتظر فقط خروج أولئك الهاربين المساكين من المدينة .AA 135.3

    إلا أن لوطا الذي كان مرتبكا ومرتعبا توسل قائلا إنه لا يستطيع تنفيذ ما طلب منه لئلا يدركه الشر فيموت ، إنه إذ كان عائشا في تلك المدينة الشريرة حيث لم يكن هنالك إيمان ضعف إيمانه ، لقد كان ملك السماء واقفا إلى جواره ، ومع ذلك توسل في طلب الإبقاء على حياته كأن الله الذي أظهر له كل هذه الرعاية وهذه المحبة لن يحفظه بعد ذلك . كان ينبغي له أن يثق برسول السماء ثقة كاملة مستودعا إرادته وحياته بين يدي الرب بدون شك أو تردد ، ولكنه ، ككثيرين غيره ، أراد أن يرسم خطته لنفسه إذ قال : ( هوذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها وهي صغيرة . أهرب إلى هناك . أليست هي صغيرة ؟ فتحيا نفسي ) . إن المدينة المذكورة هنا هي بالع التي دعيت بعد ذلك صوغر ، وكانت تبعد عن سدوم مسافة أميال قليلة ، وكانت مثلها فاسدة ومحكوما عليها بالهلاك ، ولكن لوطا طلب الإبقاء عليها وقال إن هذا طلب صغير ، فأجيب إلى طلبه ، وأكد له الرب ذلك بقوله : ( إنّي قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضا ، أن لا أقلب المدينة الّتي تكلّمت عنها ( فما أعظم رحمة الرب بخلائقه الخاطئة ! AA 136.1

    ثم صدر إليه الأمر مرة أخرى بالإسراع ، لأن عاصفة النار لم يبق على هبوبها غير القليل جدا ، ولكن واحدة من أولئك الهاربين تجرأت ونظرت إلى الخلف ، إلى المدينة المحكوم عليها بالهلاك فصارت تمثالا لدينونة الله ، فلو أن لوطا نفسه لم يتردد في إطاعة أمر الملاكين بل هرب راضيا إلى الجبال بدون التّفوّه بأي كلمة أو معارضة ، لكانت امرأته قد نجت هي الأخرى ، لقد كان يمكنه بتأثيره ومثاله أن ينقذها من الخطية التي ختمت على هلاكها ، ولكن تردده وتلكؤه جعلاها تستخف بإنذار الرب ، ففيما كانت بجسمها في السهل كان قلبها متعلقا بسدوم فهلكت معها ، لقد تمردت على الله لأن حكمه بإهلاك المدينة شمل كل أملاكها وحتى بناتها ، ومع كون الرب قد أحسن إليها إحسانا عظيما بإخراجها من تلك المدينة الشريرة فقد أحست بأنها قد عوملت معاملة قاسية ، لأن الثروة التي قد تعبوا في جمعها سنين طويلة لا بد أن تترك للهلاك ، فبدلا من قبول النجاة بشكر نظرت بكل جرأة إلى الوراء لتشتهي حياة أولئك الذين رفضوا إنذار الله ، وبرهنت خطيتها على أنها لا تستحق الحياة التي لم تشعر إلا بقليل من الشكر على حفظه إياها .AA 136.2

    ينبغي لنا أن نحترس من الاستخفاف بما قد أعده الله بجوده لخلاصنا ، من المسيحيين من يقول : ( أنا لا أكترث لخلاصي ما لم يخلص أولادي وزوجتي معي ) ، إنهم يحسون أن السماء لن تكون سماء في نظرهم ما لم يكن معهم الذين يحبونهم جدا ، ولكن هل هؤلاء الذين قد نشأ في قلوبهم هذا الشعور يدركون علاقتهم بالله على حقيقتها في نور صلاحه العظيم ورحمته نحوهم ؟ وهل نسوا أنهم مرتبطون به بأوثق ربط المحبة والكرامة والولاء وملتزمون بأن يخدموا خالقهم وفاديهم ؟ إن دعوات الرحمة مقدمة للجميع ، ولكن هل لكون أصدقائنا يرفضون محبة المخلص وتوسلاته نرتد نحن مثلهم ؟ إن فدية النفس كريمة ، فلقد دفع المسيح ثمنا هائلا وفادحا لفدائنا ، وكل من يقدر قيمة هذه الذبيحة العظيمة أو قيمة النفس الغالية لا يمكن أن يرفض رحمة الله المقدمة له لأن قوما آخرين يرفضونها ، إن نفس حقيقة كون الآخرين يتجاهلون مطاليب الله العادلة ينبغي أن تحفزنا على زيادة الاجتهاد في إكرامنا لله بأنفسنا ، وإرشاد كل من يمكننا التأثير فيهم لقبول محبته .AA 138.1

    ( وإذ أشرقت الشّمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر ) وبدا كأن أشعة الشمس الجميلة تبشر بالسلام والنجاح لسكان مدن السهل ، وبدأت حركة الحياة ناشطة في الشوارع ، وكان الناس يغدون ويروحون وهم منصبّون على أعمالهم أو مسراتهم في ذلك اليوم ، وقد كان أصهار لوط يتندّرون ويتفكهون على المخاوف والإنذارات التي كانوا يسمعونها من ذلك الشيخ الخرف (لوط) ، ولكن فجأة وعلى غير انتظار كما لو كان من قصف الرعود من سماء صافية هبت العاصفة ، فلقد أمطر الرب كبريتا ونارا من السماء على المدن وعلى ذلك السهل الخصيب ، فالقصور والهياكل والمساكن الفخمة الغالية القيمة والحدائق والكروم كلها ذهبت وقودا للنار ، كما هلك ذلك الجمهور المرح الباحث عن اللذة والسرور ، أولئك الذين أهانوا رسل السماء في الليلة الماضية . وصعد دخان ذلك الحريق الهائل إلى عنان السماء كما لو كان دخان آتون عظيم ، وصار ذلك الوادي الجميل ، وادي السديم خرابا يبابا لا يمكن أن يبنى أو يسكن - شاهدا لكل الأجيال على يقينية دينونة الله لكل عصيان .AA 138.2

    إن تلك النيران التي التهمت مدن السهل قد أرسلت نور الإنذار إلى يومنا هذا ، فلقد تعلمنا ذلك الدرس المخيف الخطير وهو أنه مع كون رحمة الله تحتمل العصاة طويلا فهناك حد لا يمكن الناس أن يتعدوه ممعنين في خطاياهم ، فمتى وصل الإنسان إلى ذلك الحد فكل هبات الرحمة تُسحب ، وينصب على الخطاة قضاء الدينونة .AA 138.3

    إن فادي العالم يعلن أنه توجد خطايا أعظم من تلك التي بسببها هلكت سدوم وعمورة ، فأولئك الذين يسمعون دعوات الإنجيل طالبة من الخطاة أن يتوبوا ولا يكترثون لها هم أثقل جرما ، في نظر الله ، ممن كانوا يسكنون في عمق السديم . وهنالك خطية أعظم من ذلك كله ، وهي خطية الذين يعترفون بأنهم يعرفون الله ويحفظون وصاياه ومع ذلك ينكرون المسيح في أخلاقهم وفي حياتهم اليومية ، ففي نور إنذارات المخلص نجد في مصير سدوم وعمورة تحذيرا خطرا ، ليس فقط لمرتكبي الخطايا المتفشية بل أيضا للذين ترسل إليهم السماء نورها وأفضالها .AA 139.1

    قال الشاهد الأمين لكنيسة أفسس : ( لكن عندي عليك : أنّك تركت محبّتك الأولى . فاذكر من أين سقطت وتب ، واعمل الأعمال الأولى ، وإلاّ فإنّي آتيك عن قريبٍ وأزحزح منارتك من مكانها ، إن لم تتب ) (رؤيا 2 : 4 ، 5 ) . إن المخلص ينتظر منا استجابة لهبات محبته وغفرانه بحنان ورقة أكثر مما يحرك قلب أب بشري ليغفر لابنه العاصي الذي يتألم . إنه ينادي الضالين قائلا : ( ارجعوا إليّ أرجع إليكم ) (ملاخي 3 : 7 ) . ولكن إذا أصر الخاطئ على عدم الاكتراث للصوت الذي يدعوه بالمحبة الرقيقة المشفقة فسيترك أخيرا في الظلام ، إن القلب الذي يحتقر رحمة الله طويلا يتقسى بالخطية ويفقد الشعور بتأثر نعمة الله ، وكم ستكون تلك الدينونة مخيفة للإنسان الذي سيعلن المخلص عنه في النهاية قائلا : إنه ( موثق بالأصنام . اتركوه ) (هوشع 4 : 17) وفي يوم الدين ستكون حالة مدن السهل أكثر احتمالا من حالة أولئك الذين بعدما عرفوا محبة المسيح ارتدوا لأنهم اختاروا مسرات عالم الإثم .AA 139.2

    أنتم يا من تحتقرون هبات الرحمة ، تأملوا في عدد الخطايا المتراكم ضدكم في أسفار السماء ، لأن هناك سجلا سُطرت فيه آثام الأمم والعائلات والأفراد . قد يصبر الله طويلا فيما الأسفار تكتب ، وقد يقدم للناس دعوات التوبة وهبات الغفران ، ومع ذلك يأتي يوم فيه تكمل أدلة الإدانة ، حين يقرر الإنسان مصيره ، والإنسان باختياره يحكم على نفسه ، وحينئذ تعطى الإشارة لتنفيذ حكم الدينونة .AA 139.3

    إن حالة العالم المتدين اليوم تدعو إلى الخوف ، فلقد ازدرى الناس رحمة الله ، جموع الناس يبطلون شريعة الرب ( يعلّمون تعاليم هي وصايا النّاس ) (متى 15 : 9) لقد تفشى الإلحاد في كثير من الكنائس في بلادنا ، ليس الإلحاد في أوسع معانيه - أي المجاهرة بإنكار الكتاب المقدس - بل هو الإلحاد المتسربل برداء المسيحية ، في حين أنه يقوّض أركان الإيمان بالكتاب على أنه إعلان من الله . لقد حلت الشكليات الجوفاء محل العبادة الحارة لله ، والتقوى الحيوية ، ونتج عن ذلك انتشار الارتداد والشهوانية . قال المسيح : ( كما كان في أيّام لوطٍ ... هكذا يكون في اليوم الّذي فيه يظهر ابن الإنسان ) (لوقا 17 : 28 ، 30) إن تاريخ الأحداث الجارية كل يوم يشهد لصدق كلام الرب . لقد صار العالم ناضجا للهلاك ، وبعد قليل ستنصبّ عليه الضربات ، وسيهلك الخطاة في خطاياهم .AA 140.1

    قال مخلصنا : ( فاحترزوا لأنفسكم لئلاّ تثقل قلوبكم في خمارٍ وسكرٍ وهموم الحياة ، فيصادفكم ذلك اليوم بغتة . لأنّه كالفخّ يأتي على جميع الجالسين على وجه كلّ الأرض (جميع الذين ركزوا كل اهتمامهم في هذا العالم( . اسهروا إذا وتضرّعوا في كلّ حينٍ ، لكي تحسبوا أهلا للنّجاة من جميع هذا المزمع أن يكون ، وتقفوا قدّام ابن الإنسان ) (لوقا 21 : 34 - 36) .AA 140.2

    قبلما أخرب الله سدوم أرسل إلى لوط رسالة تقول : ( اهرب لحياتك . لا تنظر إلى ورائك ، ولا تقف في كلّ الدّائرة . اهرب إلى الجبل لئلاّ تهلك ) (تكوين 19 : 17) ولقد سمع نفس هذا الإنذار من فم المسيح قبل خراب أورشليم حيث يقول السيد : ( ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوشٍ ، فحينئذٍ اعلموا أنّه قد اقترب خرابها . حينئذٍ ليهرب الّذين في اليهوديّة إلى الجبال ) (لوقا 21 : 20 ، 21) يجب ألا يتأخروا لكي يستخلصوا أي شيء من أملاكهم ، بل عليهم أن ينتهزوا الفرصة للهروب .AA 140.3

    لقد كان هنالك خروج أي انفصال جازم عن الأشرار ، وهروب للحياة ، كذلك كانت الحال في أيام نوح وفي أيام لوط ، وكذلك كانت الحال مع التلاميذ قبل خراب أورشليم ، وكذلك ستكون الحال في الأيام الأخيرة . ثم إن صوت الله يسمع ثانية في رسالة إنذار بها يأمر شعبه أن ينفصلوا ويبتعدوا عن الإثم المستشري في العالم .AA 140.4

    إن حالة الارتداد والفساد التي ستكون في العالم المتدين في الأيام الأخيرة كشفت ليوحنا الرائي في رؤيا بابل ( المدينة العظيمة الّتي لها ملك على ملوك الأرض ) (رؤيا 17 : 18) . فقبل خرابها سيسمع صوت من السماء يقول : ( اخرجوا منها يا شعبي لئلاّ تشتركوا في خطاياها ، ولئلاّ تأخذوا من ضرباتها ) (رؤيا 18 : 4) . وكما كان في أيام نوح ولوط ينبغي أن يكون هنالك انفصال ملحوظ عن الخطية والخطاة ، لا يمكن أن يكون صلح أو وفاق بين الله والعالم ، ولا رجوع لأخذ شيء من كنوز الأرض ، ( لا تقدرون أن تخدموا الله والمال ) (متى 6 : 24) .AA 140.5

    وكما كانت الحال مع الناس الساكنين في عمق السديم كذلك الناس اليوم يحلمون بالنجاح والسلام ، ولكن إنذار الملاكين يقول : ( اهرب لحياتك ) غير أن هنالك أصواتا أخرى تقول : لا تهتاجوا إذ لا داعي للتوجس أو الخوف ، وجموع الناس يصرخون قائلين : ( سلام وأمان ) بينما السماء تعلن أن هلاكا سريعا مزمع أن يفاجئ العصاة . كانت مدن السهل في الليلة السابقة للانقلاب تضج وتعربد وهي تمرح في ملذاتها وطربها ، وكان الناس يهزأون بالخوف وبإنذارات رسول الله ، ولكن أولئك الآخرين هلكوا في اللهيب ، وفي نفس تلك الليلة أغلق باب الرحمة في وجوه سكان سدوم المهملين الأشرار . إن الله لا يمكن أن يشمخ عليه دائما ، ولا يمكن الاستخفاف به طويلا : ( هوذا يوم الرب قادم ، قاسيا بسخطٍ وحموّ غضبٍ ، ليجعل الأرض خرابا ويبيد منها خطاتها ) (اشعياء 13 : 9) . إن غالبية الناس في العالم سيرفضون رحمة الله وسيبغتهم هلاك سريع لا يمكن الشفاء منه ، ولكن الذين يلتفتون إلى الإنذار سيسكنون ( في ستر العليّ ، في ظلّ القدير ) يبيتون (مزمور 91 : 1) . وسيكون حقه ترسهم ومجنهم ، وهذا هو وعد الله لهم : ( من طول الأيّام أشبعه ، وأريه خلاصي ) (مزمور 91 : 4 ، 16) .AA 141.1

    لم يلبث لوط في صوغر طويلا فلقد انتشر الإثم فيها كما كان في سدوم ، ولذلك خاف من البقاء فيها لئلا تخرب هي أيضا ، وبعد ذلك بقليل أحرقت صوغر كما قصد الله ، فانطلق لوط بعد ذلك إلى الجبال وسكن في مغارة ، متجردا من كل ما قد خاطر في سبيله بتعريض عائلته لتأثير مدينة شريرة ، ولكن لعنة سدوم تعقبته حتى إلى ذلك المكان ، فإن تصرف ابنتيه المعيب الشرير كان نتيجة للمعاشرات الرديئة في ذلك المكان الدنس . إن فساد ذلك المكان صار محبوكا وممتزجا بأخلاق ابنتيه بحيث لم تستطيعا التمييز بين الخير والشر . إن نسل لوط فقط ، أي المؤابيين والعمونيين كانوا عشائر وثنية سافلة ، ومتمردين على الله ومن ألد أعداء شعبه .AA 141.2

    كم كان البون شاسعا بين حياة إبراهيم وحياه لوط ! كانا قبلا رفيقين متلازمين يتعبدان أمام مذبح واحد ويسكنان في الخيام جنبا إلى جنب ، ولكن ما أعظم شقة البعد بينهما الآن ! لقد اختار لوط سدوم بسبب مسراتها ووفرة أرباحها ، وإذ ترك مذبح إبراهيم وذبيحته اليومية التي كانت تقدم لله الحي سمح لبناته بالزواج من رجال أشرار والاندماج بين شعب وثني فاسد ، ومع ذلك فقد احتفظ في قلبه بمخافة الله ، لأن الكتاب يعلن عنه أنه كان رجلا بارا إذ كانت نفسه التقية تتعذب بالأحاديث البذيئة التي كانت تصك سمعه كل يوم ، وبالظلم والجرائم التي كان عاجزا عن صد تيارها ، لكنه خلص أخيرا مثل ( شعلة منتشلة من النّار ) (زكريا 3 : 2) ومع ذلك فقد جرد من كل أملاكه ونكب في زوجته وبناته ، وكان يسكن في المغاير كالوحوش ، وجلله العار في شيخوخته ، وقدم للعالم لا شعبا من الناس الأبرار بل أمتين وثنيتين تضمران العداء لله وتحاربان شعبه ، حتى بعدما فاض مكيال إثمهما حكم عليهما بالهلاك . ما كان أرهب النتائج التي نجمت عن خطوة واحدة طائشة !AA 142.1

    يقول الحكيم : ( لا تتعب لكي تصير غنيّا . كفّ عن فطنتك ) (أمثال 23 : 4) كما يقول أيضا : ( المولع بالكسب يكدّر بيته ، والكاره الهدايا يعيش ) (أمثال 15 : 27) ويقول بولس الرسول : ( وأمّا الّذين يريدون أن يكونوا أغنياء ، فيسقطون في تجربةٍ وفخٍّ وشهواتٍ كثيرةٍ غبيّةٍ ومضرّةٍ ، تغرّق النّاس في العطب والهلاك ) (1 تيموثاوس 6 : 9) .AA 142.2

    إن لوطا حين دخل سدوم عزم عزما أكيدا على أن يحفظ نفسه بعيدا عن الإثم وأن يجعل أفراد بيته يتمثلون به ، غير أنه فشل فشلا ذريعا ، فالمؤثرات الفاسدة المحيطة به أثرت في إيمانه هو ، واختلاط بناته بسكان سدوم ربط مصالحه بمصالحهم إلى حد ما ، وها نحن قد رأينا النتيجة .AA 142.3

    كثيرون يرتكبون الغلطة نفسها ، فحين يختارون بيتا للسكنى فأعظم اهتمامهم يتجه إلى المزايا المادية التي يجنونها أكثر من الاهتمام بالمؤثرات الأدبية والاجتماعية التي تحيط بهم وبعائلاتهم ، يختارون بلادا خصبة وجميلة أو مدينة زاهرة ، على أمل الحصول على نجاح أعظم ، ولكن التجارب تكتنف أولادهم ، وفي أغلب الأحيان يكوّنون صداقات مع بعض الأصحاب لا تساعدهم على النمو في التقوى وتكوين الخلق السليم . إن الجو الذي تعيش فيه الآداب السائبة المتساهلة ، وعدم الإيمان وعدم الاكتراث للأمور الدينية يعمل على إبطال تأثير الآباء ، وحينئذ يكون أمام الشباب أمثلة التمرد على سلطة الآباء وسلطان الله ، وهي ماثلة أمامهم في حياة عشرائهم . وكثيرون يرتبطون بربط المحبة مع الملحدين وغير المؤمنين ، ويلقون قرعتهم مع أعداء الله .AA 142.4

    في اختيار البيت يريدنا الله أن نضع نصب عيوننا المؤثرات الأخلاقية والدينية التي تحيط بنا وبعائلاتنا ، فقد نوجد في مركز شاق ومتعب ، لأن كثيرين لا يجدون المحيط الذي يعيشون فيه كما يشاءون . إن أي مكان تدعونا إليه واجباتنا وأعمالنا يستطيع الله أن يجعلنا نقف فيه طاهرين وبلا عيب إذا كنا نسهر ونصلي واثقين بنعمة المسيح . ولكن يجب ألا نعرّض أنفسنا ، دون ما داع ، للمؤثرات التي لا تساعد على تكوين الخلق المسيحي ، فحين نضع أنفسنا ، بمحض اختيارنا ، في جو من المادية وعدم الإيمان فإننا نسخط الله علينا ونطرد الملائكة القديسين بعيدا عن بيوتنا .AA 143.1

    إن الذين يدخرون لأولادهم الثروة الزمنية والمجد والكرامة على حساب صالحهم الأبدي سيجدون في النهاية أن هذه المزايا خسارة فادحة . كثيرون ، كلوط ، يرون أولادهم وقد فسدت أخلاقهم وبالجهد يخلصون أنفسهم ، إنهم يخسرون عمل حياتهم وتمسي حياتهم فشلا محزنا . ولو كانت عندهم الحكمة الحقيقية ، لكانوا يرضون لأولادهم بقليل من النجاح العالمي ليتحققوا من حصولهم على نصيب في الميراث الأبدي .AA 143.2

    إن الميراث الذي قد وعد به الرب شعبه ليس في هذا العالم ، فإبراهيم لم يكن له في الأرض ميراث ( ولا وطأة قدمٍ ) (أعمال 7 : 5) كانت عنده ثروة عظيمة ولكنه استخدمها فيما يؤول إلى مجد الله وخير إخوته البشر ، ولكنه لم يكن يعتبر هذا العالم وطنا له . لقد دعاه الرب لأن يترك بني وطنه عبدة الأوثان ، واعدا إياه أن يعطيه أرض كنعان ملكا أبديا ، ولكن لا هو ولا ابنه ولا ابن ابنه امتلكوها ، وحين طلب إبراهيم مكانا يدفن فيه ميته كان عليه أن يبتاعه من الكنعانيين ، فكل ما كان يمتلكه في أرض الموعد كان هو تلك المقبرة المحفورة في الصخر في مغارة المكفيلة .AA 143.3

    ولكن كلمة الله لم تسقط ولا تمّت نهائيا في احتلال الشعب اليهودي لأرض كنعان ، ( وأمّا المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله ) (غلاطية 3 : 16) وكان على إبراهيم نفسه أن يقاسم الميراث ، قد يبدو كأن الله قد تأخر كثيرا في إتمام وعده ، ( يوما واحدا عند الرب كألف سنةٍ ... وألف سنةٍ كيومٍ واحدٍ ) (2 بطرس 3 : 8) قد يبدو أنها تتأخر ، ولكنها في الوقت المحدد ( إتيانا ولا تتأخّر ) (حبقوق 2 : 3) إن الهبة المقدمة لإبراهيم ونسله لم تقتصر على أرض كنعان وحدها ولكنها شملت الأرض كلها ، وهكذا يقول الرسول : ( فإنّه ليس بالنّاموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثا للعالم ، بل ببرّ الإيمان ) (الرومية 4 : 13) والكتاب المقدس يعلمنا صريحا أن المواعيد المقدمة لإبراهيم تتم في المسيح . فكل الذين هم للمسيح هم ( حسب الموعد ورثة ) - ورثة ( لميراثٍ لا يفنى ولا يتدنّس ولا يضمحلّ ) (غلاطية 3 : 29 ، 1 بطرس 1 : 4) إذ تتحرر الأرض من لعنة الخطية لأن ( المملكة والسّلطان وعظمة المملكة تحت كلّ السّماء تعطى لشعب قدّيسي العليّ ) ( أمّا الودعاء فيرثون الأرض ، ويتلذّذون في كثرة السّلامة ) (دانيال 7 : 27 ، مزمور 37 : 11) .AA 143.4

    وقد أعطى الله إبراهيم مشهدا عن هذا الميراث الأبدي ، واكتفى بهذا الرجاء . ( بالإيمان تغرّب في أرض الموعد كأنّها غريبة ، ساكنا في خيامٍ مع إسحاق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه . لأنّه كان ينتظر المدينة الّتي لها الأساسات ، الّتي صانعها وبارئها الله ) (عبرانيين 11 : 9 ، 10) .AA 144.1

    وقد قيل عن نسل إبراهيم : ( في الإيمان مات هؤلاء أجمعون ، وهم لم ينالوا المواعيد ، بل من بعيدٍ نظروها وصدّقوها وحيّوها ، وأقرّوا بأنّهم غرباء ونزلاء على الأرض ) (عبرانيين 11 : 13) . ينبغي لنا أن نعيش كغرباء ونزلاء إذا كنا نبتغي ( وطنا أفضل ، أي سماويّا ) (عبرانيين 11 : 16) فالذين هم أولاد إبراهيم ينبغي لهم أن ينتظروا المدينة التي كان ينتظرها هو ( الّتي صانعها وبارئها الله ) (عبرانيين 11 : 10) .AA 144.2

    * * * * *

    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents