Loading...
Larger font
Smaller font
Copy
Print
Contents
الاباء والانبياء - Contents
  • Results
  • Related
  • Featured
No results found for: "".
  • Weighted Relevancy
  • Content Sequence
  • Relevancy
  • Earliest First
  • Latest First
    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents

    الفصل الاول—كيف دخلت الخطية

    «الله محبة» (1 يوحنا 4:16)، طبيعته وشريعته هي المحبة . كانت كذلك دائما ، وستظل كذلك أبدا ، فإن « العلي المرتفع، ساكن الابد » الذي «مسالك الأزل له» «ليس عنه تغيير ولا ظل دوران (إشعياء 57:15 حبقوق 3:6 ، يعقوب 1: 17).AA 13.1

    كل مظهر من مظاهر قدرته الخالقة هو تعبير عن محبته غير المحدودة ، وسلطانه في ملكوته يشمل ملء البركة لجميع خلائقه . يقول المرنم :« لك ذراع القدرة . قوية يدك. مرتفعة يمينك . العدل والحق قاعدة كرسيك . الرحمة والأمانة تتقدمان أمام وجهك . طوبى للشعب العارفين الهتاف . يارب ، بنور وجهك يسلكون . باسمك يبتهجون اليوم كله ، وبعدلك يرتفعون ، لانك انت فخر قوتهم ... لأن الرب مجننا ، وقدوس إسرائيل ملكنا». (مزمور 89: 13 -18)AA 13.2

    إن تاريخ الصراع الهائل بين الخير والشر منذ وقت ظهوره في السماء إلى أن يخمد كل عصيان وتستأصل شأفة الخطية نهائيا هو إعلان أيضا لمحبة الله الثابتة على الزمن.AA 13.3

    إن سيد الكون لم ينفرد بعمله الخير ، فلقد كان معه في العمل الأقنوم الثاني الذي قدر أهدافه ، وشاركه في فرحه بإسعاد خلاقئه ، « في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ، هذا كان في البدء عند الله . (يوحنا 1: 1، 2). فالمسيح الكلمة وابن الله الوحيد كان والآب السرمدي واحدا — في الطبيعة والصفات والقصد ، وكان هو الكائن الوحيد الذي استطاع أن يطلع على كل مشورات الله ومقاصده ، « ويدعى اسمه عجيبا مشيرا ، إلها قديرا ، أبا أبديا ، رئيس السلام » (أشعياء 9 : 6). «ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل » (ميخا 5 : 2). وقد أعلن ابن الله عن نفسه ما جاء في أمثال 8 : 22 - 30 «الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله ، منذ القدم . منذ الأول مُسحت .. لما رسم أسس الأرض ، كنت عنده صانعا ، وكنت كل يوم لذته ، فرحة دائما قدامه». (أمثال 8 : 22-30).AA 13.4

    لقد عمل الأب بواسطة ابنه في خلق كل الخلائق السماوية، ) فإنه فيه خلق الكل .. سواء كان عروشا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق ( (كولوسي 1: 16). إن الملائكة هم خدام الله ، وهم متألقون بالضياء الذي يشع عليهم من حضوره ، ويطيرون بسرعة عظيمة لتنفيذ إرادته . ولكن الابن الممسوح من الله الذي هو « رسم جوهره » «وبهاء مجده» «و حامل كل الأشياء بكلمة قدرته»هو أرفع وأسمى منهم جميعا (عبرانيين ١ : ٣). وموضع قدسه « كرسي مجد مرتفع من الابتداء »(إرميا 17 : 12) ، قضيب استقامة قضيب ملكه (عبرانيين ١ : ٨) . الرحمة والأمانة تتقدمان أمام وجهه (مزمور 89 : 14) .AA 14.1

    وبما أن شريعة المحبة هي أساس حكم الله ، فسعادة كل الخلائق العاقلة تتوقف على التوافق الكامل بين إرادتهم ومبادئ برها العظيمة . والله يطلب من خلائقه خدمة المحبة النباعة من تقديرهم لصفاته . إنه لا يسر بالطاعة التي يُكره عليها الناس ، بل يقدم للجميع إرادة حرة حتى يقدموا له خدمة تطوعية.AA 14.2

    لقد كان هنالك انسجام تام في كل المسكونة طول ما اعترفت كل الخلائق بولاء المحبة لله ، وكانت مسرة الجند السماويين أن يتمموا قصد خالقهم ، وابتهجوا بأن يعكسوا بهاء مجده ويسبحوا بحمده. وفيما كانت محبتهم لله تستحوذ على قلوبهم كانت محبتهم بعضهم لبعض أمرا يقينيا ، ولا أثر فيها للأنانية ، ولم يكن هنالك أي نشاز في تسبيحات السماويين. ولكن تغييرا محزنا طرأ على تلك السعادة ، فقد وجد من أساء استعمال الحرية التي منحها الله لخلائقه ، إذ بدأت الخطية بالذي إذ لم يفقه سوى المسيح خالقه حصل على أعظم كرامة من الله ، وكان أسمى سكان السماء في القوة والمجد . إن لوسيفر ، «زهرة بنت الصبح » كان الأول بين الكروبيم المظللين ، مقدسا وبلا دنس . لقد وقف في حضرة الخالق العظيم ، وكانت أشعة المجد الدائمة التي تغمر الله السرمدي مستقرة عليه. « هكذا قال السيد الرب : أنت خاتم الكمال ، ملآن حكمة وكامل الجمال . كنت في عدن جنة الله. كل حجر كريم ستارتك .. أنت الكروب المنبسط المظلل ، وأقمتك . على جبل الله المقدس كنت . بين حجارة النمار تمشيت . أنت كامل في طرقك من يوم خلقت حتى وجد فيك إثم » (حزقيال 28 : 12 — 15 ).AA 14.3

    رويدا رويدا تملكت لوسيفر الرغبة في أن يكون عظيما . والكتاب يقول « قد ارتفع قلبك لبهجتك. أفسد حكمتك لأجل بهائك» (حزيقال 28 : 17) « وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السماوات . أرفع كرسيي فوق كواكب الله.. أصير مثل العلي »(إشعياء 14 : 13 ،14 ) . ومع أن كل مجد هذا الملاك القوي كان مستمدا من الله فإنه بدا يعتبر هذا المجد خاصا بذاته . وإذ لم يقنع بمركزه، مع كونه قد أكرم فوق كل أجناد السماء فقد تجاسر فاشتهى أن يقدم له السجود والولاء اللذان لايحقا لغير الخالق وحده. وبدلا من أن يسعى لوسيفر لجعل الله أسمى كائن في عواطف كل الخلائق وولائها فقد حاول الظفر بخدمتهم وولائهم له هو ، بل كان يطمع في الحصول على المجد الذي قد أعطاه الآب السرمدي لابنه ، فقد اشتاق رئيس الملائكة هذا إلى الحصول على السلطان الذي هو من حق المسيح وحده .AA 16.1

    وهنا ظهرت ثغرة في الوفاق الذي كان يسود السماء، فإن ميل لوسيفر إلى خدمة نفسه بدل خدمته لخالقه أشاع الشعور بالخوف بين الذي يعتبرون أن مجد الله ينبغي ألا يدانيه مجد. وفي محفل السماويين توسل الملائكة إلى لوسيفر ، واستعرض ابن الله أمامه عظمة الخالق وصلاحه وعدله وطبيعة شريعته المقدسة التي لا تتغير . إن الله نفسه هو الذي رسم نظام السماء وأقره ، فإذا خرج لوسيفر على ذلك النظام فهو يهين خالقه ويجلب الدمار على نفسه . ولكن ذلك الإنذار المقدم إليه في رحمة ومحبة لا متناهية أثار فيه روح المقاومة ، فلقد جعل لوسيفر حسده للمسيح يتحكم فيه ، وبذلك أمعن في عناده.AA 16.2

    صار هدف رئيس الملائكة هذا أن ينازع ابن الله السيادة ، وهكذا طعن في حكمة الخالق ومحبته. وفي ذلك الاتجاه كاد أن يحوّل قوى ونشاط ذلك الحقل الجبار الذي إذ لم يفقه سوى فكر المسيح الخالق كان هو الأول بين جنود الله . ولكن ذاك الذي يريد أن يكون كل خلائقه أحرارا في إرادتهم لم يترك أحدا غير مصون من السفسطة المربكة التي أراد العاصي أن يبرر بها نفسه . وقبلما انكشف النزاع العظيم كان لا بد في الذي كانت حكمته وصلاحه نبع كل أفراح أولئك السماويين أن يظهر إرادته ومقاصده أمامهم بكل وضوح . AA 16.3

    استدعى ملك الكون جند السماء للمثول أمامه حتى يبسط أمامهم حقيقة مركز ابنه ، وبيبين علاقته بكل الخلائق . فلقد شارك االابن الآب في عرشه، وكان مجد الله السرمدي يحيط بكليهما . فاجتمع حول العرش الملائكة القديسون ، جمع كثير لا يحصى عديدهم ، وهم « ربوات ربوات وألوف ألوف » (رؤيا 5 : 11 ) الملائكة المبجلون جدا كخدام ورعايا ، الفرحون بالنور الذي يشع عليهم من حضرة الله ، فأعلن الملك أمام سكان السماء المحتشدين لديه أنه ليس لأي غير المسيح ابن الله الوحيد أن يطلع على مقاصده ، وله أعطي أن ينفذ مشورات إرادته القوية . إن ابن الله قد عمل إرادة الآب في خلقه كل جند السماء ، وله ، كما لله ، يليق بهم أن يقدموا ولاءهم وسجودهم . وقد كان المسيح سيستخدم قوته الإلهية في خلق الأرض وسكانها ، ولكن في كل هذا لن يطلب لنفسه سلطانا أو مجدا يتعارض مع تدبير الله ، بل كان يعظم مجد الآب وينفذ مقاصد رحمته .AA 16.4

    اعترف الملائكة بكل سرور بسمو المسيح وعظمته ، وإذ انطرحوا أمامه سكبوا في حضرته محبتهم وعبادتهم . وقد انحنى لوسيفر معهم ، ولكن صراعا غريبا عنيفا كان يعتمل في نفسه ، لقد كان الحق والعدل والولاء في صراع مع الحسد والغيرة . وبدا كأن تأثير الملائكة القديسين فيه جعله يقف إلى جانبهم إلى حين . وما أن ارتفعت أغاني الحمد في لحن عذب شجي من آلاف الأفواه حتى ظهر أن روح الشر فيه قد انهزم ، واهتز كيانه كله بمحبة لا ينطق بها ، وخضعت نفسه وانسجمت مع أولئك الساجدين الأبرار في محبة خاشعة للآب والابن ، إلا أن كبرياءه عاودته ، فجعل يفخر بمجده ، وعاد اليه الحنين إلى التعالي والرفعة ، وامتلأ قلبه حسدا للمسيح . والكرامات العظيمة التي أغدقت عليه لم يقدرها على أنها هبة الله الخاصة له ، ولذلك لم يشكر الخالق عليها . لقد افتخر ببهائه وعظمته وسعى في أن يكون معادلا لله . كان محبوبا ومكرما من الجند السماويين، وقد سر الملائكة بتنفيذ أوامره ، كما كان مسربلا بحكمة ومجد أكثر من جميعهم . ومع ذلك فإن ابن الله كان أسمى وأفضل منه كمن له القوة والسلطان مع الآب . لقد اشترك الابن مع الآب في كل مشوراته ، بينما لم يطلع لوسيفر على مقاصد الله ، فسأل ذلك الملاك القوي قائلا : « لماذا يتفوق المسيح علي ولماذا ينال كرامة أعظم مني ؟».AA 17.1

    وإذ ترك لوسيفر مكانه في محضر الآب المباشر خرج لينشر روح التذمر بين الملائكة ، وأخذ يقوم بهذا العمل بتكتم عجيب، مخفيا ، إلى حين ، حقيقة غرضه تحت قناع التوقير لله ، وبدأ يوعز إلى غيره بالشكوك فيما يختص بالشرائع المفروضة على الخلائق السماوية ، قائلا إنه مع كون الشرائع لازمة لسكان العوالم ، إلا أن الملائكة ، لكونهم أرفع مقاما من باقي الخلائق ، فلا حاجة بهم إلى وازع أو رادع ، لأن حكمتهم هي خير مرشد لهم ، وليسوا هم من الخلائق التي تفكر في إهانة الله ، فكل أفكارهم مقدسة . وكما يستحيل على الله أن يخطئ يستحيل عليهم أيضا ذلك . وصور المركز الرفيع الذي يحتله ابن الله الذي كان معادلا للآب على أنه ظلم وإجحاف وقع على لوسيفر الذي ادعى أنه هو أيضا أهل للتوقير والإكرام، وأن رئيس الملائكة هذا لو تبوأ مكانته الرفيعة التي يستحقها لكان يفيض الخير العظيم على كل جند السماء ، لأنه ينوي أن يمنح الحرية للجميع ، أما الآن فحتى الحرية التي يتمتعون بها قد انتهى زمانها ، لأن حاكما مطلقا قد عين عليهم ، وينبغي للجميع ان يقدموا لجلاله الولاء والسجود . مثل تلك المغالطات والمخادعات الخبيثة انتشرت بين جماهير السماويين بفعل مكايد لوسيفر .AA 17.2

    لم يحدث أي تغيير في مركز المسيح أو سلطانه ، أما حسد لوسيفر وتمويهه ، وادعاؤه بأنه معادل للمسيح فقد جعلت من الضروري تبيان المركز الحقيقي لابن الله ، ولكن الحال هكذا كانت منذ البدء، وانخدع كثيرون من الملائكة بمخاتلاته .AA 18.1

    إذ أراد لوسيفر أن يستغل ثقة الخلائق المقدسة التي تحت سلطانه وولائها ومحبتها له فإنه ، بمهارة ، رسخ في أذهانهم الشك والتبرم بأنه مقامه هو لم يفطن له ، وعرض مقصاد الله في نور كاذب ، إذ جعل الملائكة يسيؤون فهمها لأنه شوهها بحيث تثير الشقاق والسخط. وبدهائه المعهود ساق سامعيه إلى التصريح بمشاعرهم ، ثم جعل يردد أقوالهم تلك كلما رأى أن ذلك يخدم غرضه ، دليلا على أن الملائكة ليسوا على انسجام تام مع حكم الله . وإذ كان يدعي أنه يكن الولاء التام لله جعل يطالب بإلحاح بوجوب تبديل النظم والشرائع السماوية لضمان استقرار حكم الله . وهكذا ، فبينما كان يعمل على إثارة المقاومة لشريعة الله وترسيخ التبرم في عقول الملائكة الذي تحت إمرته كان يتظاهر بمحاولة إزالة السخط ، والتوفيق بين رغبات الملائكة الساخطين وانظمة السماء . ففيما كان يثير النزاع والتمرد سرا فبدهائه الذي لا يبارى كان يتظاهر بأن غرضه الأوحد هو نشر الولاء وحفظ الانسجام والسلام .AA 18.2

    واذ اشتعلت روح السخط هكذا ، كانت تعمل عملها المدمر المهلك . ولئن لم تكن هنالك ثورة علنية فقد انتشر الانقسام في المشاعر بشكل غير ظاهر بين الملائكة ، فمنهم من نظر الى الدسائس التي كان ينشرها لوسيفر ضد حكم الله بعين الرضى . ومع انهم كانوا إلى ذلك الحين في حالة انسجام كامل مع النظام الذي رسمه الله بدا عليهم الآن السخط والإحساس بالتعاسة لسبب عدم استطاعتهم الاطلاع على مشوراته التي لا تفحص . وكانوا ساخطين بسبب قصده في تمجيد المسيح ، ووقف هؤلاء الى جانب لوسيفر في المطالبة بمنحه سلطانا مساويا لسلطان المسيح ، ولكن الملائكة المخلصين الأمناء تمسكوا بحكمة الله وعدالة حكمه ، وحاولو إخضاع هذا المخلوق الساخط لإرادة الله . لقد كان المسيح ابنا لله ، وكان واحدا معه قبل خلق الملائكة ، وكان أبدا يقف عن يمين الآب ، وإن تفوقه وسموه الذي فيه ملء البركة لكل من احتموا تحت ظل حكمه لم يكن إلى ذلك الحين موضع شك أو جدال ، ولم يسبق أن تشوش الانسجام والمحبة والسلام في السماء ، فمن أين يجيئ الانقسام الآن ؟ وقد كان الملائكة الأمناء لا يرون إلا النتائج المرعبة الرهيبة لتلك الفتنة ، فبكل غيرة وتوسل جعلوا يتشاورون مع أولئك الساخطين المنشقين وينصحونهم أن ينفضوا أيديهم من مقاصدهم ويبرهنوا على إخلاصهم لله وخضوعهم لحكمه .AA 18.3

    إن الله ، في رحمته العظيمة كما هو المعهود في صفاته الإلهية ، صبر على لوسيفر طويلا . لم يكن للسماء ، من قبل ، عهد بهذه الروح ، روح التذمر والنفور التي ظهرت كعنصر جديد غريب وغامض لا يمكن تعليله . ولم يكن لوسيفر نفسه عالما في البداءة بطبيعة مشاعره الحقيقية ، ولبعض الوقت كان يخشى التعبير عن التخيلات التي كانت تعتمل في ذهنه ، ومع ذلك فهو لم يطردها . لم يكن يرى في أي اتجاه كان التيار يجرفه ، ولكن بعض المساعي مما يمكن أن تبتكرها الحكمة والمحبة غير المحدودة بذلت لإقناعه بخطئه ، ولقد تبرهن أن نفوره كان بلا سبب ، والتزم لوسيفر أن يرى ما ينجم عن الإصرار على العصيان ، واقتنع بأنه كان مخطئا ، ورأى أن « الرب بار في كل طرقه ، ورحيم في كل أعماله » (مزمور 145: 17). وأن شرائع الله عادلة ، وينبغي له أن يعترف بأنها كذلك أمام كل السماء . فلو أنه فعل ذلك لأمكنه أن ينجي نفسه وكثيرين من الملائكة . لم يكن إلى ذلك الحين قد طرح عنه الولاء لله نهائيا ، ومع أنه كان قد ترك مركزه كالكروب المظلل فإنه لو كان راغبا في الرجوع إلى الله ، معترفا بحكمة الخالق ، واكتفى بأن يشغل المكان المعين له في تبدير الله العظيم لكان أعيد تثبيته في وظيفته. وحان الوقت للبث النهائي في الأمر ، فإما أن يسلم تسليما كاملا للسلطان الإلهي أو يجاهر بالعصيان . وكاد يقرر الرجوع لولا أن كبرياءه صدمته ومنعته من ذلك . لقد كان تضحية هائلى لمن حصل على تلك الكرامة العظيمة أن يعترف بأنه كان مخطئا ، وبأن تخيلاته كانت كاذبة ، وأن يخضع للسلطان الذي حاول أن يبرهن عدم نزاهته وعدم عدالته .AA 19.1

    إن الخالق الرحيم ، في إشفاقه العظيم على لوسيفر وتابعيه ، كان يعمل جاهدا للحيلولة دون ترديهم في هوة الهلاك التي أوشكوا على التردي فيها ، ولكنهم أساءوا تفسير تلك الرحمة . فلقد أشار لوسيفر إلى إمهال الله وطول أناته كبرهان على سموه هو ودلالة على أن ملك الكون سيذعن لشروطه ، كما أعلن لأولئك الملائكة أنهم إذا ثبتوا إلى جانبه فلا بد أن يحصلوا على مأربهم . فبكل إصرار دافع عن مسلكه وهكذا ألقى بنفسه في غمار تلك الحرب مع خالقه ، فكان أن لوسيفر « حامل النور » والمغمور بمجد الله والملازم لعرشه أصبح ، بعصيانه ، شيطانا أو «خصما » — خصم الله والخلائق المقدسة ومهلك أولئك الذين أناطت السماء به أمر قيادتهم وحراستهم .AA 20.1

    إذ رفض بكل ازدراء حجج الملائكة الأمناء وتوسلاتهم اتهمهم بأنهم عبيد مخدوعون ، كما أعلن أن الأفضلية التي للمسيح هي عمل من أعمال الظلم الواقع عليه هو وعلى كل الجند السماويين ، وأعلن أنه لن يسمح فيما بعد بهذا التعدي على حقوقه وحقوهم ، ولن يعترف بعد ذلك بتفوق المسيح وسموه . وعقد العزم على أن يطالب بالكرامة التي كان ينبغي أن تعطى له ، وأن يكون قائدا لكل من يرغبون في الانضواء تحت لوائه واعدا اياهم بحكم جديد أفضل يتمتع فيه الجميع بالحرية . وقد قبل عدد كبير من الملائكة أن يتخذوه قائدا لهم . وإذ انخدع بقبولهم هذا لكل اجراءاته كان يرجوا أن يكسب كل الملائكة الى جانبه ، وأن يكون هو معادلا لله نفسه ، وأن يطيعه كل جند السماء .AA 20.2

    واصل الملائكة الأمناء حثه هو ومريديه على الخضوع لله ، وصورو لهم النتيجة المحتومة إذا رفضوا . فذاك الذي خلقهم يستطيع أن يقهرهم ويفني قوتهم ويعاقب جرأتهم وتمردهم على مرأى من الجميع . إنه لم يوجد ملاك واحد أفلح في مقاومة شريعة الله التي هي مقدسة كذاته . وقد أنذروهم جميعا ان يصموا آذاهم عن الاستماع لحجج لوسيفر الخادعة ، وألحوا عليهم وعليهم أن يمثلوا أمام الله بلا إبطاء ، معترفين بخطئهم إذ شكوا في حكمته وعدالة سلطانه .AA 20.3

    حبذ كثيرون منهم العمل بهذه المشورة ، والتوبة عن هذا الجفاء ، والسعي في الظفر برضى الله وابنه ، إلا أن لوسيفر كان قد أعد لهم خدعة جديدة ، فلقد أعلن ذلك الثائر القوي أن الملائكة الذين انضووا تحت لوائه كانو قد تورطوا وذهبوا شوطا بعيدا بحيث يصعب رجوعهم ، وأنه خبير بشريعة الله، وأن الله لن يغفر لهم . كما أعلن أن الخاضعين لسلطان السماء سيجردون جمعهم من كرامتهم وينحطون عن مقامهم. أما عن نفسه فقد عقد العزم على ألا يعترف بسيادة المسيح فيما بعد ، وقال أن الطريق الوحيد الذي يجب أن يسير هو وأتباعه فيه هو المحافظة على حريتهم والحصول ، بالقوة ، على حقوقهم التي لم توهب لهم عن رضى .AA 21.1

    وفيما يختص بالشيطان نفسه فقد كان صحيحا أن اشتط في عصيانه بحيث لم يعد يمكنه الرجوع ، أما بالنسبة إلى أولئك الذين أعمتهم أكاذبيه فلم يكن الأمر كذلك ، إذ قد فتحت أمامهم مشورة الملائكة الأمناء وتوسلاتهم بابا للرجاء ، فلو أنهم أصغوا إلى هذا الإنذار لأمكنهم الإفلات من شرك الشيطان ، ولكن كبريائهم وحبهم لقائدهم ورغبتهم في الحرية الغير المشروطة ، كل ذلك تغلب عليهم ، فرفضوا ، رفضا باتا ، كل توسلات المحبة والرحمة الإلهية .AA 21.2

    لقد سمح الله للشيطان أن ينفذأ إلى أن أثمر روح الجفاء ثمرته وهي العصيان الفعلي ، فكان ضروريا أن تتقدم خططه وتنمو وتنضح حتى يرى الجميع طبيعتها واتجاهها . إن لوسيفر الكروب الممسوح كان قد رفع إلى مرتبه عالية ، وكان السماويون يكنون له أعمق الحب ، وكان له عليهم نفوذ عظيم ، هذا ، وإن حكم الله لم يشمل سكان السماء وحدهم ، بل شمل أيضاً كل سكان العوالم الأخرى التي خلقها . واستنتج لوسيفر أنه لو استطاع ملائكة السماء الاشتراك معه في العصيان فسيكون قادرا على تأليب سكان العوالم الأخرى كلها ضد الله . لقد أخبرهم عن وجهة نظره في المشكلة بكل دهاء ، مستخدما السفسطة والخديعة لضمان تحقيق أغراضه ، وكانت له قوة هائلة على تضليل أتباعه . وإذ اتشح برداء الكذب حصل على ميزة . وكان في كل أعماله يتوخى السرية والغموض بحيث أمسى من العسير عليه أن يكشف للملائكة عن حقيقة عمله . وإلى ان اكتمل ذلك العمل لم يكن يُرى شره وخطورته ، ولم يكن يرى جفاؤه على أنه عصيان . وحتى الملائكة الأمناء لم يكونوا يدركون صفات لوسيفر إدراكا كاملا ، ولا رأوا إلى أي النتائج كان سيؤدي عمله .AA 21.3

    في البداءة كان لوسيفر قد أعد تجاربه بحيث بدا كأنه بريء لم يرتكب إثما ، واتهم الملائكة الذين أخفق في استمالتهم إلى جانبه ، بعدم المبالاة بمصالح الخلائق السماوية ، واتهم الملائكة الأمناء بارتكاب العمل نفسه الذي كان هو يباشره ، وكانت سياسته أن يبلبل العقول بحججه الماكرة عن مقاصد الله وأحاط بالغموض كل شيء بسيط ، وبانحرافه الماكر عن جادة الصواب ألقى ظلال الشك على أبسط أقوال الرب ، ثم أن مركزه الرفيع وصلته الوثيقة بحكم الله أكسبا تمثيلاته قوة أعظم .AA 22.1

    استخدم الله الوسائل التي تتفق والحق والبر دون سواها ، أما الشيطان فكان يستطيع استخدام ما لم يكن الله يستطيع استخدامه — كالتملق والخداع . لقد حاول أن يزيف كلمة الله وشوه قصده في حكمه ، مدعيا أن الله لم يكن عادلا في فرض شريعته على الملائكة وفي فرض الخضوع والطاعة له على خلائقه ، وأنه كان في ذلك يطلب تعظيم نفسه ، لذلك كان من اللازم إقامة الدليل أمام كل سكان السماء وكل سكان العوالم الأخرى على كون حكم الله حكما عادلا ، وشريعته كاملة . وادعى الشيطان أنه هو نفسه يعمل على ترقية مصالح الكون وما يؤول إلى خيره ، ولكن لابد أن يدرك الجميع صفات هذا المغتصب على حقيقتها ، ولا بد من أن تعطى له مهلة ليظهر على حقيقته بأعماله الشريرة . AA 22.2

    إن ذلك النزاع الذي حدث في السماء بسبب المسلك الذي سلكه الشيطان ، أنحى الشيطان باللائمة فيه على حكم الله ، كما أعلن أن كل الشر ناشئ عن سياسة الله ، وادعى أن غرضه هو إدخال التحسين على شرائع الرب ، ولذلك سمح له الله أن يبين طبيعة ادعاءاته ليرى تنفيذ تغييراته المقترحة في الشريعة الالهية ، ولا بد أن عمله يدينه . لقد ادعى الشيطان أولا أنه لم يكن متمردا . ولا بد أن يرى الكون كله ذلك المحتال على حقيقته وقد سقط عنه القناع .AA 22.3

    وحتى بعد ما طرح الشيطان من السماء فإن الحكمة الإلهية غير المحدودة لم تسمح بهلاكه . وحيث أن خدمة المحبة وحدها هي التي يمكن أن يقبلها الله فإن ولاء خلائقه له ينبغي أن يبنى على الاقتناع بعدله وإحسانه . وأن ساكني السماء والكون ، إذ لم يكونوا مهيئين لإدراك طبيعة الخطية أو نتائجها ، لم يكن يمكنهم أن يروا عدالة الله في إهلاك الشيطان ، فلو أبيد من الوجود فجأة لكان بعض الخلائق يعبدون الله مدفعوعين بدافع الرهبة والخوف لا بدافع المحبة ، وما كان ممكنا ملاشاة تأثير ذلك المخادع تماما ، ولا كان من الممكن استئصال شأفة روح التمرد . فلأجل خير المسكونة كلها مدى أجيال التاريخ المتعاقبة لا بد له أن يترك ليكشف تماما عن مقاصده حتى تظهر اتهاماته التي يوجهها إلى حكم الله على حقيقتها أمام عيون كل خلائقه ، ولكي يرتفع عدل الله ورحمته ، ولأجل ثبات شريعته فوق كل الشبهات والشكوك .AA 22.4

    صار تمرد الشيطان درسا وعبرة للكون مدة الدهور االلاحقة - شهادة دائمة على طبيعة الخطية ونتائجها المرعبة . وأن توطيد حكم الشيطان وتأثيره في الناس والملائكة يرينا ثمار طرحنا جانبا حكم الله عنا ، وذلك يشهد بأن وجود حكم الله مرتبط بخير الخلائق التي خلقها . وهكذا نرى أن تاريخ تجربة ذلك العصيان الرهيب كان الحصن الدائم لحماية كل الخلائق المقدسة ، حتى لا ينخدعوا فيما يختص بطبيعة التحدي ، ولحفظهم من ارتكاب الخطية ومكابدة قصاصها .AA 23.1

    ان الذي يحكم في السموات هو الذي يرى النهاية من البداية — الذي كل أسرار الماضي والمستقبل مكشوفة أمامه ، والذي يرى ، خلف الويل والظلام والخراب الذي أحدثته الخطية ، إتمام مقاصده التي هي مقاصد المحبة والبركة . ومع أن« السحاب والضباب حوله» فإن « العدل والحق قاعدة كرسيه » (مزمور 97 : 2). وهذا ما سيفهمه يوما ما سكان هذا الكون الأمناء منهم وغير الأمناء . « هو الكامل صنيعه ، إن جميع سبله عدل . إله أمانه لا جور فيه . صديق وعادل هو » (تثنية 32: 4).AA 23.2

    * * * * *

    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents